التحذير من التساهل في الطلاق
عبد الله بن علي الطريف
التحذير من التساهل في الطلاق. موافق للتعميم 1444/4/24هـ
أيها الإخوة: مِنْ آيَاتِ الله الدالة على رحمته وفضله وعنايته بعباده، وحكمته العظيمة وعلمه المحيط، التي قلما نتذكرها.. أن خلق لنا من أنفسنا أزواجاً، وأودع في نفوسنا عواطفَ ومشاعرَ تجاه الطرف الآخر، وجعل في تلك الصلةِ سكناً للنفس والأعصاب، وراحةً للجسم والقلب، واستقراراً للحياة والمعاش، وأُنساً للأرواحِ والضمائر واطمئناناً للرجل والمرأة على السواء..
ويصورُ الباري تبارك وتعالى هذه العلاقة تصويراً بديعاً لعلمِه التام بأعماق القلب وأغوار الحس فيقول: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الروم:21] فيدركون حكمة الخالق في خلقِ كلٍ من الجنسين على نحو يجعلُه موافقاً للآخر، ملبياً لحاجته الفطرية: النفسية والعقلية والجسدية. فيجد عنده الراحة والطمأنينة والاستقرار.. ويجدان في اجتماعهما السكنَ والاكتفاء، والمودة والرحمة، لأن تركيبهما النفسي والعصبي والعضوي خلقه الله تعالى ملبياً لرغائب كل منهما في الآخر، فلا تجد بين فردين من الناس في الغالب مثل ما بين الزوجين من المودة والرحمة والائتلاف والامتزاج، الذي يُنشئُ في النهاية حياةً جديدةً تتمثلُ في جيلٍ جديدٍ.
أيها الإخوة: هذا "الميثاق الغليظ" غير اللين الذي جعله اللهُ بين الزوجين، وهو عقد الزواج، عقدٌ قد أوجب الله سبحانه احترامَه والقيامَ بمقتضياتِه، بل جعلَ اللهُ هذا الميثاقَ الغليظ يُحتمُ على الزوجِ أن يتحملَ بالمعروف تَعَثُر العشرةُ، وأن يعامل الزوجة بالإحسان، وإن تعذرت العشرة، فقد جعل الله لكل من الزوجين مخرجاً وهو الطلاق الذي قال الله تعالى عنه: (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا) [النساء:130] قال الشيخ السعدي رحمه الله: (مِنْ سَعَتِهِ) أي: من فضله وإحسانه الواسع الشامل.. فيغني الزوج بزوجة خيرٍ له منها، ويغني الزوجة من فضله وإن انقطع نصيبها من زوجها، فإن رزقها على المتكفل بأرزاق جميع الخلق، القائم بمصالحهم، ولعل الله أن يرزقها زوجاً خيرا منه.. (وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا) أي: كثير الفضلِ واسع الرحمة، وصلت رحمتُه وإحسانه إلى حيث وصل إليه علمه.. ولكنه مع ذلك (حَكِيمًا) أي: يعطي بحكمة، ويمنع لحكمة. فإذا اقتضت حكمته منع بعض عباده من إحسانه، بسبب من العبد لا يستحق معه الإحسان، حرمه عدلاً وحكمة.
أيها الإخوة: لقد كثرت حالات الطلاق في مجتمعنا كثرة توحي بخطرٍ يُهددُ كيان الأسرة ويورث تشرذمها؛ فقد هالني ما كشفته تقارير إحصائية، عن زيادة غير مسبوقة في معدلات الطلاق خلال عام 2022 في بلادنا حرسها الله، فقد وصلت ل 168 حالة يوميا، بواقع 7 حالات طلاق في كل ساعة، وبمعدل يفوق حالة طلاق واحدة كل 10 دقائق أي 3 حالات طلاق مقابل 10 عقود زواج، وحسب موقع هيئة الإحصاءات فقد جرى عام 2020م (150117) حالة زواج، ويقابلها (57595) حالة طلاق أو فسخ أو خلع، للسعوديين والمقيمين.. وتشكل هذه الأعداد ما يقارب 30%.. والمطلع الغيور على وطنه وصلاح مجتمعه ينخلع قلبه ألماً من هذه الأعداد المهولة..
