التَشويقُ إلى البيتِ العَتِيقِ..
نايف بن حمد الحربي
1437/11/24 - 2016/08/27 13:24PM
(التَشويقُ إلى البيتِ العَتِيقِ..) جَامِعُ العَزِيزِيَةِ: 28/11/1434هـ
الحمدُ للهِ ما أحرَمَ مُحرِمٌ, وبالتوحِيدِ أَهَلَّ, والحمدُ للهِ ما حثَّ السيرَ قَاصِدٌ, وعلى البيتِ أَطَل, والحمدُ للهِ ما شَطَّ الهوى بفاسِقٍ, ولَهُ عن البيتِ أَزَل, فالحمدُ للهِ على كُلِّ حَال, ما اهتَدَى مُهتَدٍ, وما الشيطَانُ لِمَحرُومٍ أَظَل, وأشهد أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَّهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُهُ ورسولُهُ، صلى اللهُ وسَلَّمَ وبارَكَ عليه، وعلى آلِهِ وصحبِهِ, وتابعيهِم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.
أما بعد :
فعَلَيْكم بتقوى اللهِ عبادَ الله، أَنفَعُ ما تُضمِرُون, وخَيرُ ما تَدَخِرُون, بها في الدُنَا غنِ الدَنَايَا تُصَانُون, وفي الأخرى للخلائقِ في الـمَرَاتِبِ تَبُزُون, ألاَ فاتَقُوا اللهَ عبادَ اللهِ في كُلِّ ما تَأتُونَ وما تَذَرُون.
معاشرَ المسلمين:
وَحيٌّ مِن الرَوحِ لا وَحيٌّ مِن القَلَمِ *** هَزَّ الـمَشَاعِرَ مِن رَأسِي إلى قَدمَي
لَمَّا رَأيتُ حَجِيجَ البيتِ يَدفَعُهُم *** شَوقٌ إلى اللهِ مِن عُربٍ ومِن عَجَمِ
لَبُوا النِدَاءَ فما قَرتْ رَواحِلُهُم *** حتى أَنَاخُوا قُبَيلَ الصُبحِ بالحَرَمِ
{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}أَذَّنَ إبراهِيمُ في النَّاسِ بالحَجِّ فَأجَابُوا, ودَعَاهُم فَلَبَوا واستَجَابُوا, تَوافَدُوا إليهِ رُكبَانا, فإنْ لم يُكُن فَرِجَالا؛ إذْ البيتُ مَثَابَةً للنَّاسِ وأَمْنَا, لا يَقضُونَ مِنهُ وَطَرَا, كُلَّمَا ازدَادُوا لَهُ زِيَارةً, ازدَادُوا لَهُ اشتِيَاقَا..
أُطَّوِفُ بِهِ والنَفْسُ بَعْدُ مَشَوَّقَةٌ *** إليهِ وهلْ بَعدَ الطوافِ تَــدَانِ؟
وأَلثِمُ مِنهُ الرُكنَ أَطلُــبُ بَردَ مَا *** بقلبيَ مِن شَوقٍ ومِن هَيَمانِ
فواللهِ ما أزدَادُ إلا صَبــابةً *** ولا القلبُ إلا كثرةَ الخَفَقــانِ.
فقُلي بِرَبِك: هَل مَرَّ بِكَ رَكْبٌ أَشَرَفُ مِن رَكبِ الطَائِفِين؟ وهل شَمَمْتَ عَبِيراً أَزكى مِن غُبَارِ الـمُحْرِمِين؟ وهل هَزَّكَ نَغَمٌ أَروَعُ مِن تَلبِيَةِ الـمُلَبِين؟ لَبَوا النِدَاء, فَتَجَرَّدُوا مِن لِبَاسِ أَهلِ الدُنَا, وأَهَلُّوا بالتوحيدِ في كُلِّ فضَاء, وتحتَ كُلِّ بِنَاء: "لبيكَ اللهُمَّ لبيك, لبيكَ لا شَريكَ لَكَ لبيك"
فلَكَ الحمدُ يا ربَّ الحجيجِ جَمَعتَهُم *** لبيتٍ طَهُورِ السَاحِ والعَرصَاتِ
أَرَى النَّاسَ أَصنَافاً ومِن كُلِّ بُقعَةٍ *** إليكَ انتَهُوا مِن غُربَةٍ وشَتَاتِ
تَسَاووا فلا الأنسابُ فيها تَفَاوتٌ *** لديكَ ولا الأقدارُ مُختَلِفَاتِ.
