التخصصات العلمية بين الانفتاح والانغلاق - أ.عبد الحفيظ اربيحو

الفريق العلمي
1439/04/13 - 2017/12/31 12:45PM

أولاً: أهداف المقال:

إن الغرض الأساس من هذا المقال، هو:

  • بيان ما بين العلوم والمعارف الإنسانية من ترابط وامتدادات.
  • بيان انعكاسات آفة تقبيح التخصصات على القراء والمتعلمين.

 

ثانياً: إشكالية المقال:

يحاول صاحب المقال أن يجيب عن سؤالين اثنين:

السؤال الأول: إلى أي حد يمكن لصاحب التخصص الواحد أن يستفيد من باقي التخصصات؟

السؤال الثاني: ما هي انعكاسات القطيعة بين التخصصات، وتقبيحها، على عقل القراء والمتعلمين؟

 

ثالثاً: محاور المقال:

يضم هذا المقال محاور سبعة، هي:

1- المعنى الحقيقي للمتخصص.

2- الجذور التاريخية للتخصص.

3- التخصص لا يعفي من الانفتاح على باقي العلوم.

4- آفة تقبيح التخصصات وانعكاساتها على القراء والمتعلمين.

5- المقصد الهرمي للتخصصات العلمية.

6- الفصل بين التخصصات العلمية وأثره على البنية العقلية.

7- التخصصات العلمية بين الاحترام والتسيب.

 

المحور الأول: المعنى الحقيقي للمتخصص:

لا بد في البداية من تصحيح مفهوم المتخصص، السائد في أوساط طلبة العلم وبعض المثقفين، من كونه ذلك الشخص الحاصل على شهادة من الشهادات الجامعية في مسار علمي ما.

إن نسبة الشخص إلى فن من الفنون، أو علم من العلوم، أو تخصص من التخصصات، ونعتَه به، ليس لكونه حاصلا على شهادة فيه، فالظفر “بشهادة” في التخصصات العلمية، لا يعني البروز فيها، ولا تعطي لصاحبها الشرعية الحقيقية للانتساب إليها، وإنما تتأكد النسبة إلى تخصص ما، وتصدق عليه وسما ورسما، حقيقة ومعنى، بناء على معايير علمية، نذكر منها على سبيل المثال:

 

شهادة المتخصصين:

وأعني بذلك: أن يشهد لك المبرَّزون في ذلك الفن، إما تصريحا أو تلويحا.

وأعني بالتصريح: أن تُنسَبَ إلى “الفن” عندما يُسْتَبْدَأُ فيك الرأي.

كأن يُقال للمبرَّز في علم المقاصد مثلا: ما رأيك في الدكتور أحمد الريسوني؟ فيقول: لا يشق له غبار، أو هو متمكن أمكن، أو ما شابه ذلك من العبارات المشعرة بأنك من أهل التخصص.

وأعني بالتلويح: أن يكثُر، ويتكرر نقلُ كلامك واستحضارُه، والاستشهادُ به واعتمادُه.

 

فها أنت ترى مثلا، أنه لا يمكن الحديث عن علم المقاصد، دون استحضار كلام الإمام الشاطبي، والإمام الطاهر بن عاشور والإمام علال الفاسي -رحمهم الله تعالى-، كما لا يمكن الحديث عن الفقه دون استجلاب كلام وآراء أقطاب المذاهب الأربعة.

ثم يبعد كذلك أن تتحدث عن علم الأصول في غياب أقوال الإمام الغزالي والإمام الجويني.

 

إن استحضار أقوال وآراء هؤلاء والاحتجاج بها دليل على أنهم من أهل التخصص في ذلك الفن الذي سيقت أقوالهم فيه؛ لأنه ليس من أدبيات البحث العلمي أن نحتج للمسألة العلمية بكلام غير المتخصصين في الحقل المعرفي الذي تنتمي إليه تلك المسألة، فلا بد عند النقل، أو الاستشهاد، أو الاحتجاج، أو البيان، للمسائل العلمية، من الرجوع لأهل الاختصاص، وأرباب الفن؛ لأنهم مظنة إحكام القول فيها، وقطع دابر الظنون حولها، فلا يعقل مثلا، عند تفصيل القول في كلمة: “النظر”، وبيان معانيها ودلالاتها، أن نعود إلى كتب التفسير، أو كتب الفقه، -وإن كانت هذه المظان لا تعدم فائدة في خصوص المسألة-! بل لا بد من الرجوع إلى كتب أهل الاختصاص، وهي هنا، كتب اللغة.

