التعذيب.. سلوك إنساني
الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْخَلَّاقِ الْعَلِيمِ؛ خَلَقَ الْبَشَرَ مِنْ طِينٍ، وَسَوَّاهُمْ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدَّهُمْ أَسْفَلَ سَافِلِينَ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنْهُمْ إِلَّا أَهْلَ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ، نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ أَرْسَلَ الرُّسُلَ، وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ، وَشَرَّعَ الشَّرَائِعَ؛ لِيُعْبَدَ وَحْدَهُ دُونَ سِوَاهُ؛ وَلِتُهَذِّبَ كُتُبُهُ وَشَرَائِعُهُ سُلُوكَ الْإِنْسَانِ، فَتَنْقُلَهُ مِنْ دَرَكِ الْحَيَوَانِيَّةِ إِلَى مَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ جَعَلَهُ اللهُ تَعَالَى لِلنَّاسِ رَحْمَةً، وَبَعَثَهُ بِدِينِ الرَّحْمَةِ، فَدَّلَ عَلَيْهَا، وَدَعَا إِلَيْهَا، وَتَحَمَّلَ الْأَذَى فِيهَا؛ لِيُخَلِّصَ النَّاسَ مِنْ عَذَابِهِمْ، وَيُخَفِّفَ مِنْ إِجْرَامِهِمْ؛ [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] {الأنبياء:107}، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَا بَعْدُ: فَأُوصِي نَفْسِي وَإِيَّاكُمْ بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى، وَالاعْتِصَامِ بِكِتَابِهِ، وَالتَّمَسُّكِ بِدِينِهِ، فَهُوَ الْحَقُّ الْمُنَزَّلُ، وَفِيهِ سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَا سِوَاهُ بَاطِلٌ يَشْقَى بِهِ صَاحِبُهُ؛ [وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى] {طه:124}.
أَيُّهَا النَّاسُ: حِينَ أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى مَلَائِكَتَهُ -عَلَيْهِمُ السَّلَامَ- أَنَّهُ سَيَخْلُقُ بَشَرًا، يَجْعَلُهُمْ خُلَفَاءَ فِي الْأَرْضِ، رَاجَعَهُ الْمَلَائِكَةُ فِي ذَلِكَ وَقَالُوا: [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ] {البقرة:30}، وَالْمَلَائِكَةُ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ، لَا يَتَكَلَّمُونَ بِجَهْلٍ وَلَا بِهَوًى، وَعَلِمُوا ذَلِكَ فِي الْإِنْسَانِ بِمَا عَلَّمَهُمُ اللهُ تَعَالَى، لَكِنَّ عِلْمَ اللهِ تَعَالَى فَوْقَ عِلْمِهِمْ؛ [قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ] {البقرة:30} ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ مَا فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَاسْتَخْلَافِهِ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ وَالْحِكْمَةِ مَا لَا يَعْلَمُهُ الْمَلَائِكَةُ، وَأَنَّ الْخَيْرَ الْقَلِيلَ فِي بَنِي آدَمَ يَفْوقُ مَا فِيهِمْ مِنَ الشَّرِّ الْكَثِيرِ.