قالَ الحَسَنُ بنُ عِمرَان: " حَجَجْتُ معَ عمي سُفيانَ بنَ عُيينةَ آخرَ حَجَةٍ حَجَهَا, فلمَّا كُنَّا بِجُمَع, صَلَّى واستَلقَى على فِرَاشِهِ ثُمَّ قال: وافيتُ هذا الـمَوضِعَ سَبعينَ عَاماً, أَقولُ في كُلِّ سَنةٍ: اللهُمَّ لا تَجْعُلُهُ آخرَ العَهْدَ مِن هذا الـمَكان, وإنِّي قد استَحيَيتُ مِن اللهِ مِن كَثرَةِ ما أسألُهُ ذَلِك, فَرَجَعَ فَتُوفِيَّ مِن السَنَةِ الدَاخِلَة"
قالَ أبو إسحَاقَ السَبِيعِي: "جَمَعَ الأسوَدُ بنُ يَزيد بينَ ثمَانِينَ حَجَةٍ وعُمْرَة, وعَمروُ بنُ مَيمُون بينَ سِتِين".
أمَّا ابنُ الـمُسَيَّبِ وابنُ أبي رَبَاح, وأيوبُ السَختِيَاني, وابنُ بَازٍ, وغَيرُهُم كثير, فقد جَمَعُوا بينَ أكثَرَ مِن أَربَعِينَ حَجَة.
وقَبلَ ما يَقرُبُ مِن أَربَعٍ وخَمسِينَ سَنة, في بَلدَةٍ تُشرِفُ على الـمُحيطِ الأطلَسي؛ وأَحسَبُ لهذا أنَّها تَقبَعُ في أقاصِي الـمَغربِ الإسلامي, اجتَمَعَ خَمسَةٌ مِن شَبَابِ الإسلامِ مِن جُمهُورِيَة جَامبيا, فَتَدَاوَلُوا بينَهم رَأيَهُم, ثُمَّ عَقَدُوا عَزمَهُم على حَجِّ بيتِ اللهِ الحَرَام, فَخَرَجُوا يَحدُوهُمُ الأملُ, ويَسُوقُهُم الشَوقُ, يَقُولُ أحدُهُم: "خَرجنَا للحَجِّ وليسَ مَعنَا مِن الزادِ ما يَكفِي لأسبُوعٍ واحد, فاستَعَنَا على التَزَوُّدِ لِرحلَتِنَا بالعملِ فيما نَمُرُّ بهِ مِن القُرَى, خَرَجْنَا للحَجِّ سَيراً على الأقدامِ, في رِحلَةٍ قَطَعنْا بها أفريقيا مِن غَربِهَا إلى شَرقِهَا, لَم نَركَبْ إلا مَرَاتٍ قليلةِ, في أحيَانٍ مُتَفَرِقَةٍ على بَعضِ الدَواب, خَرجنَا في رِحلَةٍ استَمَرَتْ لأكثرَ مِن عامينَ قبلَ أنْ نَبلُغَ البيتَ, فَكَم مِن ليلَةٍ بِتْنَا فيها مِن الزادِ طَاوِين, وكَم مِن ليلةٍ جَفَانَا لّذيذُ الكَرَى مِن الخَوفِ مَفجُوعِين, خَرَجْنَا خَمسَةٌ, فما بَلَغ البيتَ غيرَ اثنان, أمَّا الثلاثةُ البَاقُون, فقد تَخَطَّفَتْهُمُ الـمَنِيَةُ في أَثنَاءِ الطريق, حتى كانَ آخِرُهُم وَفَاةً, مَن تُوُفِيَّ لَمَّا رَكِبْنَا البَحرَ الأحمر, فلمَّا حَضَرَتْهُ الـمَنِيَّةُ قالَ لَنَا: إذا وَصَلْتُمَا إلى الـمَسجِدِ الحَرَام, فأخبِرا اللهَ شَوقِي إلى لِقَائِهِ, واسألاهُ أنْ يَجمَعَنِي وَوَالِدَتِي في الجَنَّةِ معَ النبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّم-"
فياللهِ ما أعظَمَ خبر النُفُوسِ الراغِبَة, وياللهِ ما أَلَذَّ حديثِ الهِمَمِ الـمُكَابِدَة, ولِمَ لا يَعظُمُ الشَوقُ فيها, والرَغبَةُ عِندَها, والأجرُ عَظِيم؟! والرَبُّ كَريم؟! ففي الصَحِيحَين مِن حَديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- «مَنْ حَجَّ هَذَا البَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» وفِيهِمَا عَنهُ أَيضا: «الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ» وعندَ التَرمِذِي وغيرِهِ: "تَابِعُوا بَيْنَ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ، وَالذَّهَبِ، وَالفِضَّةِ".