 

البروز في ذلك التخصص والإبداع فيه إما تنظيرا أو تطويرا:

من المظاهر التي تعطي شرعية الانتساب للعلم: الإبداعُ فيه، إما على مستوى التنظير، أو على مستوى التطوير، فالشافعي -رحمه الله- مثلا يعد من أهل التخصص في علم أصول الفقه؛ لأنه هو المنظر الحقيقي له، وواضع أسسه، كما يعد من جاء بعده من الأصوليين من أهل الاختصاص فيه أيضا؛ لأنهم طوروا هذا العلم ووسعوا مباحثه، وهكذا..

 

المحور الثاني: الجذور التاريخية لظاهرة التخصص:

تجدر الإشارة هنا إلى أن قضية التخصص ليست من الطوارئ العلمية، ولا من المحدثات المعرفية، بل إن هذه الظاهرة تتصل جذورها بنشأة العلوم، وترتبط بتاريخ ميلادها، بل لا أكون مجازفا إن قلت: إن بوادر التخصص ظهرت زمان النبي -صلى الله عليه وسلم-، وما تلك النصوص الحديثية التي يبرز فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- تفوق بعض الصحابة على بعض في مجال من المجالات العلمية أو جانب من جوانب الحياة إلا مظهر من مظاهر التخصص، ودليل على إمكانية الانقطاع للعلم الواحد، والتعمق فيه، والانكباب عليه وحده، إلى حد الإحاطة والإلمام الكامل الشامل، فقد روى ابن ماجة (ت 273هـ) عن أنس بن مالك -رضي الله عنهم جميعا- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَشَدُّهُمْ فِي دِينِ اللَّهُ عُمَرُ، وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ، وَأَقْضَاهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَأَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا، وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ”[2].

 

فهذا النص وغيره من النصوص الشرعية يؤسس لقضية الانشغال بالعلم الواحد، والتخصص فيه، والتمكن من مسائله، والإحاطة بجزئياته، وعلى فرْض أنه ليس هناك في الشرع ما يؤصل لظاهرة التخصص، ولا ما يحدد سيرورتها التاريخية؛ فإن دليل العقل، وطبيعة العلوم، يقضيان بمشروعية الانقطاع للعلم الواحد والتخصص فيه؛ لأن “العلوم… متسعة جدا، لا يفي بالاستيلاء عليها العمر الطويل، بسبب ما هي عليه بذاتها من كثرة أصولها وفروعها… مما يحتاج معه طالبها إلى… حفظ ما لا بد منه من كتب أصولها وفروعها، بل ومن كتب الفنون التي هي وسائل إليها، وبدون ذلك لا يمكن لمزاول العلوم… الحصول على ملكة فيها”[3].

 

ولا يسع طالب العلم أمام هذه الجملة من الإكراهات المعرفية إلا اللجوء للعلم التي تشتهيه نفسه، وتميل إليه رغبته، حتى يمهر فيه، ويتمكن من ناصيته، ويأخذ بجميع تلابيبه وأطرافه؛ لذلك نجد في تاريخ العلوم الإسلامية أن هناك فئة اشتهرت باسم الفقهاء، وأخرى باسم المحدثين، وأخرى باسم المفسرين، وأخرى باسم الأصوليين… وهكذا… غير أن ذلك لا يعني أنهم لم تكن لهم مشاركات في التخصصات الأخرى، بل كان لهم القدح المعلى، واليد الطولى فيها، ومنتوجاتهم العلمية خير دليل على ذلك، وإنما سموا بهذه الأسماء، واشتهروا بهذه الأوصاف والألقاب، نظرا لبروزهم في ذلك العلم الذي نسبوا إليه.

 

المحور الثالث: التخصص لا يعفي من الانفتاح على باقي العلوم:

ليس هناك أدنى شك في إيجابيات التخصص فلو لم يكن من حسناته إلا أنه يمكِّن صاحبه من التعمق في العلم الواحد، والإحاطة به، والأخذ بنواصيه لكفى.

 

ليس من المعقول ولا من المقبول نعت التخصص بالانغلاق والتقوقع، فالله -تعالى- قسم العقول والمواهب كما قسم الأرزاق والآجال، فإذا اختار شخص لنفسه سبيلاً من العلم يراه أسلك طريق لهضمه والتمكن منه، وأدى في ذلك لله حقا على المسلمين كان من البغي التشغيب عليه بطلب الكمالات التي لا تتهيأ لكل أحد”[4]

 

لأن “البراعة في بعض العلوم لا تستدعي المشاركة في كل علم لا تمس حاجة ذلك البعض إليه، فالطبيب في العلم بالأدواء والعيوب، والعَادُّ في صحة القسمة… غير مضطر إلى معرفة العربية ولا العلم بمقاصد الشريعة، وكذا القاضي يبني في قيمة المتلفات وغيرها على اجتهاد المقوِّم، وإن كان لا يعرف ذلك”[5].