ثُمَّ جَاءَ وَصْفُ اللهِ تَعَالَى لِلْإِنْسَانِ عَلَى وَفْقِ مَا ظَنَّ الْمَلَائِكَةُ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- فِيهِ؛ [وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومَا جَهُولًا] {الأحزاب:72} [إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ] {إبراهيم:34} [إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ] {هود:9} [وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا] {الإسراء:100} [إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ] {الزُّخرف:15} [بَلْ يُرِيدُ الإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ] {القيامة:5} [قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ] {عبس:17}، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقِيَمَ الْإِنْسَانِيَّةَ الْمُجَرَّدَةَ عَنْ أَيِّ وَصْفٍ آخَرَ هِيَ قِيَمُ الشَّرِّ وَالْعُلُوِّ وَالْفَسَادِ وَالظُّلْمِ وَالْجَهْلِ، هَذَهِ هِيَ حَقِيقَةُ الْإِنْسَانِ بَلَا دِينٍ يُهَذِّبُهُ، أَوْ قَانُونٍ يَرْدَعُهُ، ثُمَّ دَلَّ التَّارِيخُ الْبَشَرِيُّ مُنْذُ الْقِدَمِ إِلَى عَصْرِنَا الْحَاضِرِ عَلَى هَذِهِ الْحَقِيقَةِ الْقُرْآنِيَّةِ؛ إِذْ إِنَّ مَا فَعَلَهُ الْإِنْسَانُ فِي تَارِيخِهِ الطَّوِيلِ مِنْ قَتْلٍ وَتَعْذِيبٍ لِلْبَشَرِ وَللطَّيْرِ وَلِلْحَيَوَانِ عَلَى جِهَةِ الْعُلُوِّ وَالْإِفْسَادِ -أَضْعَافُ مَا قَتَلَتْهُ السِّبَاعُ وَالْجَوَارِحُ مِنَ الْبَشَرِ وَالْحَيَوَانِ، وَالدَّارِسُونَ لِسُلُوكِ الْحَيَوَانِ يُقَرِّرُونَ أَنَّ الحَيَوَانَ لَا يَقْتُلُ وَلَا يَفْتَرِسُ إِلَّا لِيَشْبَعَ، أَوْ لِيَنْتَقِمَ مِمَّنْ آذَاهُ، وَلَا يُفْسِدُ كَفَسَادِ الْإِنْسَانِ، وَلَا يَتَشَفَّى فِي تَعْذِيبِ ضَحَايَاهُ قَبْلَ قَتْلِهَا، بَلْ يُبَادِرُ بِالْإِجْهَازِ عَلَيْهَا، بِخِلَافِ الْإِنْسَانِ الَّذِي قَدْ يُصَابُ بِمَرَضِ حُبِّ الْقَتْلِ وَالتَّعْذِيبِ وَالدِّمَاءِ، فَلَا يَصْبِرُ عَنْهَا حَتَّى يَرَاهَا، وَلَا يَطْرَبُ إِلَّا عَلَى أَصْوَاتِ الْمُعَذَّبِينَ وَهُمْ يَئِنُّونَ تَحْتَهُ، وَيبَكْوُنَ يُرِيدُونَ الْخَلَاصَ!
هَذَا هُوَ الْإِنْسَانُ بِلاَ دِينٍ وَلَا قَانُونٍ، وَهُوَ مَنْ يَصُوغُ الْقَانُونَ الَّذِي يُبِيحُ لَهُ مَا يَشَاءُ، فَمَا بَقِيَ إِلَّا الدِّينُ فِي قَلْبِهِ، أَوْ بَقَايَا مِنْهُ تَرْدَعُهُ عَنْ غَيِّهِ، هَذَا هُوَ الْإِنْسَانُ لَمْ تَتَغَيَّرْ طِبَاعُهُ رَغْمَ الْحَضَارَةِ الَّتِي شَيَّدَهَا.
وَمَنْ طَالَعَ سِيرَةَ الْبَشَرِ الطَّوِيلَةِ، وَجَدَ أَنَّ تَعْذِيبَ الضَّحَايَا خُلُقٌ إِنْسَانِيٌّ أَبْدَعَ فِيه الْإِنْسَانُ أَيَّمَا إِبْدَاعٍ، وَتَفَنَّنَ فِي اخْتِرَاعِ أَسَالِيبَ جَدِيدَةٍ لَا تَخْطُرُ عَلَى بَالٍ؛ بَلَغَ مِنْ كَثْرَتِهَا أَنْ أُلِّفَتْ فِيهَا كُتُبٌ وَدِرَاسَاتٌ، وَصِيغَتْ مِنْ فَنِّهَا وَغَرَابَتِهَا قِصَصٌ وَرِوَايَاتٌ، بَلْ وَأُنْشِئَتْ مَتَاحِفُ وَمَعَارِضُ لِوَسَائلِ تَعْذِيبِ الْإِنْسَانِ لِلْإِنْسَانِ، تُعْرَضُ فِيهَا أَدَوَاتُ التَّعْذِيبِ الَّتِي كاَنَتْ تُسْتَخُدَمُ، تُزَيِّنُهَا شُرُوحٌ لِكَيْفِيَّةِ التَّعْذِيبِ، وَمَا تُخَلِّفُهُ مِنْ آثَارٍ، بَلْ غَدَا التَّعْذِيبُ فَنًّا مِنَ الْفُنُونِ الْبَشَرِيَّةِ، وَعِلْمًا مِنْ عُلُومِهِمْ، تُبْذَلُ الْأَمْوَالُ الطَّائِلَةُ فِي دِرَاسَتِهِ، وَتُنْشَأُ لَهُ الْأَكَادِيمِيَّاتُ وَالْمَعَاهِدُ، وَتُكْتَبُ فِيهِ الدِّرَاسَاتُ وَالْكُتُبُ.