أيها الإخوة: إن هذه الأرقام الكبيرة لحالات الطلاق منذرة بخطر كبير في مجتمعنا، نحن لا نطلب المستحيل ونقول يجب أن ينجح ويستمر كل زواج، فلم يكن ذلك في العصور المفضلة..
لكن يجب علينا أن ندقَ ناقوسَ الخطرِ ونشعُرَ بالمشكلةِ بعد اطلاعنا على هذه الأعداد والنسب المخيفة، وعلينا أن نتلمس أسباب هذه المشكلة وأن نعالجها.. ويجب أن يهب المجتمعُ بكل مؤسساته وأفراده للعلاج كل فيما يخصه، وسأذكر بعضَ الأسباب:
أولها: عدم تحري الرجل والمرأة عن الطرف الآخر مما يوقعه بسوء الاختيار، فقد يُقدم أحد الزوجين على الزواج وهو لا يعرف عن شريكه شيئاً لا في الدين ولا في الخلق، ولا يعرف عن الأسرة شيئاً فإذا تبينت الحال بعد الزواج أراد التخلص من قرينه الذي لا يناسبه.. ولذلك شرع الله التحري قبل الإقدام على الزواج..
ثم سبب أجمع عليه كثيرٌ من المهتمين بأمر الأسرة والباحثين في شأنها، وهو مواقع التواصل الاجتماعي، كسبب رئيسي في ازدياد هذه المعدلات، فكثير من المخببين يجدون فيها مرتعاً خصباً ومجالاً حراً؛ لنشر سمومهم ومشوراتهم المدمرة للأسرة، فالحذر الحذر من هؤلاء، ثم إن الانغماس بالاطلاع على أحوال الناس التي يعرضونها بصور براقة في هذه الوسائل يجعل المتلقي يطلب محاكاتهم سواء من الرجال أو النساء وهذا يحدث شرخاً بالعلاقة الزوجية.
ومن أسباب الطلاق: ضعف علم الزوجين بالحكمة من الزواج، وما يترتب على عقده الذي سماه الله تعالى "بالميثاق الغليظ" من الحقوق والواجبات، وما في الزواج من الأجر للزوجة والزوج بسبب هذا العقد العظيم، وعلاجُ ذلك أن يتعرف كل واحد من الزوجين على واجباتِ وحقوقِ كل طرف، والأجر العظيم المترتب على استمرار هذا العقد..
وعلى الجمعيات الأهلية والدعوية، والخطباء، ورواد التواصل الاجتماعي في كل بلد أن ينشروا الوعي ويقدموا الدورات والندوات للمقبلين والمقبلات على الزواج، بل وللمتزوجين كذلك؛ فالمجتمع بأمس الحاجة لذلك.
ومن أسبابه أيضاً: اندفاع بعض الرجال إلى التعدد وهو لا يستطيع العدل، وبعد زواجه الثاني قد يُطلق الأولى لاستحواذ الثانية عليه، أو يطلق الثانية لعدم صبره على أذى الأولى له، أو لرحمته بها، أو لضغط أولاده عليه... فمن لم يعلم من نفسه القدرة على التعامل مع زوجتين، وما في التعدد من مشكلات فعليه أن يصبر على زوجه فإنه خير له وللزوجات.
ومن أسباب الطلاق أيضاً: سوء العشرة بين الزوجين وعدم قيام أحدهما بما أوجب الله عليه للآخر، فقد أمر الله بحسن العشرة فقال: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [النساء:19] وقال: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) [البقرة:229] وعلى الزوجين أن يتعرفا على طرق المعاشرة الحسنة قبل الزواج، ففي ذلك سدٌ لبابٍ كبيرٍ من الخلاف بإذن الله تعالى.