 

غير أنه “ينبغي لكل ذي علم أن يلم بباقي العلوم، فيطالع منها طرفا، إذ لكل علم بعلم تعلق”[6] فصاحب التخصص يجمُل به التطلع إلى ما عند الآخرين، لكي لا يكون جوهراً فرداً منغلقاً على ذاته، فرجل العلم الحقيقي هو المبسوط فكراً، الواسع آفاقاً، المنفتح على جميع التخصصات، “لا يدع نوعا من أنواعها إلا وينظر فيه نظرا يطلع به على مقاصدها وغاياتها، ثم إن ساعده العمر طلب التبحر فيها، وإلا اشتغل بالأهم منها واستوفاه، وتطرق إلى البقية، فإن العلوم متعاونة وبعضها مرتبط ببعض”[7].

 

يقول ابن الجوزي (ت 597هـ) -رحمه الله- في هذا المعنى: “ينبغي للفقيه ألا يكون أجنبيا عن باقي العلوم، فإنه لا يكون فقيها، بل يأخذ من كل علم بحظ”[8]؛ لأنه “كم يخفى على الفقيه والحاكم الحق في المسائل الكثيرة بسبب الجهل بالحساب والطب والهندسة، فينبغي لذوي الهمم العلية، ألا يتركوا الاطلاع على العلوم ما أمكنهم”[9].

 

وعليه فالمتخصص في علم من العلوم يقبح به الاقتصار عليه وحده، والوقوف عنده، ويجمل به الاطلاع والانفتاح على العلوم الأخرى، والنهل منها، ومعرفة القدر الذي يمكنه من الإفادة منها بشكل وظيفي، أي: أن يأخذ منها بقدر ما يحتاج إليه في تخصصه على الأقل، وألاَّ يَعَاف العسل وإن وجده في مِحْجَمة الحجام كما قال الغزالي -رحمه الله-.

 

إن أرباب التخصص قديما لم تكن لهم حدود معرفية تحدهم وتقصرهم على مادة تخصصهم فقط، أي: لم يكن في عهد الفقهاء –مثلا- من يجهل الضروري من علم اللغة والحساب، والتاريخ، والمنطق، والأصول، ومراتب درجة الأحاديث!… ولا من اللغويين، والمحدثين، والأصوليين، والحسابيين، والمؤرخين، من يجهل ما يُصلح به دينه من الفقهيات، بل كان كل واحد من هؤلاء، مبرَّز في تخصصه، مشارك وملم بضروريات ومبادئ التخصصات الأخرى، ويدلك على ذلك، تصانيفهم، وكتبهم التي هي عصارة أعمارهم؛ فالفقهاء -مثلا-كانوا أكثر الناس استعمالا وتوظيفا لعلم الاجتماع، وإن لم يكونوا يعرفونه بهذا الاسم، ويظهر ذلك من خلال استحضارهم لجملة من القواعد، كقاعدة “مراعاة السياق” في توجيه دلالة النص، واستنباط الأحكام، وتقرير المعاني، ففهم الخطاب عندهم لا يقوم إلا على استكمال مجموعة من الضوابط العلمية الدقيقة، أبرزها النظر إلى السياق الزماني والمكاني… فهذا البعد المنهجي في استمداد المعنى المراد من النص، يحيلنا على مدى موسوعية العقل الفقهي، وانفتاحه على باقي التخصصات الأخرى.

 

غير أنه لما تشعبت العلوم وتناسلت، ورحلت المعارف من حقل إلى حقل، واستقلت بذاتها، بعد أن نضجت واستوت على سوقها، ضُرب على أهل التخصص بسور له باب من فلاذ، فلا تجد في الغالب الأعم صاحب العلم الواحد يخرج عن تخصصه قيد أنملة لجهله بضروريات ومبادئ العلوم الأخرى.

 

إن ما أسميناهم آنفا بالفقهاء والمحدثين والأصوليين رغم طغيان اسم التخصص عليهم، وغلبة انتسابهم إلى علم بعينه، إلا أنهم كانوا منفتحين على جميع التخصصات، ومشاركين في أغلبها، ومن طالع سيرهم ومناقبهم وكتبهم، سيناله العجب العجاب.