فيَا مَن صُدَّ عنِ الخيرِ, وانقَطَعَ بهِ السَير, أمَا هَزَّكَ الحَادِي, أمَا اسمَعَكَ الـمُنَادِي, فَتَحُثَّ الخُطَى, قَبلَ أنْ تَنأىَ عن دِيَارِكَ العِير, أمَا تُحَاذِرُ أنْ تَكُونَ مِن الـمَحرُومِين؛ إذْ الـمَحرُومُونَ لهُم آذَانٌ بِهَا لا يَسمَعُون, وأَعينٌ مِن خِلالِهَا لا يُبصِرُون, وَصَلَهُم الآذَانُ, ولَم تَصِل مِنهُمُ الإجَابَة, هَانَ عليهُم السَفَرُ إلى كُلِّ بُقعَةٍ, إلاَّ خيرَ بُقعَة, عَرَفُوا كُلَّ طَرِيقٍ, إلاَّ طَرِيقَ مَكَّة, سَلَكُوا كُلَّ فَجٍّ, إلا طَريقَ الحَجِّ, اِكتَفَوا بالحَرَامِ عن لُبسِ الإحرَام, شَغَلَهُمُ الهَوىَ عنِ الهُدَى, فاستَعِذْ باللهِ مِن حَالِ أهلِ الحِرمَان..
أقولُ هذا القولَ, واستغفرُ اللهَ لِي ولَكُم...
الحمدُ للهِ أَضَاءَ بوحيهِ على الدُنَا نِبرَاسَا, هَدَى بهِ عُقولاً, وأذهَبَ أَوجَاساً, فَسَمَتْ نُفُوسٌ, وزَكَّى أَنفَاسَا, وصَلَّى اللهُ وسَلَّمَ على عبدِهِ ورسولِهِ محمد, وعلى آلِهِ وصحبهِ والتَابعين, ما أقَامَ رَبُكَ على أبوابِ السماءِ شُهُباً وحُرَاسَا.
أما بعد :
حُجَّاجَ بيتِ اللهِ الحَرَام, يا مَن صَدَقتُمْ العَزم, وأَمضَيتُمْ النِية, أَبلَغَكُم اللهُ مُرَادَكُم, وأَجزَلَ مِن الثَوابِ حَصَادَكُم, وَوَهَنَ العَزَائِمْ لا نَابَكُم, اعلَمُوا يا رَعَاكُم اللهُ: أنَّ اللهَ لا يَقبَلُ مِن الأعمالِ إلاَّ ما كانَ لَهُ خَالِصَا, ولِسُنَّةِ نَبِيِهِ قَافِيَا, فاستَعِينُوا على هذِهِ بالتَفَقُّهِ في أُمُورِ حَجِكُم, وصُحبَةِ أهلِ العِلْمِ وسُؤالِهِم, وعلى تِيك, بِتَعَاهُدِ النِيَةِ وتَجدِيدِهَا, جَنِّبُوا أعمَالَكُمُ الرِياء, وحَاذِرُوا بها على اللهِ الإدلاء, أو للـمَخلُوقِينَ الإزرَاء, فواللهِ مانِلْتَ مَا نِلْت, إلا بمَحضِ تَوفيقِ الله, تَحَرَّوا لِحَجِكُم النَفَقَةَ الحَلاَل, فإنَّ اللهَ طَيبٌ لا يَقبَلُ إلاَّ طَيِبَا..
