التعصب القبلي والرياضي

سليمان بن خالد الحربي
1441/04/01 - 2019/11/28 12:01PM

الخطبة الأولى:

إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستَعينُه ونستغفِرُه، ونَعوذُ باللهِ مِنْ شُرور أنفسِنا وسيِّئَاتِ أعمالِنا، مَنْ يهدِه اللهُ فَلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضلِلْ فلا هادِيَ لهُ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ، وأشهدُ أنَّ مُحمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، ومَنْ سارَ على نهجِه، واقْتَفى أثَرَهُ إِلَى يومِ الدِّينِ، وسلَّم تسلِيمًا كثيرًا.

أَمَّا بعْدُ:

فاتقوا الله -أيها المسلمون- حق تقاته، {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: ١٠٢].

مَعْشَر الإِخْوَةِ: روى الشيخان من حديث جابر بْنَ عَبْدِ اللهِ -رضي الله عنهما- يَقُولُ: كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فِى غَزَاةٍ فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ، (أي ضربه ورفسه برجله من قفاه)، فَقَالَ الأَنْصَارِىُّ: يَا لَلأَنْصَارِ، وَقَالَ الْمُهَاجِرِىُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: «مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ: «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ»([1]).

قال القرطبي: «منتنة: أي: مستخبثة، قبيحة؛ لأنَّها تثير الغَضب على غير الحق، والتقاتُل على الباطل، ثم إنها تجرُّ إلى النار، كما قال: «مَنْ دَعَا بِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ فَلَيْسَ مِنَّا، وَلْيَتَبَوَّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»»([2]).

إنَّ مِن أوَّل القضايا العظيمةِ فِي شِيَم أهل الإسلام وخُلُقِهم وأُصولِهم في عقائِدهم هو الْمُولَاةُ على البِرِّ والتَّقوى للمسلمين، ونبذُ كلِّ دعْوَى غيرِها، يَنْصُر لأجلِها، ويُقاتِل عليْها، ويَكْرَه ويُحِبُّ لأجلِها، فلا نُصْرَةَ ولا مقاتلةَ ولا بغضاءَ لأجل قبيلةٍ، أو عائلَةٍ، أو حِزْبٍ، أو جماعةٍ، أو فريقٍ رياضِيٍّ، ونحوِ ذلك، وكلُّها دعَاوَى جاهليَّةٌ مُنْتِنَةٌ، ويلٌ ثُم ويْلٌ لمن تلبَّس بها.

روى النسائيُّ وصحَّحه ابْنُ حِبَّانَ عن الحارثِ الأشعريِّ -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ مِنْ جُثَاءِ جَهَنَّمَ» -أي من مجموع أهل جهنم- قال رجلٌ: يا رسول الله وإِنْ صَام وصلَى؟ قال: «نَعم، وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ فَادْعُوا الْمُسْلِمِينَ بِأَسْمَائِهِمْ بِمَا سَمَّاهُمُ الله الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ الله»([3]).

فال القرطبي: «وقد أبدل الله مِن دعْوى الجاهليةِ دعْوَى المسلمين، فيُنادَى: يا للمسلمين»([4]).

فإذا دعا بها المسلمُ وجَبَتْ إِجابَتُه، والكشْفُ عن أمرِه على كلِّ مَن سمِعَه ، فإنْ ظَهر أنَّه مظلُومٌ نُصِر بكلِّ وجهٍ ممْكِنٍ شرعًا؛ لأنه إنَّما دعا للمسلمين لِيَنْصُروه على الحقِّ، وإن كان ظالـمًا كُفَّ عن الظلم بالملاطفَةِ والرِّفق، فإنْ نفع ذلك، وإلا أُخِذ على يدِه، وكُفَّ عن ظلمه.

فإنَّ «النَّاس إذا رَأَوْا الظَّالم، فلم يأخذوا على يديهِ: أوشك أن يعُمَّهم اللهُ بعقابٍ من عنده، ثُم يدْعُونه فلا يُستجاب لهم»([5]).

لقد كان الناسُ في عهدِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- يتعصَّبُون لقبائِلهم وأنسابِهم، بل ويصِلُ الأمرُ إلى القتال، فعالج الإسلامُ هذه الظاهرةَ بطرُقٍ كثيرةٍ لانتشالِها من المسلمين، فأصَّل لهم العلاقةَ الحقيقيَّةَ للمسلِمين، وأنهم كالجَسَدِ الواحِدِ، وأنَّه «لا فضْلَ لعربِيٍّ على أعجميٍّ»([6])، وأنَّ النُّصْرَة تكونُ للمظلوم كائنًا مَن كان، وعلَى الظَّالِم من أي قبيلةٍ هو، وليس النُّصرة للعَصَبة وهي الأقاربُ والقبيلةُ، وسَمَّاها الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- «عصبية».

