التَّحْذِير مِنَ الانْطوائِيَّةِ وَالعُزْلَة.
أ.د عبدالله الطيار
1446/07/11 - 2025/01/11 10:06AM
الْحَمْدُ لِلَّهِ السميعِ البصيرِ، يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ في الْبَأْسَاءِ والضَّرَّاءِ، أَمَرَ بِالاجْتِمَاعِ وَالوِحْدَةِ، وحَذَّرَ مِنَ الانْطِوَاءِ وَالْعُزْلَةِ، وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ، وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عبدهُ ورسولُه، صلّى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وأصحابِهِ وسلّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدِّينِ، أمّا بعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) البقرة: [281].
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: إنَّ مِنَ النَّزَعَاتِ الْجِبِلِّيَةِ، والْفِطَرِ الْبَشَرِيَّةِ الَّتِي فَطَرَ اللهُ عزَّ وجلَّ الناسَ عَلَيْهَا: المَيْلَ إلى الاجْتِمَاعِ والتَّعَارفِ، والأُلْفَةِ والتَّعَاونِ، قَالَ تَعَالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) الحجرات: [13].
عِبَادَ اللهِ: والانْطِواءُ والْعُزْلَةُ، آَفَةٌ مِنَ الآَفَاتِ الاجْتِمَاعِيَّةِ، وَسَبَبٌ للأَمْرَاضِ النَّفْسِيَّةِ، ونَقِيضُ الإِيمَانِ، ومَدْخَلُ الشَّيْطَان، كَمْ أَفْسَدَتْ مِنْ قُلُوبٍ، وأَضَاعَتْ مِنْ أعْمَارٍ، وَأَوْرَثَتْ مِنْ أَسْقَامٍ، وأَهْدَرَتْ الْكَوَادِرَ والْعُقُولَ، وأَنْهَكَتْ الأَرْوَاحَ والأَبْدَانَ.
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: وقَدْ جَاءَتْ الشَّرِيعَةُ الإِسْلامِيَّةُ تُعَزِّزُ الاجْتِمَاعَ والاتّحَاد، وتُحَذِّرُ مِنَ الْعُزْلَةِ والانْفِرَادِ، فَكَانَتْ أُمَّهَاتُ الْعِبَادَة في الإِسْلامِ قَائِمَةً على الاجتماعِ، فالصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، والجُمَعُ والأَعْيَادُ، وشَعَائِرُ الْحَجّ ومَنَاسِكُهِ، وكذا أَعْمَالُ الْبِرّ مِنْ صِلَةِ الأَرْحَامِ، والإِصْلاحِ بَيْنَ الأَخْصَامِ، وتَحْرِيمِ الْقَطِيعَةِ والْهُجْرَانِ، وعِيَادَةِ المرْضَى، واتّبَاعِ الْجَنَائِزِ، كُلُّ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ تَتَأَتَّى بِالاجْتِمَاعِ لا الانْقِطَاعِ.
عِبَادَ اللهِ: والاجْتِمَاعُ والتَّشَارُكُ، والاخْتِلاطُ والتَّفَاعُلُ، هَدْيٌ نَبَوِيٌّ في أُمُورِ النَّاسِ ومَعَاشِهِمْ، فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُخَالِطُ النَّاسَ في أَسْوَاقِهِمْ، وَيَأْمُرهم، ويَنْهَاهم، ويَأْكُل مَعَهُم، قَالَ تَعَالَى: (وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ) الفرقان:[20] وقال ﷺ: (الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ، وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، أَعظَمُ أَجرًا مِنَ المُؤمِنِ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُمْ، وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ) أخرجه أحمد (5022)
أيُّهَا المُؤْمِنُونَ: ولا أَعْنِي بِالْعُزْلَةِ: تِلْكَ الَّتِي يَنْقَطِعُ فِيهَا الْعَبْدُ لِخَالِقِهِ، وَيَجْتَنِبُ بِهَا مَوَاطِنَ السُّوءِ، وَمَجَالِسَ الإِثْمِ، فَهَذِهِ مَنْدُوحَةٌ مَحْمُودَةٌ، يَسْلَمُ لِلْمَرْءِ بِهَا دِينُهُ وَدُنْيَاهُ وَإِنَّمَا أَعْنِي الانْطِوَاء لِغَيْرِ حَاجَةٍ، والانْعِزَالَ لِغَيْرِ الطَّاعَةِ، والانْفِرَادَ عنِ الْجَمَاعَةِ والانْطِوَاءَ على النَّفْسِ، الَّذِي يَتْبَعه الْوُقُوعُ في حَبَائِلِ الشَّيْطَانِ، وبَرَاثِنِ الْخُسْرَانِ.