إذا حَجَجْتَ بِمَالٍ أَصلُهُ سُحتُ *** فمَا حَجَجْتَ ولكنْ حَجَتْ العِيرُ
لا يَقبَلُ اللهُ إلاَّ كُلَّ صَالِحَة *** ما كُلُّ مَن حَجَّ بيتَ اللهِ مَبرُورُ.
إلحَظُوا خَطَرَاتِكُم, وأكبَحُوا جِمَاحَ نَزَوَاتِكُم, وحَاذِرُوا الآثَامَ في حَجِكُم, فالـمَعصِيَةُ بينَ يَديِّ الـمَلِكِ وعلى فُسطَاطِ سُلطَانِهِ, ليسَتْ كالمعصِيَةِ فيما نَأى مِن الدِيَار, وللهِ الـمَثَلُ الأعلى.
خَرجتُمْ مِن بُلدَانِكُم, فوَدَعتُم خِلانَكُم, وأجهَدتُم أبدَانَكُم, فأتِمُّوا ما تَستَدبِرُون, بإحسَانِ ما تَستَقبِلُون, أَدُوا الأركان, وأَتُوا بالواجِبَات, وأَحرِصُوا على السُنَنِ الـمُكَمِّلات, لا تُفَرِّطُوا بِدَعوى: "اِفعَلْ و لا حَرَج" فالنَبِيُّ -صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- إنِّمَا قال: "اِفعَلْ ولا حَرَج" ولم يَقُل: "اُترُك ولا حَرَج".
لا تَتَهَاوَنُوا في أَدَاءِ الوَاجِبَات, ولا في غِشيانِ الـمَحظُورَات, وتَظُنُّوا أنَّهُنَّ بالفِديَةِ مَجبُورَات, فالرَاجحُ مِن أقوالِ أهلِ العلمِ: أنَّ مالم يَنُصْ الدليلُ على أنَّ في غِشيَانِهِ الفِديَةُ مِن الـمَحظُورَات, فالفِديَةُ لا تَرفأهُ, وإنِّمَا غِشيَانَهُ يَسْلُبُ الحجَّ صِفَةَ البِرِّ, ومِثلُهُ تَركُ أيٍ مِن الواجِبَات لغيرِ عُذرٍ مُبيحٍ شَرعَا, وقد عَلِمتُم أنَّ الحَجَّ الـمَبرُورَ ليسَ لَهُ جَزَاءٌ إلا الجَنَّة..
أنتُم وُفُودُ اللهِ, قد طُفتُمْ بِبيتِهِ, ونَزَلتُم بِحَرَمِهِ, فلتَخشَعْ مِنكُم الجَوارِح, ولتنكَسِر القُلُوب, ولتَلهَجْ الألسُنُ بالتَضَرُعِّ لِعَلاَّمِ الغُيوب, ولتَكُن هِمَّةُ أحَدِكُم: "رَجَعَ مِن ذُنُوبِهِ كَيومِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ" أَحسِنُوا الظَنَّ بِرَبِكُم, وأَمِّلُوا مِن الرحمَنِ خَيرا, قالَ ابنُ الـمُبَارَك: "جِئتُ سُفيانَ الثوري عَشِيَةَ عَرَفة, وهو جَاثٍ على رُكبَتَيهِ وعينَاهُ تَهمِلان, فالتَفَتَ إليَّ, فقُلتُ لَهُ: مَنْ أسوأُ هذا الجَمعِ حَالا؟ قال: الذي يَظُنُّ أنَّ اللهَ لا يَغفِرُ لَهُم"
تَقَبَّلَ اللهُ مِن الحَجيجِ حَجَّهُم, وأَبلَغَهُم فيما يُرضِيهِ قَصدَهُم, وتَفَضَّلَ عَلَيهم وأَمَدَهُم..
