التذاكر -في صيام اليوم العاشر.
خالد علي أبا الخيل
التذاكر -في صيام اليوم العاشر.
التاريخ: الجمعة:9-محرم-1439 هـ
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد...
عباد الله: فاتقوا الله حق تقواه، فمن اتقى الله وقاه، ومن اتقى الله منحه رضاه، ومن اتقى الله جعل الجنة مأواه.
عباد الله: ونحن في هذا الشهر الحرام؛ شهر الله المحرم هو أحد الشهور الأربعة المذكورة في قوله: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) (التوبة:36) وهذه الأشهر بينت السُّنَّة الصحيحة شهورها كما في الصحيحين، وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم متواليات، ورجب.
وقد فضَّل الله عزَّ وجلَّ شهر محرم على غيره من الشهور بأمورٍ وأوجه:
منها: أنه شهرٌ حرام فهو أحد الأشهر الحرم.
ومنها: أن صومه سُنَّة. ومنها: أن صومه أفضل الصيام بعد رمضان كما جاء ذلك في مسلم.
ومنها: أنه الله أضافه إليه إضافة تشريفًا وتكريم، فأضافه إضافةً إليه تقتضي الفضل والتكريم.
ومنها: جمع في شهر محرم إضافته إليه، والصيام مضافٌ إليه (الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ) فأضاف الشهر، وأضاف العمل، فناسب إضافتهما إليه.
ومنها: أن فيه يومٌ صيامه يُكفِّر سنة وهو: عاشوراء كما في مسلم.
والصيام فيه أيها الإنسان، الإنسان أمير نفسه من شاء يستكثر، ومن شاء يستقل (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ) (فُصِّلَت:46) وكلما أكثر كان أتبع وأنفع، حتى لو صامه كله.
شهر الحرام مباركٌ مميمونُ |
|
والصوم فيه مضاعفٌ مسنونُ |
وثواب صائمه لوجه إلهه |
|
في الخلد عند مليكه مخزونُ |
إلا صيام يوم العاشر يتأكد صيامه؛ لورود السُّنَّة فيه الصحيحة، كما في مسلم عن أبي قتادة ﭬ، قال: سُئل رسول الله ﷺ عن صيام يوم عاشوراء فقال: (يُكَفُّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ) وكان النبي ﷺ يتحرى صيامه على غيره كما عند مسلم عن ابن عباس: ما علمت صيامًا يطلب صومه وفضله على الأيام إلا هذا اليوم.
وكان صيامه واجبًا، ثم نُسخ بفرض رمضان، فأصبح مسنونًا مستحبًا متأكدًا.
وكان السلف يعتنون بصيامه، ويربون ويرغبون أبنائهم عليه، كما روى مالكٌ في موطئه، وعبدالرزاق في مصنِّفه، وابن أبي شيبة في مصنِّفه عن عمر ﭬ كان يأمر بصيام يوم عاشوراء، فقد أرسل إلى الحارث بن هشام أن غدًا عاشوراء فصُم، وأمر أهلك أن يصوموا، وأرسل إلى عبد الرحمن بن الحارث مساء ليلة عاشوراء أن يتسحروا وأصبِح صائمًا.
وكان عليٌّ وأبو موسى الأشعري ﭬما يأمران بصيامه ويُذكران به، رواه عبدالرزاق.
وفي الصحيحين عن الرُّبيِّع بنت معوذ، قالت: كنا نُصوِّم صبياننا الصغار، ونجعل لهم اللعبة من العُهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه اللعبة من العُهن؛ حتى يكون وقت الإفطار.
فهكذا كانوا يعنون بالتربية على العمل بالسُّنَّة، ورجاء ثواب الله ومنِّه. وتعويدًا على الطاعة والعبادة، فلا تنسوا أولادكم وأزواجكم، وعُمالكم وأصحابكم بالتذكير والتنبيه غدًا لصيام يوم عاشوراء.
والحكمة من صيامه:
ما بيَّنه ابن عباس ﭬ بقوله: قدِم رسول الله ﷺ، فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: (مَا هَذَا؟) قالوا: هذا يومٌ صالح، هذا يومٌ نجى الله فيه موسى وقومه فصامه، قال: (فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ) فصامه وأمر بصيامه، رواه البخاري.
فصيامه سُنَّةٌ قوليةٌ، فعليةٌ، إقرارية اجتمع فيه أوجه السُّنَّة الثلاثة، مع ما ورد أنه يُكفِّر سنةً ماضية كما في مسلم.