 

ولك أن تتساءل -قارئي الكريم- عمن أنجب هذه التخصصات الكثيرة والفنون العلمية المتنوعة من أنجبها؟ ومن أي رحم خرجت؟

 

غير أنك إذا تأملت مليا ستجد أن المنجب الفعلي لهذا الكم الهائل من التخصصات العلمية، الموجودة حاليا هو العقل الموسوعي القديم الذي كان يُدمج بين مجموعة من الأدوات العلمية، ويتوسل بكثير من المعارف الإنسانية من أجل إنتاج المعرفة، العقل الذي تفجرت منه أنهار العلوم والحقائق، دون أن يَعْرِفَ لها انتماء، فمن تلك العقول الموسوعية التي نبعت منها المعارف وتفرعت عنها العلوم والفنون، وتجاوزت حدود تخصصاتها، وانفتحت على علوم أخرى، وبلغت فيها شأوا رفيعا، وارتبط ذكرها بذكرها، بل ما كتب لها الاشتهار إلا من خلالها، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

 

  • أبو الوليد ابن رشد (520هـ/595هـ) الذي جمع بين الفقه والفلسفة والطب… واشتهر كثيرا بالفلسفة، وذلك من خلال كتابه الماتع: “تهافت التهافت” الذي رد فيه على كتاب: “تهافت الفلاسفة” للإمام الغزالي.

 

  • محمد بن موسى الخوارزمي، الذي جمع بين الفقه، والفلك، والرياضيات، فاشتهر بالرياضيات، حتى إن كتبه قد ترجمت لغير ما لغة، خاصة كتاب: “الجبر والمقابلة”.

 

  • محمد بن أحمد البَيْرُوني (362هـ/ 440هـ) الذي جمع كذلك بين الفقه والجغرافيا والتأريخ، والمترجمة، بل وكان مشاركا في جميع العلوم والمعارف، حتى وُصف بأنه من بين أعظم العقول التي عرفتها الثقافة الإسلامية…

 

وبهذه الإسهامات العلمية المختلفة التي قدمها هؤلاء الرواسي سُدَّ فراغ مهول في بنية المعرفة الإسلامية، وتشكلت جسور للتفاعل والتواصل مع باقي العلوم الأخرى.

 

المحور الرابع: آفة تقبيح التخصصات وانعكاساتها على القراء والمتعلمين:

من الآفات التعليمية التي ضربت حقيقة النبوغ في مقتل، وكبحت نهضة العلوم كبحا، وأقامت بين التخصصات العلمية سدودا منيعة، وحجبت عن أربابها رؤية بعضهم بعضاً: آفة تقبيح التخصصات، حتى أضحينا نقرأ بأن الفلسفة أس السفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال، والمنطق مدخل الفلسفة، ومدخل الشر شر… كما نسمع شيئا آخر من هذا الهراء الذي يدل على أن هناك خواءً أخلاقياً أولاً، وفراغاً معرفياً وعلمياً ثانياً؛ لأن الغالب الأعم أن من جهل شيئًا عاداه (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ) [الأحقاف: 11]، ورحم الله الإمام أحمد (ت 241هـ) عندما رَدَّ الإمام يحيى بن معين (ت233هـ) إلى الجادة والصواب، وذلك لما تكلم في الشافعي، فقال له الإمام أحمد: “لستَ تدري يا أبا زكريا شيئا من معاني قول الشافعي، ومن جهل شيئا عاداه”[10].

 

إن تدريس التخصص الواحد من مدخل تكاملي يُكسب المتعلمَ أو القارئَ قيمَ التآخي والجوار، وخلقَ التآزر والتعاون؛ لأنه إذا استشعر أن جميع التخصصات العلمية، إنما تنفتح على بعضها البعض لتشكل نسقا متكاملا تتعاون من خلاله على إنتاج المعارف سينقدح ذلك الشعور في نفسه، فيثمر سلوكا وخلقا إيجابيا.

 

وكذلك إذا قُبِّحتْ في وجهه جميع التخصصات، ونُعتتْ بأوصاف بذيئة؛ سيستشعر المتعلم أو القارئ في نفسه: أن هناك قطيعة تامة بين هذه التخصصات، فيدفعه ذلك إلى معاداة كل مخالف له في تخصصه، والإعجاب والتعالي على غيره بما عنده.

 

ومما يؤسف له: أن ظاهرة تقبيح التخصصات، والتنقيص من أربابها قديمة قدم العلوم، ذات جذور تاريخية، أرجع العلامة الطاهر ابن عاشور بوادرها إلى زمان تقديس علم الباطن، فقال في هذا الصدد: “… فإنهم (يعني الصوفية) حقروا علوما عجزت عنها أقلامهم من العلوم العقلية العليا والشرعية؛ كعلم أصول الفقه وعلم البلاغة، والتاريخ والعمران، وأسرار التكليف ومقاصد الشريعة”[11] غير أن تقبيح هذه التخصصات في هذه الحقبة التاريخية، ومن قبل أهل الباطن قد يكون له ما يسوغه، وهو نفور الناس عن علم الباطن، وقلة التعلق بالله -تعالى-، والانكباب على العلوم العقلية، فالتقبيح في هذه الحقبة كان ذريعة لرد الناس إلى الله، وتعلقهم به مظهراً ومخبراً.