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين, ...
وكتب/ نايف بن حمد الحربي..
الحمدُ للهِ ما أحرَمَ مُحرِمٌ, وبالتوحِيدِ أَهَلَّ, والحمدُ للهِ ما حثَّ السيرَ قَاصِدٌ, وعلى البيتِ أَطَل, والحمدُ للهِ ما شَطَّ الهوى بفاسِقٍ, ولَهُ عن البيتِ أَزَل, فالحمدُ للهِ على كُلِّ حَال, ما اهتَدَى مُهتَدٍ, وما الشيطَانُ لِمَحرُومٍ أَظَل, وأشهد أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَّهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُهُ ورسولُهُ، صلى اللهُ وسَلَّمَ وبارَكَ عليه، وعلى آلِهِ وصحبِهِ, وتابعيهِم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.
أما بعد :
فعَلَيْكم بتقوى اللهِ عبادَ الله، أَنفَعُ ما تُضمِرُون, وخَيرُ ما تَدَخِرُون, بها في الدُنَا غنِ الدَنَايَا تُصَانُون, وفي الأخرى للخلائقِ في الـمَرَاتِبِ تَبُزُون, ألاَ فاتَقُوا اللهَ عبادَ اللهِ في كُلِّ ما تَأتُونَ وما تَذَرُون.
معاشرَ المسلمين:
وَحيٌّ مِن الرَوحِ لا وَحيٌّ مِن القَلَمِ *** هَزَّ الـمَشَاعِرَ مِن رَأسِي إلى قَدمَي
لَمَّا رَأيتُ حَجِيجَ البيتِ يَدفَعُهُم *** شَوقٌ إلى اللهِ مِن عُربٍ ومِن عَجَمِ
لَبُوا النِدَاءَ فما قَرتْ رَواحِلُهُم *** حتى أَنَاخُوا قُبَيلَ الصُبحِ بالحَرَمِ
{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}أَذَّنَ إبراهِيمُ في النَّاسِ بالحَجِّ فَأجَابُوا, ودَعَاهُم فَلَبَوا واستَجَابُوا, تَوافَدُوا إليهِ رُكبَانا, فإنْ لم يُكُن فَرِجَالا؛ إذْ البيتُ مَثَابَةً للنَّاسِ وأَمْنَا, لا يَقضُونَ مِنهُ وَطَرَا, كُلَّمَا ازدَادُوا لَهُ زِيَارةً, ازدَادُوا لَهُ اشتِيَاقَا..
أُطَّوِفُ بِهِ والنَفْسُ بَعْدُ مَشَوَّقَةٌ *** إليهِ وهلْ بَعدَ الطوافِ تَــدَانِ؟
وأَلثِمُ مِنهُ الرُكنَ أَطلُــبُ بَردَ مَا *** بقلبيَ مِن شَوقٍ ومِن هَيَمانِ
فواللهِ ما أزدَادُ إلا صَبــابةً *** ولا القلبُ إلا كثرةَ الخَفَقــانِ.
فقُلي بِرَبِك: هَل مَرَّ بِكَ رَكْبٌ أَشَرَفُ مِن رَكبِ الطَائِفِين؟ وهل شَمَمْتَ عَبِيراً أَزكى مِن غُبَارِ الـمُحْرِمِين؟ وهل هَزَّكَ نَغَمٌ أَروَعُ مِن تَلبِيَةِ الـمُلَبِين؟ لَبَوا النِدَاء, فَتَجَرَّدُوا مِن لِبَاسِ أَهلِ الدُنَا, وأَهَلُّوا بالتوحيدِ في كُلِّ فضَاء, وتحتَ كُلِّ بِنَاء: "لبيكَ اللهُمَّ لبيك, لبيكَ لا شَريكَ لَكَ لبيك"
فلَكَ الحمدُ يا ربَّ الحجيجِ جَمَعتَهُم *** لبيتٍ طَهُورِ السَاحِ والعَرصَاتِ
أَرَى النَّاسَ أَصنَافاً ومِن كُلِّ بُقعَةٍ *** إليكَ انتَهُوا مِن غُربَةٍ وشَتَاتِ
تَسَاووا فلا الأنسابُ فيها تَفَاوتٌ *** لديكَ ولا الأقدارُ مُختَلِفَاتِ.
