التساهل في الفتوى
ناصر محمد الأحمد
1438/06/02 - 2017/03/01 08:49AM
التساهل في الفتوى
4/6/1438ه
د. ناصر بن محمد الأحمد
الخطبة الأولى :
إن الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: روى مسلم في صحيحه: أنَّ بشير العدوي جاء إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فجعل يحدِّث ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه ولا ينظر إليه، فقال: يا ابن عباس! ما لي لا أراك تسمع لحديثي؟ أحدثك عن رسول الله ولا تسمع! فقال ابن عباس: "إنَّا كنا مرَّة إذا سمعنا رجلاً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف". هذا النص يفيد أنَّ العلماء والأئمة كانوا يتثبَّتون أشدَّ التثبُّت في تلقِّي العلم، ويتحرَّوْن في نَقَلته ورواته، وبخاصة بعد أن ظهرت الفتن وكثُر الابتداع، قال ابن سيرين: "اتقوا الله يا معشر الشباب! وانظروا عمن تأخذون هذه الأحاديث، فإنها دينكم". فإذا كان ذلك الحرص في تلقِّي العلم في القرن الأول وأعلامُ السنة عزيزةٌ مرفوعةٌ، فكيف في هذا العصر الذي اندرست فيه معالم السنَّة، وكثُر فيه أهل الأهواء؟.
إنَّ ثمة حقيقة لا شك فيها، وهي أن الساحة الإسلامية تشهد فوضى فقهية تَطاوَل فيها بعض أدعياء العلم وأنصاف المثقفين على الفتوى، فراحوا يخوضون فيها بدون ورع أو تثبُّت، بل تجرؤوا على المسائل الكبار التي لو عُرِضت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر.
والعجيب أنَّ بعض الناس عندما تراجعه في بعض تلك الفتاوى والآراء، يبادرك بضرورة اتساع الصدر للرأي المخالف، لأنه ما زال العلماء يختلفون ولا يُنكِر بعضهم على بعض!. وهذا حق لا شك فيه لو أنَّه صادر عمن يحق له الفتوى والاجتهاد من أهل العلم الراسخين. أما وإنه صادر في أغلب الأحوال عن غير أهله، فكيف يراد منا أن نعذر فيه المخالف؟.
قال بعضهم: ونحسب أن بعض المفتين في هذا الزمان أحق بالسجن من السُّرّاق!.
أيها المسلمون: نسمع كثيراً في وسائل الإعلام الإنكارَ على تشدد بعض المفتين، والنهي عن الغلو في الدين، وما إلى ذلك من المطالبة باتخاذ موقف جاد من التطرف والتنطع والغلو، ولكننا لا نسمع إنكاراً على الطرف الآخر من المفتين المتطرفين، أعني المفتين المجّان، بل إن أولئك المفتين المجّان يُبَجَّلون ويُثنى عليهم ويُصدِّرون فتاوى على الأهواء.
إن الغَيْرة على الدين تقتضي أن يتم التحذير من هؤلاء وهؤلاء، لأنهم كلهم خطر على الدين، بل في أحيان كثيرة يكون المفتي الماجن أخطر على الدين من المفتي المتشدد، لأنه وباستقراء التاريخ نجد أن الأقوال المتشددة لا تصمد للزمن، بل تندثر أو يقلّ أخذ الناس بها، لأنها مخالفة للنفس البشرية التي تميل إلى السكون والدعة، بينما نجد أن أقوال المفتين المجّان ما زالت تسري بين المسلمين. وعلى أية حال فالمطلوب التحذير من كلا المفتيَيْن، وكلاهما يشكلان خطراً على الناس.
كان السلف رحمهم الله يتحاشون الفتيا ويودّون أن غيرهم يكفيهم إياها، وما ذلك إلا لعِظَم خشيتهم من الله سبحانه وتعالى وكمال علمهم بالكتاب والسنة، فقد قال عز من قائل: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) ( الأعراف : 33 ) وقال سبحانه: (وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُون) ( النحل : 116 )، وقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث ابن عمرو: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبْقِ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسُئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلّوا".
وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "أدركت مائة وعشرين من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل أحدهم عن المسألة فيرد هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا حتى يرجع إلى الأول".
وقال حذيفة رضي الله عنه: "لا يفتي الناسَ إلا ثلاثةٌ: رجل قد عرف ناسخ القرآن ومنسوخه، أو أمير لا يجد بُدّاً، أو أحمق متكلف".
وقال ابن عيينة: "أعلم الناس بالفتوى أسكتهم فيها".
وسئل الشعبي عن شيء فقال: لا أدري. فقيل له: أما تستحي من قولك لا أدري وأنت فقيه العراق؟ قال: لكن الملائكة لم تستحِ حين قالت: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا.