 

وهذا المسوغ الذرائعي استُنِد عليه في التنفير من بعض العلوم في غير هذه الحقبة، ومن قبل غير المتصوفة، فهذا علم المنطق قد حوصر بالقول والفعل، محاصرة شديدة، حاصره بعض الفقهاء بالقلم والكلام، فحرموا الاشتغال به، كابن الصلاح وتلميذه النووي، وابن تيمية -رحمهم الله تعالى جميعا-.

 

وذكر الإمام المقري في “نفحه”: “أن المغاربة كانوا يجلون العلوم كلها إلا الفلسفة والمنطق، والتنجيم، وكثيرا ما تعرضوا لكتب الفلسفة والمنطق بالإحراق واتهام أصحابها بالكفر والزندقة”[12].

 

ولا يهمنا هنا طبيعة علم المنطق الذي حرم الاشتغال به، وضرب عليه الحصار، هل هو مطلق المنطق أم المشوب بالفلسفة اليونانية المناهضة للشرائع السماوية فقط؟

 

وإنما الذي يهمنا في هذا السياق هو: أن نبرز أن المسوغ الذي اتكأ عليه أهل التصوف لتقديس علم الباطن والرفع من قيمته، وتقبيح بعض العلوم الأخرى، والتقليل من شأنها، هو المسوغ نفسه الذي اعتمده بعض الفقهاء والمحدثين في تقبيح علم المنطق والتنفير منه، ف “إفتاء ابن الصلاح والنووي بجواز الاستجمار بكتب علم الفلسفة والمنطق يحمل على ما كان في زمانهما من خلط كثير من كتبه بالقوانين الفلسفية المنابذة للشرائع السماوية” التي قد تعصف بضعاف العقيدة، وتفسد علاقتهم بالله، أو ربما قطعتها بالمرة.

 

لكن لما اتضحت الأمور وتمكنت العقيدةُ من قلوب الناس، وقويت في الدين شكيمتهم؛ لم يعد هناك أي مبرر لتقبيح مثل هذه التخصصات، أو الدعوة إلى مناهضتها ومقاطعتها، خاصة في عصرنا هذا الذي أصبح فيه التخصص في مثل تلك العلوم أمرا ضروريا، وذلك لتحقيق التوازن في حياة الناس.

 

إن تعصب أهل العلوم لعلومهم والاختصاص لاختصاصهم مما لا يكاد يسلم منه أحد؛ فإن لم يقع ذلك منه صراحة وقع إشارة وضمناً، فما يمارسه بعض الباحثين من رفع درجة علم على علم، وفن على فن، وتخصص على تخصص آخر، وتصويره للقراء والمتعلمين على أنه منتهى ما تبلغه العقول؛ تنفيرٌ (غير صريح) مما سوى ذلك من الفنون، وضرب من ضروب تقبيح باقي التخصصات، ولون من ألوان تفكيك العلوم؛ لذلك نجد الإمام الغزالي يحذر من هذه الآفة الخطيرة، وذلك في سياق حديثه عن وظائف المعَلِّم، فذكر رحمه الله في الوظيفة الخامسة: “أن المتكفل ببعض العلوم ينبغي أن لا يُقبِّح في نفس المتعلم العلوم التي وراءه كمعلم اللغة، إذ عادته تقبيحَ علم الفقه، ومعلم الفقه، عادته تقبيحَ علم الحديث والتفسير، وأن ذلك نَقْل محض، وسماع، وهو شأن العجائز، ولا نظر للعقل فيه، ومعلم الكلام، يُنفِّر عن الفقه، ويقول: ذلك فروع، وهو كلام في حيض النسوان… فهذه أخلاق مذمومة للمعلمين، ينبغي أن تجتنب، بل المتكفل بعلم واحد، ينبغي أن يوسع على المتعلم طريق التعلم في غيره”[13].