قالَ الحَسَنُ بنُ عِمرَان: " حَجَجْتُ معَ عمي سُفيانَ بنَ عُيينةَ آخرَ حَجَةٍ حَجَهَا, فلمَّا كُنَّا بِجُمَع, صَلَّى واستَلقَى على فِرَاشِهِ ثُمَّ قال: وافيتُ هذا الـمَوضِعَ سَبعينَ عَاماً, أَقولُ في كُلِّ سَنةٍ: اللهُمَّ لا تَجْعُلُهُ آخرَ العَهْدَ مِن هذا الـمَكان, وإنِّي قد استَحيَيتُ مِن اللهِ مِن كَثرَةِ ما أسألُهُ ذَلِك, فَرَجَعَ فَتُوفِيَّ مِن السَنَةِ الدَاخِلَة"
قالَ أبو إسحَاقَ السَبِيعِي: "جَمَعَ الأسوَدُ بنُ يَزيد بينَ ثمَانِينَ حَجَةٍ وعُمْرَة, وعَمروُ بنُ مَيمُون بينَ سِتِين".
أمَّا ابنُ الـمُسَيَّبِ وابنُ أبي رَبَاح, وأيوبُ السَختِيَاني, وابنُ بَازٍ, وغَيرُهُم كثير, فقد جَمَعُوا بينَ أكثَرَ مِن أَربَعِينَ حَجَة.
وقَبلَ ما يَقرُبُ مِن أَربَعٍ وخَمسِينَ سَنة, في بَلدَةٍ تُشرِفُ على الـمُحيطِ الأطلَسي؛ وأَحسَبُ لهذا أنَّها تَقبَعُ في أقاصِي الـمَغربِ الإسلامي, اجتَمَعَ خَمسَةٌ مِن شَبَابِ الإسلامِ مِن جُمهُورِيَة جَامبيا, فَتَدَاوَلُوا بينَهم رَأيَهُم, ثُمَّ عَقَدُوا عَزمَهُم على حَجِّ بيتِ اللهِ الحَرَام, فَخَرَجُوا يَحدُوهُمُ الأملُ, ويَسُوقُهُم الشَوقُ, يَقُولُ أحدُهُم: "خَرجنَا للحَجِّ وليسَ مَعنَا مِن الزادِ ما يَكفِي لأسبُوعٍ واحد, فاستَعَنَا على التَزَوُّدِ لِرحلَتِنَا بالعملِ فيما نَمُرُّ بهِ مِن القُرَى, خَرَجْنَا للحَجِّ سَيراً على الأقدامِ, في رِحلَةٍ قَطَعنْا بها أفريقيا مِن غَربِهَا إلى شَرقِهَا, لَم نَركَبْ إلا مَرَاتٍ قليلةِ, في أحيَانٍ مُتَفَرِقَةٍ على بَعضِ الدَواب, خَرجنَا في رِحلَةٍ استَمَرَتْ لأكثرَ مِن عامينَ قبلَ أنْ نَبلُغَ البيتَ, فَكَم مِن ليلَةٍ بِتْنَا فيها مِن الزادِ طَاوِين, وكَم مِن ليلةٍ جَفَانَا لّذيذُ الكَرَى مِن الخَوفِ مَفجُوعِين, خَرَجْنَا خَمسَةٌ, فما بَلَغ البيتَ غيرَ اثنان, أمَّا الثلاثةُ البَاقُون, فقد تَخَطَّفَتْهُمُ الـمَنِيَةُ في أَثنَاءِ الطريق, حتى كانَ آخِرُهُم وَفَاةً, مَن تُوُفِيَّ لَمَّا رَكِبْنَا البَحرَ الأحمر, فلمَّا حَضَرَتْهُ الـمَنِيَّةُ قالَ لَنَا: إذا وَصَلْتُمَا إلى الـمَسجِدِ الحَرَام, فأخبِرا اللهَ شَوقِي إلى لِقَائِهِ, واسألاهُ أنْ يَجمَعَنِي وَوَالِدَتِي في الجَنَّةِ معَ النبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّم-"
فياللهِ ما أعظَمَ خبر النُفُوسِ الراغِبَة, وياللهِ ما أَلَذَّ حديثِ الهِمَمِ الـمُكَابِدَة, ولِمَ لا يَعظُمُ الشَوقُ فيها, والرَغبَةُ عِندَها, والأجرُ عَظِيم؟! والرَبُّ كَريم؟! ففي الصَحِيحَين مِن حَديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- «مَنْ حَجَّ هَذَا البَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» وفِيهِمَا عَنهُ أَيضا: «الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ» وعندَ التَرمِذِي وغيرِهِ: "تَابِعُوا بَيْنَ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ، وَالذَّهَبِ، وَالفِضَّةِ".