وَكَانَ مِنْ مَشَاهِيرِ الْمُعَذِّبِينَ فِي التُّرَاثِ الْإِنْسَانِيِّ فِرْعَوْنُ الَّذِي عَذَّبَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَجَعَلَهُمْ سُخْرَةً لَهُ، وَلَهُ أَسَالِيبُ فِي تَعْذِيبِ النَّاسِ مَنْقُولَةٌ فِي التَّارِيخِ الْعِبْرَانِيِّ، وَفِي امْتِنَانِ اللهِ تَعَالَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ سُبْحَانَهُ: [وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ العَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ] {البقرة:49} ، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: [وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ العَذَابِ المُهِينِ * مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ المُسْرِفِينَ] {الدُخان:30-31}.
وَنُقِلَ فِي تُرَاثِ الْحَضَارَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَالدُّوَلِ الْمَتَعَاقِبَةِ: الْيُونَانِيَّةِ وَالرُّومَانِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ وَالْهِنْدِيَّةِ وَالصِّينِيَّةِ وَغَيْرِهَا كَمٌّ هَائِلٌ جِدًّا مِنْ أَخْبَارِ التَّعْذِيبِ، وَسِيَرِ الْمُعَذِّبِينَ، وَقَصَصِ الْمُعَذَّبِينَ، وَرُسُومٍ وَنُحُوتٍ، وَتَصَاوِيرَ لِأَدَوَاتِ التَّعْذِيبِ وَأَشْكَالِهِ، حَتَّى لَيَظُنُّ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى هَذَا التُّرَاثِ الضَّخْمِ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِنَّمَا خُلِقَ لِيُعَذِّبَ الْإِنْسَانَ، وَهَذَا يَدْحَضُ دَعْوَى الْأُخُوَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَالْقِيَمِ الْإِنْسَانِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا بِلَا دِينٍ وَلَا قَانُونٍ، لَيْسَتْ إِلَّا أُخُوَّةَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، وَقِيَمَ الْعُلُوِّ وَالاسْتِكْبَارِ وَالانْتِقَامِ.
وَالْعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ لَمْ يَكُونُوا بِدْعًا مِنْ بَقِيَّةِ الْبَشَرِ، فَكَانُوا عَلَى بَدَائِيَّتِهِمْ فِي الْعُمْرَانِ يَتَفَنَّنُونَ فِي تَعْذِيبِ ضَحَايَاهُمْ، وَكَانُوا يُمَثِّلُونَ بِقَتْلَى الْحُرُوبِ وَأَسْرَاهَا بِتَقْطِيعِ أَجْسَادِهِمْ، وَتَشْوِيهِهَا، يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِالْأَسِيرِ حَتَّى يَمُوتَ!
وَفِي "يَوْمِ الرَّقَمِ" انْهَزَمَ الْحَكَمُ بْنُ الطُّفَيْلِ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَطَعَ الْعَطَشُ أَعْنَاقَهُمْ فَمَاتُوا، وَخَنَقَ الْحَكَمُ بْنُ الطُّفَيْلِ نَفْسَهُ مَخَافَةَ الْمُثْلَةِ، وَاشْتُهِرَ عِنْدَهُمْ جَدْعُ الْأَنْفِ وَالْأُذُنِ وَقَطْعُ الْمَذَاكِيرِ أَوْ شَيْءٍ مِنَ الْأَطْرَافِ! وَيَكْثُرُ فِي تَهْدِيدِ الْعَرَبِ قَوْلُهُمْ: سَأُقَطِّعُكَ إِرْبًا إِرْبًا، وَفِي أَخْبَارِهِمْ: قَطَّعَهُ إِرْبًا إِرْبًا؛ أَيْ: عُضْوًا عُضْوًا.