 

كان من المفروض المحتم أن تؤثر تلك العلاقة الإبستيمولوجية والمنهجية التي تطبع العلوم الإنسانية كلها في نفسية ذوي التخصصات المختلفة، وتثمر في أرواحهم نوعا من الانسجام والتلاقح، وتنسج بينهم سياجا من التلاحم والاحترام، علاقة تتسم بروح التعاون والتآزر، والتكامل، والأخذ والعطاء، لتشكيل نسق معرفي إنساني متكامل، غير أن واقع ذوي التخصصات خلاف هذا تماما -مع كامل الأسف-.

 

فالناظر بعين الإنصاف في طبيعة علاقة هؤلاء، سيجدها لا محالة علاقة نِفار لا علاقة تشاور وحوار، علاقة تجاف لا علاقة تلاق وتلاف، كلٌّ معجب بما لديه، هائم في حبه، متعال على غيره به، لا يرى تقدما للفكر الإنساني وتطوره في تخصص غير تخصصه، فهو أساس الانتهاض الفكري عنده، وركيزة التقدم الحضاري، وعماد ازدهار العمران البشري، وما سواه من التخصصات نافلة من النوافل لا يحتاج معها إلى استقبال قبلة، ولا إلى اجتهاد في تحديدها، بل ربما قبحها ونعتها بنعوت شائنة، وحط من قيمة أربابها وأساء فيهم القول، وقد أشار الإمام الغزالي إلى هذا المعنى في كتابه: “الإحياء”، وذلك عقب حديث: “طلب العلم فريضة على كل مسلم” حيث قال هناك: “اختلف الناس في العلم الذي هو فرض على كل مسلم، فتفرقوا فيه أكثر من عشرين فرقة، (…) كل فريق نزل الوجوب على العلم الذي هو بصدده، فقال المتكلمون، هو علم الكلام، إذ به يدرك التوحيد… وقال الفقهاء هو علم الفقه إذ به تعرف العبادات والحلال والحرام… وقال المفسرون والمحدثون: هو علم الكتاب والسنة إذ بهما يتوصل إلى العلوم كلها، وقال المتصوفة هو علم الباطن…”[14].

 

ولو نظر أرباب التخصصات كلها إلى معالي المعاني التي تسعى هذه التخصصات لتحقيقها لما تفاضلوا، ولَاحْتَرمَ كل واحد منهم ما عند الآخر، بل ولَدَعَوا إلى الاستفادة منه.

 

المحور الخامس: المقصد الهرمي للتخصصات العلمية:

إن المعارف الإنسانية كلها تشكل نسقا كليا وتتغيـر هدفاً واحداً، وهو بناء الإنسان والعمران، فهي وإن كانت مختلفة المبادئ والمصادر فهي مؤتلفة الهدف والغاية، فجميع التخصصات إذا “أمعنا النظر فيها نجدها ترجع لحفظ الأمور التي اتفقت الشرائع على وجوب المحافظة عليها، أعني الدين، والبدن، والعرض، والمال، فالبدن مثلاً يحفظ بعلم الطب، ومن متمماته، كل ما يزداد به الطبيب مهارة في صناعته من علوم الطبيعة، والمال أيضاً يحفظ بالحساب وبالفلاحة وسائر الصناعات… والعرض يستعان على حفظه بكل ما يعين على اكتساب المال الحلال من العلوم المشار إليها؛ فإن صاحبها لا يضطر إلى التهافت على أموال الناس بأي طريق أمكنه، ولو دنس عرضه، أما الدين فإن سائر المعارف الدنيوية المشار إليها مما يتوصل بها إلى حفظه وتهيئة أسباب استقامته”[15].

 

فعلماء المعرفة بصفة عامة كلهم يسعون إلى هدف واحد من خلال تناولهم للمعارف والحقائق العلمية، بمعنى أن العلوم كلها تسبح في فلك واحد وهو تأطير الإنسان وبنائه عقلا وروحا “فالعَالِم الدِّيني، يبلور (المظهر الديني) للعبادة وتطبيقاته، أي: يقوم بفقه آيات الكتاب والسنة لبلورة علاقة الإنسان بالله… ويتفرع عن ذلك تخصصات كثيرة في شؤون العقيدة والعبادة (تلك هي علوم الشريعة).

 

والعالم الطبيعي يبلور (المظهر الكوني) للعبادة، أي: يقوم بفقه آيات الله في الآفاق لبلوة علاقة الإنسان بالكون… ويتفرع عن ذلك تخصصات كثيرة لا حصر لها (تلك هي العلوم الطبيعية).

 

والعالم الاجتماعي يبلور (المظهر الاجتماعي) للعبادة، أي: يقوم بفقه آيات الكتاب والسنة النبوية لبلورة علاقة الإنسان بالإنسان، وعلاقة الإنسان بالحياة، ويتفرع عن ذلك تخصصات لا حصر لها في شؤون التشريع، والاجتماع، والتربية وغير ذلك (تلك هي العلوم الاجتماعية)… فكلٌّ من الأطراف السابقة فقيه يختص بفقه جانب من الوجود القائم”[16].