فيَا مَن صُدَّ عنِ الخيرِ, وانقَطَعَ بهِ السَير, أمَا هَزَّكَ الحَادِي, أمَا اسمَعَكَ الـمُنَادِي, فَتَحُثَّ الخُطَى, قَبلَ أنْ تَنأىَ عن دِيَارِكَ العِير, أمَا تُحَاذِرُ أنْ تَكُونَ مِن الـمَحرُومِين؛ إذْ الـمَحرُومُونَ لهُم آذَانٌ بِهَا لا يَسمَعُون, وأَعينٌ مِن خِلالِهَا لا يُبصِرُون, وَصَلَهُم الآذَانُ, ولَم تَصِل مِنهُمُ الإجَابَة, هَانَ عليهُم السَفَرُ إلى كُلِّ بُقعَةٍ, إلاَّ خيرَ بُقعَة, عَرَفُوا كُلَّ طَرِيقٍ, إلاَّ طَرِيقَ مَكَّة, سَلَكُوا كُلَّ فَجٍّ, إلا طَريقَ الحَجِّ, اِكتَفَوا بالحَرَامِ عن لُبسِ الإحرَام, شَغَلَهُمُ الهَوىَ عنِ الهُدَى, فاستَعِذْ باللهِ مِن حَالِ أهلِ الحِرمَان..
أقولُ هذا القولَ, واستغفرُ اللهَ لِي ولَكُم...
الحمدُ للهِ أَضَاءَ بوحيهِ على الدُنَا نِبرَاسَا, هَدَى بهِ عُقولاً, وأذهَبَ أَوجَاساً, فَسَمَتْ نُفُوسٌ, وزَكَّى أَنفَاسَا, وصَلَّى اللهُ وسَلَّمَ على عبدِهِ ورسولِهِ محمد, وعلى آلِهِ وصحبهِ والتَابعين, ما أقَامَ رَبُكَ على أبوابِ السماءِ شُهُباً وحُرَاسَا.
أما بعد :
حُجَّاجَ بيتِ اللهِ الحَرَام, يا مَن صَدَقتُمْ العَزم, وأَمضَيتُمْ النِية, أَبلَغَكُم اللهُ مُرَادَكُم, وأَجزَلَ مِن الثَوابِ حَصَادَكُم, وَوَهَنَ العَزَائِمْ لا نَابَكُم, اعلَمُوا يا رَعَاكُم اللهُ: أنَّ اللهَ لا يَقبَلُ مِن الأعمالِ إلاَّ ما كانَ لَهُ خَالِصَا, ولِسُنَّةِ نَبِيِهِ قَافِيَا, فاستَعِينُوا على هذِهِ بالتَفَقُّهِ في أُمُورِ حَجِكُم, وصُحبَةِ أهلِ العِلْمِ وسُؤالِهِم, وعلى تِيك, بِتَعَاهُدِ النِيَةِ وتَجدِيدِهَا, جَنِّبُوا أعمَالَكُمُ الرِياء, وحَاذِرُوا بها على اللهِ الإدلاء, أو للـمَخلُوقِينَ الإزرَاء, فواللهِ مانِلْتَ مَا نِلْت, إلا بمَحضِ تَوفيقِ الله, تَحَرَّوا لِحَجِكُم النَفَقَةَ الحَلاَل, فإنَّ اللهَ طَيبٌ لا يَقبَلُ إلاَّ طَيِبَا..