فَلَمَّا جَاءَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِالْإِسْلَامِ، هَذَّبَ بِهِ أَخْلَاقَهُمْ، وَقَوَّمَ سُلُوكَهُمْ، وَأَزَالَ مِنْ قُلُوبِهِمْ سَوْرَةَ الْغَضَبِ فِي الانْتِقَامِ، وَالتَّعَدِّي فِي الانْتِصَارِ، وَجَعَلَ الْحُدُودَ وَالْعُقُوبَاتِ لِلرَّدْعِ لَا للتَّشَفِّي وَالانْتِقَامِ، وَجَعَلَ الْقِصَاصَ شَفَاءً لِلْقُلُوبِ، وَأَمْنًا لِلْمُجْتَمَعَاتِ، وَنَهَى عَنِ الْمُثْلَةِ بِالْإِنْسَانِ وَبِالْحَيَوَانِ، فَلاَ تَجُوزُ إِلَّا مُقَابَلَةً فِي الْعِقَابِ، فَمَنْ مَثَّلَ بِضَحِيَّتِهِ مُثِّلَ بِهِ فِي الْقِصَاصِ دُونَ تَجَاوزٍ، وَلَمَّا مَثَّلَ الْمُشْرِكُونَ بِحَمْزَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي أُحُدٍ، رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَوَعَّدَهُمْ بِالتَّمْثِيلِ فِي ثَلَاثِينَ مِنْهُمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: [وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ] {النحل:126} ، فَشَرَعَ أَنْ يَكُونَ الْعِقَابُ مِثْلَ الْإِجْرَامِ ولَا يَتَجَاوَزُهُ، وَرَغَّبَ فِي الْعَفْوِ وَالصَّبْرِ، وَجَعَلَهُ خَيْرًا مِنَ التَّشَفِّي وَالانْتِقَامِ؛ [وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ] {الشُّورى:40}.
وَالْقِتَالُ فِي الْمَعَارِكِ يُهَيِّجُ الْجُنْدَ عَلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ، وَالتَّشَفِّي مِنَ الْمَهْزُومِينَ، وَالتَّلَذُّذِ بِتَعْذِيبِهِمْ، وَهُوَ سُلُوكٌ يَعْتَرِي النَّفْسَ البَشَرِيَّةَ فَيُفْقِدُهَا صَوَابَهَا، وَيُظْهِرُهَا عَلَى حَقِيقَتِهَا؛ وَلِذَا كَانَ الإِسْلامُ حَاسِمًا فِي رَدْعِ النَّفْسِ البَشَرِيَّةِ عَنِ الانْتِقَامِ حَتَّى فِي القِتَالِ؛ إِذِ الجِهَادُ ضَرُورَةٌ لِبَسْطِ حُكْمِ الإِسْلامِ فِي النَّاسِ، وَلَيْسَ لِلتَّشَفِّي وَالانْتِقَامِ؛ وَلِذَا لَوْ أَسْلَمَ الأَعْدَاءُ أَوْ خَضَعُوا لِحُكْمِ الإِسْلامِ وَجَبَ الكَفُّ عَنْهُمْ، وَفِي وَصَايَا النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلْجُنْدِ نَهْيٌ عَنِ التَّعْذِيبِ؛ قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:«اغْزُوا ولا تَغُلُّوا، ولا تَغْدِرُوا ولا تُمَثِّلُوا، ولا تَقْتُلُوا وَلِيدًا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَحَتَّى مَمْلُوكُ الإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ مَالٌ، لَيْسَ لَهُ أَنْ يُعَذِّبَهُ بِحُجَّةِ أَنَّهُ يَمْلِكُهُ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:«مَنْ لَطَمَ مَمْلُوكَهُ أو ضَرَبَهُ، فَكَفَّارَتُهُ أَنْ يُعْتِقَهُ»رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالمُعَذِّبُونَ لِلنَّاسِ فِي الدُّنْيَا مُتَوَعَّدُونَ بِالعَذَابِ؛ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:«إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا»رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَكَذَلِكَ الحَيَوَانُ لاَ يَجُوزُ تَعْذِيبُهُ، وَإِنْ كَانَ مُسَخَّرًا لِلْإِنْسَانِ، وَقَدْ أَخْبَرَ ابْنُ عُمَرَ:«أنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَعَنَ مَنِ اتَّخَذَ شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا»رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ امْرَأَةً دَخَلَتِ النَّارَ فِي هِرَّةٍ عَذَّبَتْهَا بِالجُوعِ حَتَّى مَاتَتْ.