 

لقد “كان العلماء -بكافة تخصصاتهم- يهتدون ببصائر الوحي، ويسعون لغاية واحدة، وكان الناس جميعا بما فيهم العلماء المتخصصون في المعارف الطبيعية والطبية والفلكية وغيرها، يفزعون لأهل الذكر لسؤالهم فيما يشكل عليهم، ومن طالع كتب العلماء المسلمين بشتى تخصصاتهم، لم تغب عنه فيها النبرة الإيمانية المستهدية بهدايات الشريعة”[17] فتم بذلك أسلمة المعرفة الإنسانية، وكُسِّرتْ تلك النظرةُ الثنائية التقليدية للعلوم التي تقضي بأن هناك علوما دنيوية وأخرى دينية.

 

إن النظر للتخصصات العلمية بهذا المنظار، سيجنبنا -لا محالة- آفة الفصل بين التخصصات، ورَفْع بعضها على بعض، بل سيدفعنا إلى تقليب النظر وإعادته، في تلك القسمة الثنائية التي اعتاد العلماء أن يقسموا على وفقها العلوم، ويمايزوا بينها، فيدرجون هذا العلم تحت مسمى: العلوم الأخروية، وهذا العلم تحت مسمى: العلوم الدنيوية، فليس عندي علم دنيوي وآخرُ أخروي، ما دام الدين لا يستقيم إلا بالدنيا، وما دامت كل هذه العلوم تتوخى بناء الإنسان وحفظ ضرورياته.

 

المحور السادس: الفصل بين التخصصات العلمية وأثره على البنية العقلية:

تحدث الجابري عن الأثر الوخيم الذي يمكن أن ينجم عن تفكيك بنية العلوم، فخلص إلى أن هذا التفكيك الإجرائي لمفردات العلوم ووحداتها يمكن أن يحدث تفكيكا في البنية العقلية، ومن ثَم تفكيك في بنية التفكير، فيصير العقل البشري معتادا على التفكير الجزئي، وتحليل الظواهر العلمية والمعرفية تحليلا ذريا، في حين تجده عاجزا كل العجز عن معالجة القضايا العلمية في إطارات كلية، وأنساق مترابطة.

 

والخلاص من هذه الآفة الخطيرة -في رأيي- يكمن في تجذير مبدأ وحدة العلوم في نفوس القراء والمتعلمين، وشد انتباههم إلى ضرورة الانفتاح على باقي العلوم، والبحث عن المشترك المعرفي بينها، والتجسير بين مباحثها ووحداتها قدر المستطاع، والتحرر من عقلية الإلغاء والتقوقع على الذات، والفهم الأوحد على مستوى التأليف والتدريس معا؛ لينقدح في خلد القارئ والمتعلم أن هذه “العلوم مرتبة ترتيبا ضروريا، وبعضها طريق إلى بعض”[18]، وأنها متآخية متعاونة على إنتاج المعارف والحقائق العلمية، وأنها ليست جزرا متناثرة، أو معارف متضاربة، وإنما هي نسق كلي، وبناء متراكب، مرصوص اللبنات.

 

المحور السابع: التخصصات العلمية بين الاحترام والتسيب:

لقد نبتت في بعض أهل التخصصات نابتة خبيثة، ونتأ في أوساطهم ورم خطير؛ إنه القفز عن تخصصهم، والتجاسر على تخصص غيرهم، وإن كانوا أجهل فيه من حمار توما الحكيم.

 

إن “علماء هذه الملة على وظائف شتى، وليسوا في العلم على جديلة واحدة، فرب عالم بالحلال والحرام لا يهتدي لخدع المتخاصمين ومكايدهم، ورب إمام في معرفة الحديث وعلله، متبع في الفقهيات لغيره، ومن برز في شيء دون شيء، قبل قوله فيما يعلم دون ما يجهل”[19].

 

فالقول والرأي العلمي في مسألة معينة إنما يكتسي صبغة القوة إذا صدر من أهل الحظيرة، إذ “لا عبرة بالمتكلم في الفقه، ولا بالفقيه في الكلام، بل من يتمكن من الاجتهاد في الفرائض دون المناسك، يعتبر وِفاقه وخلافه في الفرائض دون المناسك، ولا عبرة أيضا بالفقيه الحافظ للأحكام والمذاهب، إذا لم يكن متمكنا من الاجتهاد”[20].