ويُسن أن يُضيف إلى العاشر التاسع، كما جاء في مسلم عن ابن عباس أنه قال: حينما صام رسول الله ﷺ عاشوراء، قالوا: يا رسول الله إنه يومٌ تعظمه اليهود والنصارى، فقال: (فإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ) وقال: (لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ) فعلى هذا الرسول لم يصم إلا العاشر فقط.
وصح موقوفًا عن ابن عباسٍ ﭬ (صُومُوا التَّاسِعَ مع العَاشِرَ خَالِفُوا اليَهُودَ) رواه البيهقي وعبدالرزاق.
وأما صيام يومٍ قبله أو يومٍ بعده فلم يثبت فيه شيءٌ صحيحٌ، والخبر الوارد (صوموا يومًا قبله أو يومًا بعده) لا يصح، وجمع الثلاثة بنية السُّنية لا يصح، ومن جمعها بنية صيام ثلاثة أيام من كل شهرٍ صحَّ وأُجِر، وإفراده لا بأس به ولو متعمدًا، كما قرره شيخ الإسلام، وابن القيم عليهما رحمة الله.
وصيامه يُكفِّر الصغائر، واختُلف في الكبائر، وأما حقوق الناس فلا يُكفره الصيام إجماعًا.
وصيامه فيه ترغيبٌ شديد؛ لكونه يُكفِّر سنة، دقائق معدودة، وساعاتٍ محدودة يُغفر فيها للعبد سنين وأيامًا عديدة، فعلينا اغتنامه وصيامه؛ لندرك فضله وأجره.
ولصيامه فوائد:
الأولى: أنه سُنَّةٌ قوليةٌ فعليةٌ إقرارية.
الثانية: مشاركة موسى بهذه النعمة، وهي الانتصار على فرعون الطاغية.
الثالثة: أنه يُكفِّر سنةً ماضية.
الرابعة: الاقتداء بالصحابة وحرصهم على صيامه.
الخامسة: أنه في شهر محرم فاضلٌ صيامه.
السادسة: أنه يومٌ كان رسول الله ﷺ يتحرى صيامه.
السابعة: صيامه مع التاسع فيه مخالفةٌ لمخالفة أهل الكتاب اليهود والنصارى، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن التشبه بأهل الكتاب مثل قوله: لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع، وتصدق المخالفة بصومه مرةً في العمر، أي: العاشر مع التاسع، وبعده فلو استمر على العاشر فقط فلا بأس به.
قال ابن حجر في (الفتح) تعليقًا على قوله (لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ) ما همَّ به من صوم التاسع يحتمل معناه ألا يقتصر عليه، بل يضيفه إلى اليوم العاشر؛ إما احتياطًا له، وإما مخالفةً لليهود و النصارى وهو الأرجح، وبه يُشعِر بعض روايات مسلم.
هذا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن والاه.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
عباد الله: هذا وليُعلم أن محرم لم يرد فيه شيءٌ مخصوصٌ من العمل الصالح إلا الصيام، وصيام يوم عاشوراء فقط وما عدا ذلك فبدعةٌ محدثةٌ ضلالة كتخصيصه: بالدعاء والاستغفار، والعمرة والصدقة، أو التوسعة على العيال، أو إحياء لياليه، أو ليلة عاشوراء بالقيام والذكر والدعاء والصلاة، أو الفرح والاستبشار أو الحزن والتكدر.
فالقاعدة: لم يثبت في محرم إلا الصيام.
وقد ضل في عاشوراء طائفتان ضالتان، وفرقتان باطلتان:
الأولى: الروافض فتتخذ يوم عاشوراء يوم حزنٍ، ولطمٍ، ونوحٍ، وشقٍّ للجيوب، وضربٍ للخدود، وضرب الأجساد بالسواطير والسكاكين والسلاسل، وإخراج الدماء من الأجساد، والبكاء والصراخ والعويل، وإنشاد المراثي والأشعار، والتعازي بعزاء الجاهلية، والصياح ورفع الأصوات، فتتخذه يوم مصيبة وترح، وهمٍّ وغمٍّ وتعزية، وهم بهذا يُظهرون كما زعموا موالاة الحسن ﭬ وأهل بيته ﭬم وبئس ما زعموا.