ودخل رجل على ربيعة وهو يبكي، فقال: ما يبكيك؟ وارتاع لبكائه، وقال: أَدَخَلَتْ عليك مصيبة؟ فقال: لا، ولكن استُفْتِيَ من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم. قال ابن الجوزي بعد ذكره لهذا الخبر: هذا قول ربيعة والتابعون متوافرون، فكيف لو عاين زماننا هذا؟.
وأوصى ابن خلدة القاضي ربيعة، فقال له: أراك تفتي الناس، فإذا جاءك رجل يسألك فلا يكن همك أن تخرجه مما وقع فيه، وليكن همك أن تتخلص مما سألك عنه.
وقال أبو حنيفة: من تكلم في شيء من العلم وتقلده وهو يظن أن الله عز وجل لا يَسأله عنه: كيف أفتيتَ في دين الله، فقد سَهُلت عليه نفسه ودينه. وقال: ولولا الفَرَق من الله أن يضيع العلم ما أفتيت أحداً، يكون لهم المهنأ، وعليَّ الوزر.
وكان الإمام مالك يُكثر من قول لا أدري، وسئل عن ثمان وأربعين مسألة، فقال في ثنتين وثلاثين منها: لا أدري، وسئل عن مسألة فقال: لا أدري، فقيل: هي مسألة خفيفة سهلة، فغضب وقال: ليس في العلم شيء خفيف.
وقال مالك: إني لأفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنة، فما اتفق لي فيها رأي إلى الآن.
وقال ابن عبد الحكم: كان مالك إذا سئل عن المسألة قال للسائل: انصرف حتى أنظر فيها، فينصرف ويتردد فيها، فقلنا له في ذلك فبكى، وقال: إني أخاف أن يكون لي من المسائل يوم وأي يوم.
وسئل الشافعي عن مسألة فلم يجب، فقيل له، فقال: حتى أدري أن الفضل في السكوت أو في الجواب.
وعن الأثرم سمعت أحمد بن حنبل يكثر أن يقول: لا أدري، فيما عرف الأقاويل فيه. وقال: ربما مكثت في المسألة ثلاث سنين قبل أن أعتقد فيها شيئاً، وقال أحمد المروزي: سألت أحمد بن حنبل ما لا أحصي عن أشياء فيقول فيها: لا أدري.
وذكر ابن الجوزي عن بعض مشايخه أنه أفتى رجلاً من قرية بينه وبينها أربعة فراسخ، فلما ذهب الرجل تفكر فعلم أنه أخطأ، فمشى إليه فأعلمه أنه أخطأ، فكان بعد ذلك إذا سئل عن مسألة توقف، وقال: ما فيّ قوة أمشي أربعة فراسخ.
أيها المسلمون: وتتابعت كلمات السلف أيضاً في النهي عن تتبع الرخص، واختار جمع منهم تفسيق من فعل ذلك، وذلك لأنهم كانوا على فقه ودراية في نصوص الوحي ومقاصد الشرع وأحوال الناس، ولم يكن يغيب عنهم قوله تعالى: (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُم) ( المائدة : 49 )، ومن أقوالهم في ذلك قول الإمام الأوزاعي: من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام. وقال الإمام أحمد: لو أن رجلاً عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدينة في السماع، وأهل مكة في المتعة كان فاسقاً.
ودخل إسماعيل بن إسحاق القاضي المالكي على المعتضد فدفع إليه كتاباً فقرأه، فإذا فيه الرخص من زلل العلماء قد جمعها له بعض الناس، فقال: يا أمير المؤمنين! إنما جمع هذا زنديق، فقال المعتضد: كيف؟ قال القاضي: إن من أباح المتعة لم يبح الغناء، ومن أباح الغناء لم يبح إضافته إلى آلات اللهو، ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه، فأمرَ بتحريق ذلك الكتاب.
ونقل ابن حزم و ابن عبد البر الإجماع على عدم جواز تتبع الرخص.
وقد نصّ غير واحد من أهل العلم على حرمة تتبع رخص أهل العلم، وذكروا أنه لا يجوز استفتاء من تتبعها، وردّوا على من قال أو عمل بذلك.
بارك الله ..
الخطبة الثانية :
الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: يتذرع بعض المفتين ومن سار في مسارهم بالأدلة الدالة على التيسير على هذه الأمة، وكون الشريعة الإسلامية شريعة سمحة، ولماذا تشددون على الناس والله جل وتعالى يقول: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ) ( البقرة : 185 ) ويقول تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفا) ( النساء : 28 ) ويقول صلى الله عليه وسلم: "أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة".