ومن أسباب الطلاق أيضاً: اختلاف الزوجين بسبب ما تأخذه المرأة من راتب على عملها، فمن الرجال من يكون طماعاً أشراً، يضيقُ على المرأة، ويطالبها بمالها، ويهددها بمنعها من العمل، أو الطلاق، وإن كان عملُها مشروطاً عليه "بالميثاق الغليظ" وينسى قَولَ المصطفى ﷺ: "الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ" وفي رواية: "الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ إِلَّا شَرْطًا حَرَّمَ حَلَالًا، أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا" رواه الترمذي وأبو داود والطبراني وحسنه الألباني، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيِّ رضي الله عنه. وينسى قَولَه ﷺ: "إِنَّ أَحَقَّ الشَّرْطِ أَنْ يُوفَى بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ". رواه البخاري ومسلم وللفظ لمسلم عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وربما منع النفقة عن زوجته لأنها غنية بما تكسب من عملها.!
ومن النساء من تكون بخيلة بمالها؛ مانعة له عن زوجها، يراها تبذر المال فيما يحل ويحرم دون أن يصيبه شيء منه، وتبخل عليه بالنقير والقطمير..
فكم من بيت تقوض بسبب تكالب الزوجين على الدنيا والأثرة.! والواجب على الرجال أن يستغنوا بما أعطاهم الله كما قال سبحانه: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) [الطلاق:7] وعليهم ألا ينظروا إلى ما في أيدي النساء.. وإن أخذوا منهن شيئاً على سبيل القرض، أو الشراكة، فعليهم كتابة ذلك وحفظه وإحصائه، وعليهم التنبه لمصيدة أخذ القليل؛ فالقليل إلى القليل يصبح كثيراً مع السنين.
وعلى المرأة أن تكون كريمة في مالها، ولا يكن المال أحبَ إليها من عشرتها الحسنة مع زوجها، وسبباً للخصومة.. وربما الفراق فيتقوض صرح الأسرة ويتشرد الأولاد.. وليكن حال الجميع التعفف عما في يد الآخر والكرم بما يملك.. فمتى صارت الأمور كذلك صلحت الحال، وعاش الزوجان وذريتهما عيشة هنية رضية (ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) [الطلاق:2،3].. بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم وغفر لنا إنه هو الغفور الرحيم..
الخطبة الثانية:
أما بعد أيها الإخوة: وللطلاق آثارٌ سيئةٌ على الأسرة والأولاد والمجتمع، فبينما هي أسرة قائمة وبيت عامر يتقوض بكلمة يطلقها الزوج أطلقها بتعجل أو لحظة غضب، فتتفرق بسببها الأسرة بعد اجتماعها، وينهدم بيت بعد قيامه.. وقد يحدث الطلاق شقاقاً بين الزوجين يصل للقضاء، أو بين أسرة الزوج والزوجة، وشتت الأولاد لاختلاف الزوجين في الحضانة والنفقة والزيارة، وكل هذه الخلافات لها تأثيرها السلبي على الأولاد والمجتمع عموماً.. وأوجد في المجتمع أسرة فاقدة لأحد أركانها المهمة الأم أو الأب ربما بسبب غير ذي بال..
وبعد أحبتي: الزواج المبني على الاختيار السليم والتعامل الكريم الموافق للأصول الشرعية.. يورث حياة رضية هنية، تتجلى فيها حكمة الله تعالى فقد جعله آيةً من آياته الدالةِ عليه، وقدمه على آياته في خلق السماوات والأرض وغيرها من الآيات العظام التي نظنها أكبر من آية الزواج وذلك لعظمه ودقة فضله فيه. فهو القائل (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الروم:21]..
نعم والله إنها آية عظيمة، إذ كيف لامرأة غريبة أن تأنس برجل غريب عنها وتفضي إليه.. ويفضي إليها بما لا يفضيانه لوالديهما.. لدرجة أن جعل الله مضجعهما واحداً، وأحل لكل واحد منهما من الآخر ما حرمه على كل البشر، وربما أنها لم تسمع بهذا الزوج في حياتها ولم يسمع بها قبل الزواج ناهيك أن تراه، أو يرها.. وصدق الله تعالى فقد قال: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) يُعملون أفكارهم ويتدبرون آيات ربهم..
وختاماً: فقد حثت وزارة الصحة على أخذ لقاح الإنفلونزا الموسمية وأكدت عليه، وهو يقدم للجميع مجاناً، جنبنا الله وإياكم كل سوء وكفنا وعافنا وصلوا..