وَمَنْ حُقَّ عَلَيْهِ القَتْلُ مِنَ البَشَرِ وَجَبَ إِرَاحَتُهُ حَالَ قَتْلِهِ، وَحَرُمَ تَعْذِيبُهُ، وَكَذَلِكَ الحَيَوَانُ إِنْ قُتِلَ دَفْعًا لِأَذَاهُ أَوْ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ، يَحْرُمُ تَعْذِيبُهُ، وَتَجِبُ إِرَاحَتُهُ، وَقَاعِدَةُ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:«إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وإذا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ»رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَلاَّ يُسَلِّطَ عَلَيْنَا مَنْ لاَ يَخَافُهُ وَلاَ يَرْحَمُنَا، وَأَنْ لا يُسَلِّطَنَا عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ إِلاَّ بِالحَقِّ، وَأَنْ يَدْرَأَ عَنَّا عَذَابَ الدُّنْيَا وَعَذَابَ الآخِرَةِ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا...
أَمَّا بَعْدُ، فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ؛ [وَاتَّقُوا يَوْمَا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ] {البقرة:123}.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: لَقَدْ زَكَّى النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَهْلَ الإِيمَانِ، وَحَكَمَ بِبُعْدِهِمْ عَنْ تَعْذِيبِ ضَحَايَاهُمْ، وَهُوَ لاَ يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى؛ فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَعَفُّ النَّاسِ قِتْلَةً أَهْلُ الْإِيمَانِ»رَوَاهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
قَالَ المُنَاوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-:«هُمْ أَرْحَمُ النَّاسِ بِخَلْقِ اللهِ، وَأَشَدُّهُمْ تَحَرِّيًا عَنِ التَّمْثِيلِ وَالتَّشْوِيهِ بِالمَقْتُولِ، وَإِطَالَةِ تَعْذِيبِهِ؛ إِجْلالاً لِخَالِقِهِمْ، بِخِلافِ أَهْلِ الكُفْرِ، وَبَعْضِ أَهْلِ الفُسُوقِ مِمَّنْ لَمْ تَذَقْ قُلُوبُهُمْ حَلاوَةَ الإِيمَانِ، وَاكْتَفُوا مِنْ مُسَمَّاهُ بِلَقْلَقَةِ اللِّسَانِ، وَأُشْرِبُوا القَسْوَةَ، حَتَّى أُبْعِدُوا عَنِ الرَّحْمَنِ، وَأَبْعَدُ القُلُوبِ مِنَ اللهِ القَلْبُ القَاسِي، وَمَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ».
وَأَوْصَى يَزِيدُ بْنُ المُهَلَّبِ ابْنَهَ مَخْلَدًا وَهُوَ يَتَهَيَّأُ لِلْإِمَارَةِ فَقَالَ:«إِيَّاكَ وَأَعْرَاضَ الرِّجَالِ؛ فَإِنَّ الحُرَّ لاَ يُرْضِيهِ مِنْ عِرْضِهِ شَيْءٌ، وَاتَّقِ العُقُوبَاتِ فِي الأَبْشَارِ؛ فَإِنَّهَا عَارٌ بَاقٍ، وَدَيْنٌ مَطْلُوبٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ».
وَعَذَّبَ الخَلِيفَةُ المُعْتَصِمُ العَبَّاسِيُّ العُلَمَاءَ عَلَى بِدْعَةِ القَوْلِ بِخَلْقِ القُرْآنِ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ نَدِمَ عَلَى مَا صَارَ مِنْهُ وَقَالَ:«لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ عُمُرِي هَكَذَا قَصِيرٌ مَا فَعَلْتُ مَا فَعَلْتُ! وَجَعَلَ يَقُولُ: ذَهَبَتِ الحِيَلُ فَلاَ حِيلَةَ».
وَرُوِيَ عَنِ الوَاثِقِ العَبَّاسِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي مَرَضِهِ:«لَوَدِدْتُ أَنِّي أَقَلْتُ العَثْرَةَ».