الثانية: النواصب يظهرون الأناشيد والأشعار، والفرح والاستبشار، والسرور والحبور، وأخذ الزينة والبهجة، والتجمُّل والاكتحال، والاختضاب والتوسعة في النفقة، والإسراف في المآكل والمشارب، وكذا الاختلاط بين الرجال والنساء، وربما حصل فعل الفاحشة، فهم اتخذوه عيدًا وفرحًا، ومرحًا وأنسًا.
وعاشوراء كان معروفًا قبل البعثة، فقد ثبت عن عائشة ﭬا قالت: أهل الجاهلية كانوا يصومونه؛ ولهذا كان واجبًا قبل، ثم نُسخ وجوبه.
هذا وينبغي عدم الاغترار والاعتماد على الصيام فقط وأنه يُكفِّر سنةً ماضية، فبالتالي يعمل ما يشاء من الذنوب، بل ينبغي يصومه ويرجو ثوابه، وعظيم أجره، وقبول صيامه، ويسأل قبول عمله، فالمؤمن يرجو ويخاف.
وهناك مسائل يحسن التنبيه عليها وهي:
الأولى: أن من عليه قضاءٌ من رمضان هل يصوم عاشوراء قبل القضاء أم لا؟ والجواب: أن الصحيح له أن يتطوع بصيام عاشوراء قبل القضاء وللقضاء أيام أخرى.
الثانية: لو نوى القضاء في يوم عاشوراء، فيُقال: لا يخلو من حالات:
الحالة الأولى: أن ينوي عاشوراء فقط ولا ينوي القضاء، فهذا لا يكون إلا عن عاشوراء.
الحالة الثانية: أن ينوي القضاء وعاشوراء جميعًا، فهذا يقع عن القضاء، ويُثاب على عاشوراء -إن شاء الله- وفضل الله واسع.
الحالة الثالثة: من الناس من يتذكر أثناء النهار أن اليوم يوم عاشوراء، فيُقال لهذا: يجوز صيامه بنيةٍ من النهار بشرط أنك لم تأكل شيئًا قبل، لكن لا يُجزئ عن الفرض، ويُجزئ عن عاشوراء وفضل الله واسع.
الحالة الرابعة: لو نوى القضاء لمن كان عليه قضاء بنيةٍ من النهار، فإنه لا يصح.
ومن بدع عاشوراء أيها الإخوة الأوفياء:
تخصيصه بعبادةٍ غير الصيام.
وتخصيصه بالفرح والسرور والتوسعة في النفقة على العيال.
تخصيصه بالحزن والمآتم والأكدار والأحزان.
تخصيصه بقيام ليلة العاشر.
تخصيصه بعمرة أو دعاءٍ أو صدقةٍ أو زيارة المقابر أو استغفار.
تخصيصه بإخراج الزكاة تأخيرًا أو تقديمًا.
تخصيصه بالذبح، وكذا الاغتسال والاكتحال.
وكذا تخصيصه بأحاديث موضوعة مكذوبة كحديث (من وسَّع على أهله يوم عاشوراء وسَّع الله عليه سائر السَّنة) فكل الأحاديث في فضل عاشوراء ما عدا الصيام ضعيفةٌ موضوعة.
وتخصيصه بإجازةٍ أو عطلةٍ أو ترك عمل.
أو تخصيصه بجلوسٍ في المسجد أو اعتكافٍ فيه أو خلوةٍ أو مناجاة.
وعليه فليُحذر من الرسائل الجوالية والنصية، والمواقع والمنتديات، والتغريدات التي تنشر البدع والمحدثات، والأحاديث المكذوبة في عاشوراء، والقصص المختلقة، فلا يُرسل الإنسان إلا ما صح، وسأل عنه أهل العلم الموثوقين.
فلا يقص ولا يلصق، ولا ينقل ولا ينسخ إلا ما دل عليه الدليل الصحيح، وإلا باء بالإثم والوزر القبيح، والتبعة في نشر البدع والكذب والخرافات، وكان من دعاة الضلالة التي يبوء بإثمها وإثم من عمل بها وأرسلها ونشرها ونسخها، فليس كل بيضاء شحمة، ولا كل حبةٍ قُبة.
وعليه أيضًا ينبغي الحذر من إرسال مقاطع الروافض وما يفعلونه سواءً في باب الأفراح أو في باب الأتراح.
فيجب علينا أن نتقي الله، وأن نعبد الله على بصيرة، وأن نعتصم بالكتاب والسُّنَّة.