التحرز من الشيطان الرجيم بما في القرآن وهدي النبي الكريم –ملخص من كلام ابن القيم
محمد بن عبدالله التميمي
إنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} أما بعد: فاتقوا الله عباد الله واعتصموا بحبل الله، ولا يستهوينكم الشيطان، واعلموا أن العبد يعتصم من الشيطان ويستدفع شره ويحترز منه بأسباب، وردت في السنة والكتاب، فمنها:
الاستعاذة بالله من الشيطان {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وفي سورة الأعراف {إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وفي سورة غافر {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وفي صحيح البخاري ومسلم عن سليمان بن صُرَد رضي الله عنه قال: كنت جالسا مع النبي صلى الله عليه وسلم ورجلان يستبان فأحدهما احمر وجهه وانتفخت أوداجه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ذهب عنه ما يجد" .
ومما يحترز به الإنسان من الشيطان: قراءة سورتي المعوذتين {قل أعوذ برب الفلق} و {قل أعوذ برب الناس} فإن لهما تأثيرا عجيبا في الاستعاذة والتحصن منه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : "ما تعوذ المتعوذون بمثلهما"، وكان صلى الله عليه وسلم يتعوذ بهما كل ليلة عند النوم، وأمر صلى الله عليه وسلم عقبةَ رضي الله عنه أن يقرأ بهما دبر كل صلاة، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن من قرأهما مع سورة الإخلاص ثلاثا حين يمسي وثلاثا حين يصبح كفته من كل شيء.
عباد الله.. "اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ" أخرجه مسلم من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وفي صحيح مسلم أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجعلوا بيوتكم قبورا وأن البيت الذي تقرأ فيه البقرة لا يدخله الشيطان " .
ومن عجز عن التحرز بها فلا يدعن منها موضعين: قراءة آية الكرسي، ففي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ، وَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِنِّي مُحْتَاجٌ، وَعَلَيَّ عِيَالٌ وَلِي حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ، قَالَ: فَخَلَّيْتُ عَنْهُ، فَأَصْبَحْتُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ البَارِحَةَ»، فلما كان الثَّالِثَةَ، قَالَ: دَعْنِي أُعَلِّمْكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهَا، قُلْتُ: مَا هُوَ؟ قَالَ: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ، فَاقْرَأْ آيَةَ الكُرْسِيِّ: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ} حَتَّى تَخْتِمَ الآيَةَ، فَإِنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلاَ يَقْرَبَنَّكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، فَأَصْبَحْتُ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ البَارِحَةَ»، فذكر له الخبر، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ، تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلاَثِ لَيَالٍ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ»، قَالَ: لاَ، قَالَ: «ذَاكَ شَيْطَانٌ»" وهكذا قراءة خاتمة سورة البقرة حرز من الشيطان، فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي موسى الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه " والصحيح :كفتاه من شر ما يؤذيه .
عباد الله.. ومن الحرز ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ، إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ " قال ابن القيم رحمه الله عنه: "فهذا حرز عظيم النفع جليل الفائدة يسير سهل على من يسره الله تعالى عليه" .
وأعم من ذلك كثرة ذكر الله، وفي السنن: " وَآمُرُكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا اللَّهَ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ العَدُوُّ فِي أَثَرِهِ سِرَاعًا حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِينٍ فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ، كَذَلِكَ العَبْدُ لاَ يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِلاَّ بِذِكْرِ اللهِ"، وهذا بعينه هو الذي دلت عليه سورة: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} فإنه وصف الشيطان فيها بأنه الخناس قال ابن عباس: "الخناس الذي إذا ذكر العبد الله انخنس وإذا غفل وسوس" فيلتقم الخناس قلب الغافل من الناس عن ذكر الله تعالى ويلقي إليه الوساوس التي هي مبادئ الشر كله .
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، وأعاذنا من الشيطان ومن كل فتنة، أقول قولي هذا وأستغفر الله فاستغفروه.
الخطبة الثانية
الحمد لله منّ علينا فهدانا، وكفانا وآوانا، وكل بلاء حسن أبلانا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له مولانا، وناصرنا على من عادانا، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله به الله حبانا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأعلين مكانا، وتابعيهم بإحسان وسلم سلاما، أما بعد: فاتقوا الله عباد الله فمُتَّقِيه، متحرز بربه فهو كافيه..
واعلموا عباد الله أنه كما يتداوى المرء بما يتناول، فإن من التداوي الحمية، فكذلك الحرز كما يكون بما يُفعل، فكذلك يكون بما يُقفل، فلا يجلب المرء على نفسه الشر ويفتحه، ومن ذلك الإمساك عن فضول النظر والكلام والطعام ومخالطة الناس، قال ابن القيم رحمه الله: "فإن الشيطان إنما يتسلط على ابن آدم وينال منه غرضه من هذه الأبواب الأربعة فإن فضول النظر يدعو إلى الاستحسان ووقوع صورة المنظور إليه في القلب والاشتغال به والفكرة في الظفر به فمبدأ الفتنة من فضول النظر.. وفضول النظر أصل البلاء، وأما فضول الكلام فإنها تفتح للعبد أبوابا من الشر كلها مداخل للشيطان.. قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه : " وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم ".. وأكثر المعاصي إنما تَوَلُّدها من فضول الكلام والنظر وهما أوسع مداخل الشيطان فإن جارحتهما لا يملان ولا يسأمان.. فجنايتهما متسعة الأطراف كثيرة الشعب عظيمة الآفات.. وكم من طاعة حال دونها فضول الطعام، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن" .. وفضول مخالطة الناس داء عضال جالب لكل شر، وإنما ينبغي للعبد أن يأخذ من المخالطة بمقدار الحاجة" وقد كَثُرت خلطة كثير من الناس عبر هذه الأجهزة، فتجرأ من كان يحجبه الحياء، وفسد من كان لا يجالس إلا الأتقياء، فقد والله عظُم البلاء .
المرفقات
عن-التحرز-من-الشيطان-الرجيم-بما-في-القر
عن-التحرز-من-الشيطان-الرجيم-بما-في-القر