إِنَّ الحَضَارَةَ المُعَاصِرَةَ قَامَتْ عَلَى مَبْدَأِ القُوَّةِ، وَالبَقَاءِ لِلْأَقْوَى، فَلا غَرْوَ أَنْ يَنْتَشِرَ فِيهَا التَّعْذِيبُ، وَمَنْ قَرَأَ قَصَصَ المُعَذَّبِينَ فِي الحُرُوبِ الاسْتِعْمَارِيَّةِ القَدِيمَةِ، وَرَأَى أَحْوَالَ المُعَذَّبِينَ فِي الحُرُوبِ الاسْتِعْمَارِيَّةِ الجَدِيدَةِ؛ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهَا حَضَارَةُ التَّعْذِيبِ، وَأَنَّ التَّقَدُّمَ فِي العُلُومِ وَالمَعَارِفِ وَالصِّنَاعَةِ كَثِيرًا مَا يُسَخَّرُ فِي تَعْذِيبِ النَّاسِ. وَأَثْنَاءَ احْتِلالِ صِرْبِيَا لِلْبُوسْنَةَ كَانَ الصِّرْبِيُّ يَقْطَعُ يَدَ الطِّفْلِ وَيَأْمُرُ أُمَّهُ بِطَبْخِهَا وَأَكْلِهَا، وَإِلاَّ قَتَلَ بَقِيَّةَ أَطْفَالِهَا، فَإِذَا فَعَلَتْ ذَلِكَ وَأَكَلَتْ يَدَ طِفْلِهَا قَتَلَ البَقِيَّةَ أمَامَهَا!
وَفِي العِرَاقِ طَالَعَتْنَا الصُّوَرُ بِمَا فَعَلَهُ البَاطِنِيُّونَ بِأَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ تَقْطِيعِ أَجْسَادِهِمْ بِالمَنَاشِيرِ، وَخَرْقِ رُؤُوسِهِمْ، وَقَلْعِ عُيُونِهِمْ، وَذَبْحِ ذَوِيهِمْ أَمَامَهُمْ، وَلَمْ يَنْسَ النَّاسُ بَعْدُ صُوَرَ المُعَذَّبِينَ فِي سِجْنِ أَبِي غَرِيبٍ، وَفِي احْتِلالِ أَفْغَانِسْتَانَ جَمَعَ البَاطِنِيُّونَ أُسَرَ العَرَبِ، وَانْتَزَعُوا الأَطْفَالَ مِنْ أُمَّهَاتِهِمْ، وَذَبَحُوهُمْ كَمَا يُذْبَحُ الدَّجَاجُ، وَأَمَّا التَّعْذِيبُ بِالاغْتِصَابِ، فَحَدِّثْ عَنْهُ وَلاَ حَرَجَ فِي الحَضَارَةِ المُعَاصِرَِ، وَأُنْشِئَتْ مَصَحَّاتٌ لِلْعِلاجِ النَّفْسِيِّ فِي الدُّوَلِ المُسْتَكْبِرَةِ يُعَالِجُونَ فِيهَا جُنْدَهُمُ الَّذِينَ أُصِيبُوا بِانْهِيَارَاتٍ نَفْسِيَّةٍ جَرَّاءَ تَعْذِيبِهِمْ لِضَحَايَاهُمْ!
وَفِي الشَّامِ المُبَارَكِ تُنْقَلُ إِلَيْنَا كُلَّ يَوْمٍ بَلْ كُلَّ سَاعَةٍ صُوَرٌ مِنَ العَذَابِ المُسْتَمِرِّ الَّذِي يَقْتَرِبُ مِنْ إِكْمَالِ سَنَةٍ، وَتُنْقَلُ قَصَصٌ مُرَوِّعَةٌ مِنْ تَعْذِيبِ الضَّحَايَا، وَاغْتِصَابِ النِّسَاءِ.