فقد روى مسلمٌ في صحيحِه من حديث عن أبي هُريْرَةَ -رضي الله عنه- عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «مَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمِّيَّةٍ، يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ، أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً فَقُتِلَ، فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ»([7])، العصبيةُ هو الذي يغضب لعَصَبَتِه، ويُحامِي عنهم.

والعصبة الأقاربُ، ولهذا رَوى أبو داود من حديث عن بنت واثلة بن الأسقع، أنها سمعت أباها يقول: قلت: يا رسول الله ما العصبية؟ قال: «أَنْ تُعِينَ قَوْمَكَ عَلَى الظُّلْمِ»([8]).

فإضافتُه إلى الجاهليةِ، وإضافُة الموت كذلِك إِليه، يدُلُّ على الذمِّ والحُرْمةِ، وأنَّه مِن كبائر الذُّنوبِ الْعِظامِ، قال ابن تيمية: «فقد دلَّتْ هذه الأحاديثُ على أن إضافةَ الأمْرِ إلى الجاهليَّةِ يقتضي ذمَّه، والنهيَ عنه، وذلك يقتضي المنعَ مِن كلِّ أمور الجاهلية مطلقًا، ومثل هذا ما رَوى سعيدُ بْنُ أبي سعيدٍ، عن أبيه، عن أبي هُريْرَةَ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله قد أذهب عنكم عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بالآباء، مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ، أنتم بنو آدم، وآدم من تراب، لَيَدَعَنَّ رجالٌ فخرهم بأقوامٍ إنما هم فحمٌ من فحمِ جهنم، أو لَيَكُونُنَّ أهونَ على الله مِن الْجِعْلَانِ التي تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتْنَ»([9])، رواه أبو داود وغيره، وهو صحيح.

فإذا كان هذا التَّداعي في الأسماءِ، وفي هذا الانْتساب الذي يحبُّه اللهُ ورسولُه، فكيف بالتعصُّب مطلقًا والتَّداعي للنسب والإضافات التي هي إما مُباحةٌ أو مكروهةٌ، وذلك أن الانتساب إلى الاسم الشرعي أحسنُ من الانتساب إلى غيره»([10]).

وقال الشافعي: «مَنْ أَظْهَرَ الْعَصَبِيَّةَ بِالْكَلامِ، وَتَأَلَّفَ عَلَيْهَا، وَدَعَا إِلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يُشْهِرُ نَفْسَهُ بِقِتَالٍ فِيهَا فَهُوَ مَرْدُودُ الشَّهَادَةِ، لأَنَّهُ أَتَى مُحَرَّمًا، لَا اخْتِلافَ فِيهِ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ فِيمَا عَلِمْتُهُ»([11]).

وقد جمع الله الناس بالإسلامِ، ونَسَبهم إليه؛ فهو أشرف أنسابهم، فإنْ أحب امرؤٌ فليحب عليه، وإن خصَّ امرؤٌ بالمحبة مَا لم يحمل على غيرِهم ما ليس يحِلُّ له، فهذه صلة ليست بمعصية.

وقد قال ابن مسعود -رضي الله عنه- كما عند أبي داود: «مَنْ نَصَرَ قَوْمَهُ عَلَى غَيْرِ الْحَقِّ فَهُوَ كَالْبَعِيرِ الَّذِى رُدِّيَ فَهُوَ يُنْزَعُ بِذَنَبِهِ»([12]).

قال الخطابي: «معناه أنه قد وقع في الإثم، وهلك كالبعير إذا تردَّى في بئرِ فصار ينزع بذَنَبِه، ولا يقدر على الخلاص»([13]).

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 55، 56].