نقول: بأن الجواب عن هذه الشبهة من أوجه:
الوجه الأول: أن الذي أراد التيسير وبعث بالحنيفية السمحة هو الله سبحانه، فكل ما شرعه فهو يسير، وعلى ذلك فعلى المفتي أن يبحث عما شرعه الله وفق الضوابط المرعية في الاجتهاد، وإذا وصل المفتي إلى ما شرعه الله فقد وصل إلى اليسر، وليس اليسر هو ما يهواه المفتي، وليس اليسر في اتباع رخص الفقهاء وزلاَّتهم، وليس اليسر هو أن يخرج المستفتي وهو راض ومرتاح من الفتوى، وليس اليسر هو أن يمدحك الناس بعد الفتوى ويشتهر صيتك بين الأنام.
الوجه الثاني : أن في تتبع الرخص اتباعاً للهوى، فالمفتي المتتبع للرخص لا ينظر في الأدلة والمقاصد الشرعية، بل ينظر في هواه أو هوى المستفتي، وقد نُهينا عن اتباع الهوى في أكثر من دليل، مثل قوله تعالى: (فَلاَ تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعْدِلُوا) ( النساء : 135 ).
الوجه الثالث: ليس المقصودُ باليسرِ السهولةَ والدعةَ، وإلا لم يكن للتكاليف معنى، فالأحكام الشرعية تخالف هوى الناس، ليعلم الله الذين صدقوا ويعلم الكاذبين، وعندنا في الأحكام الشرعية الصلاة في الأيام الشديدة البرد، ودفع الزكاة، والحج، والجهاد، وإقامة الحدود، وغير ذلك من الأحكام الشرعية التي تخالف هوى النفوس، ومع ذلك لا يشك أحد في كونها من الشرع، ولا يشك أحد في يسر الشرع أيضاً. وباختصار: فالذي يحدد اليسر، هو الذي ذكر أن هذا الدين يسر، وهو الحكيم الخبير.
الوجه الرابع: أن القول بتتبع الرخص وترك قواعد الاجتهاد والترجيح بين الأدلة يؤدي إلى ضياع الأحكام الشرعية، وترك الناس لهذه الشريعة السمحة، والقفز على المسلّمات الشرعية، وانفراط العقد، وكثيراً ما نسمع من هؤلاء أهمية العلم بالمقاصد الشرعية، وصدقوا في ذلك، ولكن أليس اتباع زلات العلماء يؤدي إلى ترك الشريعة؟ أليست هذه الرخص تؤدي إلى تلاعب الناس بالدين، واتخاذه لهواً ولعباً، خذ لذلك مثلاً: من الفقهاء من يقول بعدم اشتراط الولي في النكاح، ومنهم من لا يشترط الشهود في النكاح، ويتركب من هذين القولين، جواز ما يعرف في بعض البلاد بالزواج العرفي، وهل يقول بذلك أحد يخشى الله ويتقيه؟ ولهذا فغالباً ما يؤدي تتبع الرخص إلى التلفيق بين الأقوال.
الوجه الخامس: لسنا ننكر على المفتي أن يعتقد القول بعد النظر في المسألة والتجرد للحق ثم يقول بالقول الذي يراه سواء أكان هذا أشد مما عليه الناس أم أخف، إذ هذا ما أداه إليه اجتهاده وهذا ما يدين الله به، ولكن إنما اللوم على من يتبع هواه في التشديد والتسهيل، أو يتبع أهواء الناس وما يشتهونه، ويفسد دينه بصلاح دنيا غيره، أو يتبع معظّماً في ذلك. قال ابن عقيل رحمه الله: "من أكبر الآفات: الإلف لمقالة من سلف، أو السكون إلى قول معظَّم لا بدليل، فهو أعظم حائل عن الحق وبلوى تجب معالجتها".
وأخيراً: هناك عدد من الأسباب التي توقع المفتي في التساهل، أذكر بعضها:
أولاً: ضعف الإيمان.
ثانياً: غياب أو تغييب أهل العلم الراسخين في العلم.
متى تصل العطاش إلى ارتواء إذا استقت البحار من الركايا
ومن يثني الأصاغر عن مراد وقد جلس الأكابر في الزوايا
ثالثاً: حب الظهور بين الناس، فيأتي بالفتوى الشاذة، أو الرخص التي لا تقوم على ساق الدليل، لكي يبحث عنه الناس ويشتهر بينهم، وتتنافس عليه الفضائيات ليُصدّر فتاوى الهوى في برامج على الهواء، ولست أعمم هذا الحكم على كل الفضائيات، ولكن للأسف كثير منها كذلك، وحب الظهور يقصم الظهور.
رابعاً: تضخيم وسائل الإعلام لهؤلاء المفتين، حتى أصبح يخيّل إليهم أنه لا يجيد الفتوى إلا هم، ولا يفقه واقع الحياة أحد غيرهم.
خامساً: الهزيمة النفسية التي يعاني منها بعض هؤلاء.
سادساً: طلبُ الدنيا، سواء أكان ذلك طلباً للمنصب أم طلباً لرضا السلطان أم غير ذلك.
اللهم ..