وَأَمَّا تَقْطِيعُ الأَطْرَافِ، وَتَشْوِيهُ الأَجْسَادِ، وَقَلْعُ العُيُونِ مِنْ مَآقِيهَا، وَاسْتِخْرَاجُ الحَنَاجِرِ مِنْ أَجْوَافِ الضَّحَايَا؛ فَهِيَ مَنَاظِرُ بَاتَتْ مَالُوفَةً، لاَ تُثِيرُ فِي النَّاسِ شَيْئًا مِنْ كَثْرَةِ مَا شَاهَدُوهَا، وَأَصْبَحَ عِنْدَهُمْ مِنَ المَنَاعَةِ أَنَّهُمْ يُطَالِعُونَهَا أَثْنَاءَ وَجَبَاتِهِمْ، وَلاَ تَرَدُّهُمْ هَذِهِ المَنَاظِرُ لِبَشَرٍ يُسْحَقُونَ عَنِ الطَّعَامِ!
وَالدُّوَلُ العُظْمَى وَغَيْرُ العُظْمَى تَنْتَقِلُ مِنْ مُبَادَرَةٍ إِلَى أُخْرَى، وَتُشَكِّلُ لَجْنَةً فِي إِثْرِ لَجْنَةٍ، وَيَجْتَمِعُ رُسُلُهَا كُلَّ حِينٍ، وَلاَ يَخْرُجُونَ بِشَيْءٍ، فِي الوَقْت الَّذِي يُعَذَّبُ فِيه أُلُوفٌ، وَيَقْتُلُ مِئَاتٌ، وَيُشَرَّدُ مَلايِينُ، وَيُغْتَصَبُ نِسَاءٌ، وَيُذْبَحُ أَطْفَالٌ، فَتِلْكَ هِيَ القِيَمُ الإِنْسَانِيَّةُ، وَهَذِهِ هِيَ حَضَارَةُ الإِنْسَانِ إِذَا قَادَهَا مَنْ لاَ يَمْلِكُ الإِيمَانَ.
يَقُولُ أَحَدُ النَّاجِينَ مِنَ الاعْتِقَالِ وَالتَّعْذِيبِ فِي مُعَسْكَرِ دَاشُو خِلالَ الحَرْبِ العَالَمِيَّةِ الثَّانِيَةِ:«عِنْدَمَا تَنْخَرِطُ فِي العَمَلِ عَلَى تَعْذِيبِ الآخِرِينَ، اعْلَمْ أَنَّكَ قَدْ ضِعْتَ، يَنْبَغِي أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ الخَوْفَ هُوَ الأَسَاسُ الَّذِي تَقُومُ عَلَيْهِ كُلُّ هَذِهِ الأَعْمَالُ، ومَا نُسَمِّيهَا حَضَارَتُنَا الإِنْسَانِيَّة تُغَطِّيهَا القُشُورُ الزَّائِفَةُ، أَزِلْ تِلْكَ القُشُورُ وَسَتَجِدُ الخَوْفَ كَامِنًا تَحْتَهَا».
أَلَا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا...
المرفقات
التَّعْذِيبُ.._سُلُوكٌ_إِنْسَانِيٌّ.doc
التَّعْذِيبُ.._سُلُوكٌ_إِنْسَانِيٌّ.doc
التعذيب..سلوك إنساني.doc
التعذيب..سلوك إنساني.doc
المشاهدات 5860 | التعليقات 9
لا يفضض الله فاك. لا يفضض الله فاك. لا يفضض الله فاك. أفدت وأجدت يا شيخ إبرهيم00 وبهذا الموضوع تكون قد أكملت الدائرة حول الإنسانية وتعظيمها عند اللبراليين الجدد00 فجزاك الله خير الجزاء ولا حرمنا من وافر علمكم0
نفع الله بك
صراحة سرد متميز وحصر دقيق للأحداث والوقائع المتعلققة بلب الموضوع
جعلك الله مباركاً أينما كنت
بارك الله فيك ولكن ياشيخ ماهو يوم الرقم ومن هو الحكم بن الطفيل
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
شكرا لك يا شيخ
خطبة تصور الواقع الإنساني
شكر الله تعالى إخواني الكرام وبارك فيكم
جزاك الله خيرا
خطيب مميز
نستفيد منك
الإنسانية يصفون بها كل عمل نبيل محبوب وفيه تقدير للإنسان واحترام لشخصه ... فما أدري شيخ إبراهيم هل عنوان الخطبة : التعذيب سلوك إنساني هل هو دقيق من هذه الناحية ... ومن ناحية أخرى هل الأصل في الإنسان هو الشر ...
الشمراني الشمراني
تعديل التعليق