بَاركَ اللهُ لي ولَكُم في القرآنِ العظيم، ونفعَني وإيَّاكم بما فيه من الآياتِ والذِّكر الحكيم، أقولُ ما سمِعْتُم، وأَستغفِرُ اللهَ العظيمَ لي ولَكُم ولِسائر المسلمين مِن كُلِّ ذنبٍ وخطيئةٍ، فاسْتغفِرُوه وتُوبوا إليْهِ؛ إنَّه هو الغفور الرَّحيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشُّكر له على توفيقِه وامتنانِه، وأشهَدُ ألا إله إلا اللهُ؛ تعظيمًا لشانِه، وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه الدَّاعي إلى جنَّته ورِضوانِه، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِه وأصحابِه وأعوانه، أَمَّا بعْدُ:

مَعْشَر الإِخْوَةِ: إذا كانت هذه النصوصُ في تجريم وتحريم العصبيةِ للقبيلةِ الَّتي إليها تنتسبُ، ولدِيتِها تحمل، ولصِلَتِها حقٌّ، فكيف بالتعصُّب المقيت الذي يتجاوَزُ الحدودَ والقيمَ في الرياضةِ، والَّذي لا يرضاه عاقلٌ، نسمع كثيرًا أنه يحدثُ بسبب المباريات الرياضية شجَارٌ وسباب ، ولعن وشتم عند المتعصبين ، وبغض لإخوانهم المسلمين بسبب انتمائهم ، ولا يجوز بغض المؤمنين ورسولنا صلى الله عليه وسلم أمر بالتحابب والتواد ونهى عن التدابر والتقاطع ، بل جعل السباب فسوقا ، وكبيرة من كبائر الذنوب .

والحقيقةَ المرَّةَ هي هذا الشعورُ القلبِيُّ للانتماء، وهذه القوَّةُ في الحبِّ الذي غلبت قوةَ أُخُوَّةِ الدِّين وهزَمَتْها، إنها شُعورٌ قلبِيٌّ دفع المشاهِدَ السباب واللعان ، أيُّ شُعورٍ هذا؟ وأيُّ انتماءٍ هذا؟ كَيف سيْطَر هذا التعصُّب على هذا المشجع والمشاهد ؟ تعصُّبٌ جرَّ الناس إلى ظُلْمِ النَّاسِ، وجرّهم إلى الوقوع في الأعراضِ، وانْتِهاكِ الحُرُماتِ، والحبِّ بسببه، والْبُغض لأجلِه.

إن القضيةَ ليست في متابعَةِ الرِّياضةِ، أو عدَمِها، بلِ القضيَّةُ الَّتي على عقلائِنا، وعَلى الترْبَوِيِّين بخاصةٍ أن يعْتَنُوا بها هي التعصُّب الرياضيُّ، كيف يُسيْطر المتابعُ على مشاعرِه؟ وكيف يتغلَّبُ على نَزَغَاتِ الشيطانِ والهوى؟

لِنُناقِشِ القضيَّةَ مع أبنائِنا؛ لِنُحاوِرْهُم عن معنى الهزيمةِ في الرياضةِ، ومعنى الانتصارِ، وبحمدِ الله فإنَّ النماذِجَ التي حكَّمَتْ عقْلَها ونظرَها هي الغالبةُ والطاغِيَةُ، ولكنَّ النارَ تبدأُ من مُسْتَصْغَرِ الشرَّرِ، فَكَمْ مِن مشجِّعٍ أضر بنفسه ! وكَمْ مِن صحيحٍ مَرِضَ! وكَمْ من صديقَيْن تقاطَعَا! والله المُستعان.

([1]) أخرجه البخاري (4/1861 ، رقم 4622) ، ومسلم (4/1998 ، رقم 2584) .

([2]) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (9/ 326).

([3]) أخرجه أحمد (5/344، رقم 22961)، والنسائي في سننه الكبرى (6/412،رقم 11349).

([4]) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (9/ 326).

([5]) أخرجه أحمد (4/202، رقم 17831)، وأبو داود (4/122، رقم 4338)، والترمذي (5/257، رقم 3057)، وابن ماجه (2/1327، رقم 4005).

([6]) أخرجه أحمد (5/411، رقم 23536) .

([7]) أخرجه مسلم (3/1476، رقم 1848).

([8]) أخرجه أبو داود (4/331 ، رقم 5119) ، وابن ماجه (2/1302 ، رقم 3949) .

([9]) أخرجه أحمد (2/523 ، رقم 10791) ، وأبو داود (4/331 ، رقم 5116) ، والترمذى (5/735 ، رقم 3956) .

([10]) اقتضاء الصراط (ص: 72).

([11]) السنن الصغير للبيهقي (4/ 184).

([12]) أخرجه أبو داود (4/331 ، رقم 5117).

([13]) معالم السنن (4/ 148).

المرفقات

القبلي-والرياضي

القبلي-والرياضي

المشاهدات 1367 | التعليقات 0