التحذير من الخيانة

د. محمود بن أحمد الدوسري
1441/08/01 - 2020/03/25 12:00PM
                                                                        التحذير من الخيانة
                                                                 د. محمود بن أحمد الدوسري
      الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على رسوله الكريم, وعلى آله وصحبه أجمعين, أمَّا بعد: تضافرت النصوصُ الشرعية في التحذير من الخيانة, وقد تكرَّر لفظُ الخيانة ومشتقاتها في القرآن الكريم في أكثر من ثلاثين مرة[1], منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27], قال ابن كثير - رحمه الله: (الخيانة تَعُمُّ الذنوبَ الصِّغارَ والكِبار اللاَّزِمة والمُتعدِّية),  فالله تعالى يُحذِّرنا من خيانته, وخيانة رسوله صلى الله عليه وسلم, وخيانات الأمانات عموماً.
     وأيضاً حذَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الخيانة بقوله: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ, وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ, وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» رواه البخاري.
والخيانة جريمةٌ كبيرة, وعقوبتها شديدة, وكُلُّ مَنْ أُسْنِدَ إليه أمرٌ من أمور المسلمين, ولم يقم به, ولم يُؤدِّه على الوجه المطلوب - مع قُدرتِه - فهو خائنٌ غادر؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ, يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ, فَقِيلَ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ» رواه مسلم.
     قال الذهبي - رحمه الله: (الخيانة قَبِيحةٌ في كلِّ شيءٍ, وبعضها شرٌّ من بعض, وليس مَنْ خانك في فَلْسٍ كمَنْ خانك في أهلك ومالِك, وارتكب العظائِم)[2].
     فالخيانة تكون في أمانات الناس, وما افترضه اللهُ تعالى على عباده وائتمنهم عليه, وما أمَرَ به رسولُه صلى الله عليه وسلم من واجبات, فمَنْ ضَيَّعَ شيئاً مما أمَرَ اللهُ تعالى به, ورسولُه صلى الله عليه وسلم, أو ارتكب شيئاً مما نهى الله سبحانه عنه, ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ فلا يكون عَدْلاً؛ وقد لَزِمَه اسم الخيانة, وهو اللائق به[3].
     وأمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأداء الأمانة, وحذَّر من الخيانة بقوله: «أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ, وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» صحيح - رواه أبو داود والترمذي. فلا تُقابَل خيانةُ مَنْ خانَ بخيانةٍ مِثْلِها, فالخيانة لا تُباح فيها العقوبةُ بالمِثل[4].
     والمؤمن مَفطورٌ على الأمانة وسلامةِ الخُلُق؛ إذْ لا تجتمع فيه صِفَتا الخيانةِ والأمانةِ جميعاً؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَجْتَمِعُ الإِِيمَانُ وَالْكُفْرُ فِي قَلْبِ امْرِئٍ، وَلاَ يَجْتَمِعُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ جَمِيعًا، وَلاَ تَجْتَمِعُ الْخِيَانَةُ وَالأَمَانَةُ جَمِيعًا» حسن - رواه أحمد في "المسند".
     عباد الله .. إنَّ الخيانة سبيلُ كلِّ شرٍّ, وداءٌ وبِيلٌ إذا استشرتْ كان ذلك سبباً في انحلال أمْرِ المسلمين؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم - في شأن رفع الأمانة والإيمان, ونزعهما من قلوب الرجال, وانهيار فضيلة الأمانة في آخر الزمان: «... فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ فَلاَ يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الأَمَانَةَ، فَيُقَالُ: إِنَّ فِي بَنِي فُلاَنٍ رَجُلاً أَمِينًا. وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: مَا أَعْقَلَهُ وَمَا أَظْرَفَهُ وَمَا أَجْلَدَهُ. وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ» رواه البخاري ومسلم.
     والخائن تُردُّ شهادتُه ولا تُقبل؛ تعزيراً له, وتنفيراً للناس من هذا الخُلُق البغيض؛ لحديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم: «رَدَّ شَهَادَةَ الْخَائِنِ وَالْخَائِنَةِ» حسن - رواه أبو داود. وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَجُوزُ[5] شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلاَ خَائِنَةٍ» حسن - رواه أبو داود وابن ماجه. وهذه العقوبة في الدنيا, لا تَرفَعُ عقوبةَ الخائنِ عند الله تعالى في الآخرة.
     وحذَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الخيانة, وتوعَّد صاحِبَها بالنار؛ كما في قوله: «أَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ - وذَكَرَ منهم: الْخَائِنُ الَّذِي لاَ يَخْفَى لَهُ طَمَعٌ - وَإِنْ دَقَّ - إِلاَّ خَانَهُ, وَرَجُلٌ لاَ يُصْبِحُ وَلاَ يُمْسِي إِلاَّ وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ» رواه مسلم.
     ومن صفات المؤمنين المُفلحين رعايتُهم للأمانة, وبالمُقابل؛ فإنَّ صفة الخيانة مُلازِمةٌ للمشركين والمنافقين, قال الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً * لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 72, 73]. فالمؤمنون والمؤمنات هم الذين قاموا بالأمانة ورَعَوها, وأما المنافقون والمنافقات والمشركون والمشركات؛ فقد أظهروا الأمانةَ كذِباً وزوراً, وهم خونة[6]. فَسِمَةُ الخيانة وصْفٌ لهم؛ لكونهم يخونون الأمانات, ويُخادعون الناس في أموالهم, وينتقضون عهودَهم وأعراضهم, قال الله تعالى - عن الكفار: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38]؛ وقال سبحانه - في المنافقين: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} [النساء: 107].