إذا حَجَجْتَ بِمَالٍ أَصلُهُ سُحتُ *** فمَا حَجَجْتَ ولكنْ حَجَتْ العِيرُ
لا يَقبَلُ اللهُ إلاَّ كُلَّ صَالِحَة *** ما كُلُّ مَن حَجَّ بيتَ اللهِ مَبرُورُ.
إلحَظُوا خَطَرَاتِكُم, وأكبَحُوا جِمَاحَ نَزَوَاتِكُم, وحَاذِرُوا الآثَامَ في حَجِكُم, فالـمَعصِيَةُ بينَ يَديِّ الـمَلِكِ وعلى فُسطَاطِ سُلطَانِهِ, ليسَتْ كالمعصِيَةِ فيما نَأى مِن الدِيَار, وللهِ الـمَثَلُ الأعلى.
خَرجتُمْ مِن بُلدَانِكُم, فوَدَعتُم خِلانَكُم, وأجهَدتُم أبدَانَكُم, فأتِمُّوا ما تَستَدبِرُون, بإحسَانِ ما تَستَقبِلُون, أَدُوا الأركان, وأَتُوا بالواجِبَات, وأَحرِصُوا على السُنَنِ الـمُكَمِّلات, لا تُفَرِّطُوا بِدَعوى: "اِفعَلْ و لا حَرَج" فالنَبِيُّ -صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- إنِّمَا قال: "اِفعَلْ ولا حَرَج" ولم يَقُل: "اُترُك ولا حَرَج".
لا تَتَهَاوَنُوا في أَدَاءِ الوَاجِبَات, ولا في غِشيانِ الـمَحظُورَات, وتَظُنُّوا أنَّهُنَّ بالفِديَةِ مَجبُورَات, فالرَاجحُ مِن أقوالِ أهلِ العلمِ: أنَّ مالم يَنُصْ الدليلُ على أنَّ في غِشيَانِهِ الفِديَةُ مِن الـمَحظُورَات, فالفِديَةُ لا تَرفأهُ, وإنِّمَا غِشيَانَهُ يَسْلُبُ الحجَّ صِفَةَ البِرِّ, ومِثلُهُ تَركُ أيٍ مِن الواجِبَات لغيرِ عُذرٍ مُبيحٍ شَرعَا, وقد عَلِمتُم أنَّ الحَجَّ الـمَبرُورَ ليسَ لَهُ جَزَاءٌ إلا الجَنَّة..
أنتُم وُفُودُ اللهِ, قد طُفتُمْ بِبيتِهِ, ونَزَلتُم بِحَرَمِهِ, فلتَخشَعْ مِنكُم الجَوارِح, ولتنكَسِر القُلُوب, ولتَلهَجْ الألسُنُ بالتَضَرُعِّ لِعَلاَّمِ الغُيوب, ولتَكُن هِمَّةُ أحَدِكُم: "رَجَعَ مِن ذُنُوبِهِ كَيومِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ" أَحسِنُوا الظَنَّ بِرَبِكُم, وأَمِّلُوا مِن الرحمَنِ خَيرا, قالَ ابنُ الـمُبَارَك: "جِئتُ سُفيانَ الثوري عَشِيَةَ عَرَفة, وهو جَاثٍ على رُكبَتَيهِ وعينَاهُ تَهمِلان, فالتَفَتَ إليَّ, فقُلتُ لَهُ: مَنْ أسوأُ هذا الجَمعِ حَالا؟ قال: الذي يَظُنُّ أنَّ اللهَ لا يَغفِرُ لَهُم"
تَقَبَّلَ اللهُ مِن الحَجيجِ حَجَّهُم, وأَبلَغَهُم فيما يُرضِيهِ قَصدَهُم, وتَفَضَّلَ عَلَيهم وأَمَدَهُم..
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين, ...
وكتب/ نايف بن حمد الحربي..