 

ويشهد لهذا أن سفيان بن عيينة (ت198هـ) لما تكلم في بعض المسائل الفقهية، قال له الشافعي (ت204هـ): “يا أبا محمد ليس هذا من صنعتك إنما صنعتك الحديث، وإنما هذا لأهل النظر”[21].

 

لقد كان المتخصصون قديما يشتغلون داخل دوائر تخصصاتهم، أي أنهم لم يكونوا يتجاوزن ما يعرفون إلى ما لا يعرفون، عندما يستفتون أو يسألون، بل كانوا وقافين عند حدود تخصصاتهم، ولم يثنهم -قط- جهلهم بالباقي عن الإحالة على أصحاب ما عنه استفتوا أو سئلوا.

 

لقد شكل هذا الاحترام -وقتئذ- انسجاما متكامل الأركان بين جميع فرقاء المعرفة، وانعكس على علاقتهم الشخصية، فالناظر في الكتب الفقهية -مثلا- سيجد سمات التآزر والتعاون والانسجام بين التخصصات بارزة للعيان، حيث يجد أن أربابها يحيلون بين الفينة والأخرى على أهل التخصص والخبرة، فيما لا يمت إلى حظيرة تخصصهم بحبل، فهذا الإمام الزركشي (ت 794هـ) -رحمه الله- يؤكد على أن “ظهور الحمل يعرف بقول أهل الخبرة في الآدمي وغيره”[22].

 

وقس على ذلك نماذج كثيرة من هذا القبيل.

 

وفي الأخير: نضرع إلى الله -تعالى- أن يرحم ضعفنا، ويتجاوز عنا، هو ولينا ونعم الوكيل.

 

_________________

[1] عبد الحفيظ اربيحو: من مواليد 1988م، دولة المغرب، المهنة: أستاذ وباحث متخصص في ديداكتيك العلوم الشرعية.

[2] سنن ابن ماجة، باب فضائل زيد بن ثابت، ج 1/ ص 55، تحقيق: فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية.

[3] “أليس الصبح بقريب”، محمد الطاهر بن عاشور، ص: 128، دار السلام – القاهرة، الطبعة: الأولى 2006م.

[4] فقه تاريخ الفقه، د هيثم بن فهد الرومي، ص: 144، مركز نماء للبحوث والدراسات، الطبعة: الثانية، بتصرف.

[5] “أليس الصبح بقريب” الطاهر ابن عاشور، ص: 128.

[6] صيد الخاطر، ابن الجوزي، ص: 448، تحقيق: عبد القادر أحمد عطا، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة: الأولى، 1992م.

[7] إحياء علوم الدين، ص: 63، دار ابن حزم، بيروت – لبنان، الطبعة: الأولى، 2005م.

[8] صيد الخاطر، ابن الجوزي، ص: 167.

[9] الفروق، القرافي (ت 684هـ)، ج4/ص: 23، تحقيق: عمر حسن القيام، مؤسسة دار الرسالة، الطبعة: الأولى: 2003م.

[10] مناقب الشافعي، البيهقي، ج2/ 240 بواسطة: فقه تاريخ الفقه. د/ هيثم بن فهد الرومي، ص 144، مرجع سابق.

[11] أليس الصبح بقريب، ص: 158.

[12] نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، المقري، ج1 ص205، تحقيق: إحسان عباس، دار الصياد – بيروت.

[13] إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي، ص: 69.

[14] إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي، ص: 21 و 22.

[15] أليس الصبح بقريب، الطاهر ابن عاشور، ص: 96 – 97.

[16] فلسفة التربية الإسلامية، د/ ماجد الكلاني، ص: 270 – 172، دار: البشائر الإسلامية، بيروت – لبنان، الطبعة: الأولى: 1987م.

[17] فلسفة التربية الإسلامية، د/ ماجد الكلاني، ص: 286.

[18] ميزان العمل، أبو حامد الغزالي، ص: 349، تحقيق الدكتور: سليمان دنيا، دار المعارف، مصر، الطبعة: الأولى، 1964م.

[19] فقه تاريخ الفقه، د/ هيثم بن فهد الرومي، ص: 144.

[20] المحصول في علم الأصول، الرازي، ج4/ص 198، تحقيق الدكتور/ طه جابر فياض العلواني، مؤسسة الرسالة.

[21] ينظر: مناقب الشافعي، البيهقي، ج2 /240 بواسطة: فقه تاريخ الفقه. د/ هيثم ابن فهد الرومي، ص: 144.

[22] المنثور في القواعد، ج2/84، بواسطة: فقه تاريخ الفقه، ص: 145.


المشاهدات 935 | التعليقات 0