     وقد استعاذ النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الخيانة؛ لأنها أسوأ ما يُبطِنُه الإنسان, فكان من دعائه: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُوعِ؛ فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ, وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخِيَانَةِ؛ فَإِنَّهَا بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ[7]» حسن - رواه أبو داود. 
                                                                            الخطبة الثانية
     الحمد لله ... أيها المسلمون .. من أعظم الخيانات؛ خيانةُ حُرمةِ نساءِ المُجاهدين, يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «حُرْمَةُ نِسَاءِ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ كَحُرْمَةِ أُمَّهَاتِهِمْ, وَمَا مِنْ رَجُلٍ مِنَ الْقَاعِدِينَ يَخْلُفُ رَجُلاً مِنَ الْمُجَاهِدِينَ في أَهْلِهِ فَيَخُونُهُ فِيهِمْ؛ إِلاَّ وُقِفَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ, فَيَأْخُذُ مِنْ عَمَلِهِ مَا شَاءَ, فَمَا ظَنُّكُمْ» رواه مسلم. فالمجاهد يقتص يوم القيامة من الخائن؛ ليأخذ من حسناته ويستكثر منها ما شاء[8].
     بل يَحْرم على المسلم أنْ يَخُون الكافرَ؛ إذا مَنَحَه حقَّ الأمان, يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَيُّمَا رَجُلٌ أَمَّنَ رَجُلاً عَلَى دَمِهِ، ثُمَّ قَتَلَهُ، فَأَنَا مِنَ الْقَاتِلِ بَرِيءٌ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ كَافِرًا» حسن - رواه ابن حبان. وفي رواية: «مَنْ أَمِنَ رَجُلاً عَلَى دَمِهِ فَقَتَلَهُ؛ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ لِوَاءَ غَدْرٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » صحيح -رواه ابن ماجه. 
     ويكفي في التنفير من الخيانة؛ أنها من علامات المنافقين؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ, وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ, وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ» رواه البخاري ومسلم. وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ, وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ, وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» رواه البخاري ومسلم.
     والخيانة من صفاتِ اليهود وسماتِهم التي لا تكاد تُفارقهم على مدار التاريخ, ولا يَسْلم من ذلك إلاَّ القليل منهم, قال الله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ} [المائدة: 13], فقد حرَّف اليهودُ كلامَ الله تعالى عن مواضعه, وخانوا اللهَ تعالى فأشركوا به غيرَه, وأخَذَ عليهم العهدَ - وهم على الفطرة - فخانوا عهدَه.
     وقال الله تعالى مُخاطِباً النبيَّ صلى الله عليه وسلم: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 71], وأيضاً خانوا أنبياءَ الله من قبل, وقد أبْرَمُوا المُعاهدات والمواثيق مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ إلاَّ أنهم سُرعان ما غَدَروا وخانوا ومَكَروا[9].
     واللهُ تعالى أمَرَ بالإيفاءِ بأمانةِ العهد, قال سبحانه: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً} [الإسراء: 34], كما أنَّ الله تعالى أرشدنا إلى المَسْلَك في التعامل مع مَنْ لا ثِقَةَ بعهودهم وأمانتهم؛ مِنَ الذين يُخشى منهم نَقْضَها عندما تَسْنَح لهم الفرصة, قال تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58], والنبي صلى الله عليه وسلم أرشدنا إلى ذلك, بقوله: «مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلاَ يَشُدُّ عُقْدَةً وَلاَ يَحُلُّهَا, حَتَّى يَنْقَضِيَ أَمَدُهَا, أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ» صحيح - رواه أبو داود.
     ومعنى الحديث: (مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلاَ يَشُدُّ عُقْدَةً): أي لا يَتَصَرَّف تَصَرُّفاً يُخالِفُ العقد. (وَلاَ يَحُلُّهَا): أي تلك العُقدة. (حَتَّى يَنْقَضِيَ أَمَدُهَا): وهذه إشارةٌ إلى أنه لا يَعمل أيَّ شيءٍ يُخالِفُ العقدَ. (أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ): بِأنْ يُخبِرهم؛ وذلك إذا خاف منهم خيانةً فيقول: العهدُ الذي بيني وبينكم انتهى، فيكونون على عِلمٍ بأنَّ العهدَ انتهى[10], فمتى بدت بوادِرُ الخيانة ونقض العهد, فليقطع عليهم طريقَ الخيانة قبل وقوعه, فيرد عليهم عهدَهم, ويُعلَمون بذلك[11].
 
[1] انظر: المعجم المفهرس في غريب القرآن, (ص 167).
[2] الكبائر, (ص 149).
[3] انظر: شرح السنة, للبغوي (10/127).
[4] انظر: مجموع الفتاوى, لابن تيمية (30/375).
[5] لاَ تَجُوزُ: بمعنى لا تُقْبَل. انظر: فتح الباري, (5/257).
[6] انظر: تفسير الطبري, (20/343)؛ تفسير البغوي, (8/170).
[7] بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ: أي الخصلة الباطنة, هي ضِدُّ الطهارة, وأصلها في الثوب, فاسْتُعيرَ لِمَا يستبطنه الإنسانُ من أمره, ويجعله بِطانةَ حالِه. انظر: عون المعبود, (4/284).
[8] انظر: شرح النووي على مسلم, (13/42).
[9] انظر: تفسير ابن كثير, (4/94).
[10] انظر: شرح سنن أبي دواد, د. عبد المحسن بن حمد العباد (15/78).
[11] انظر: الأمانة في الإسلام وآثارها في المجتمع, د. عبد اللطيف بن إبراهيم الحسين (ص 117).
المرفقات

التحذير-من-الخيانة

التحذير-من-الخيانة

المشاهدات 515 | التعليقات 0