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: والانْطِوَاءُ والْعُزْلَةُ: آَفَةٌ خَطِيرَةٌ، وظَاهِرَةٌ مَقِيتَةٌ، ودَاءٌ عُضَالٌ، يَفْتِكُ بِالأُسَرِ، وَيَفُتُّ فِي عَضُدِ المُجْتَمَعِ، فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَهَى عَن الوَحْدةِ أنْ يَبِيتَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ أَوْ يُسَافِرَ وَحْدَهُ) أخرجه البخاري (2998) بنحوه، وأحمد (5650) واللفظ له. يَقُولُ عَبْدُ اللهِ بْنُ مسعودٍ رضيَ اللهُ عَنْهُ: (خَالِطُوا النَّاسَ وَزَايِلُوهُم وصَافِحُوهُم) أخرجه وكيع في الزهد (531) والطبراني في الكبير (9757).
عِبَادَ اللهِ: والْعُزْلَةُ دَاءٌ مِنْ جُمْلَةِ الأَمْرَاضِ، لَهُ أَسْبَابٌ وَأَعْرَاضٌ، يُنْبِئُ عَنْ خَرْقٍ جَسِيمٍ في جِدَارِ الأُسْرَةِ، يَهْرَبُ إِلَيْهَا بَعْضُ الشَّبَابِ؛ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ فِيهَا خَلاصًا منَ الضغُوطَاتِ وراحَةً منَ المشَاكِلِ والمسْؤُولِيَّاتِ، فيَنْعَزِلُ عنِ الْجَمَاعَةِ؛ لِيَقَعَ فَرِيسَةً لِلنَّفْسِ والشَّيْطَانِ، فلا يَقْوَى على مُدَافَعَتِهِمَا؛ لعدَمِ وجودِ الأخِ النَّاصِحِ، والمعَلِّمِ الْوَاعِظِ، قَالَ ﷺ لَوْ يَعْلَمُ النّاسُ ما في الوَحْدَةِ ما أعْلَمُ، ما سارَ راكِبٌ بلَيْلٍ وحْدَهُ) أخرجه البخاري (2998).
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: وإذَا انْعَزَلَ المرْءُ عَنْ بِيئَتِهِ ومَنْ حَوْلَهُ، لا تَسَلْ حِينَئِذٍ عن اكْتِئَابِ النَّفْسِ وعِلَلِهَا، وَأَدْرَانِ الوَحْدَةِ وَأَمْرَاضِهَا، وتَلاعُبِ الشَّيْطَانِ وَأَفْكَارِهِ، قَالَ ﷺ: (إنَّ الشَّيطانَ ذئبُ الإنسانِ كذِئْبِ الغنَمِ، يَأخُذُ الشّارِدةَ القاصِيَةَ؛ فإيّاكُم والشِّعابَ، وعلَيكم بالجماعةِ، والعامَّةِ، والمسجِدِ) أخرجه أحمد (22029) وصححه الأرناؤوط في شرح الطحاوية (776).
عِبَادَ اللهِ: ومِنْ أَهَمِّ أسْبَابِ الْعُزْلَةِ وَدَوَافِعهَا: مَا يَنْتُجُ عَنْ مُخَالَطَةِ بَعْض النَّاسِ مِنَ الأَذَى النَّفْسِي، وتَزَاحمِ الأَشْغَالِ، وضِيقِ الأَوْقَاتِ، وهذَا سُوءُ فَهْمٍ، وقِلَّةُ فِقْهٍ؛ لأنَّ المُسْلِمَ مَأْمُورٌ بِمُصَاحَبَةِ الأَخْيَارِ، ومُجَاهَدَةِ النَّفْسِ في صُحْبَتِهِمْ، واحْتِسَابِ الأَجْرِ في مُجَالَسَتِهِم، قَالَ تَعَالَى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) الكهف: [28].
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: وفي زَمَانِنَا، أَصْبَحَ مَفْهُومُ الانْطِوَاءِ والْعُزْلَةِ أَعَمُّ وأشْمَلُ وأَخْطَرُ وأَوْسَعُ، مَعَ وُجودِ وسَائِل اللَّهْوِ والْعَبَثِ، والأَلْعَابِ الإِلِكْتُرُونِيَّةِ، والموَاقِعِ المُحَمَّلَةِ باِلغَثِّ والسَّمِينِ، الَّتِي غَرِقَ بِهَا كَثِيرٌ مِنَ المُسْلِمِينَ الْيَوْمَ، واعْتَاضُوا بِتِلْكَ الأَجْهِزَةِ والمنَصَّاتِ عنِ التَّوَاصلِ والتَّفَاعلِ مَعَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَهْلِ والأَصْحَابِ، فَانْعَزَلَ الأَبُ عَنْ أَبْنَائِهِ بِفِكْرِهِ وَقَلْبِهِ، وَهُوَ بَيْنَهُمْ بِجَسَدِهِ وشَخْصِهِ، وانْعَزَلَتْ الأُمُّ عَنْ أَبْنَائِهَا وَزَوْجِهَا، وانْعَزَلَ الأَبْنَاءُ عَن أُسَرِهِمْ، واسْتَغْنَوْا بِمُجْتَمَعٍ افْتِرَاضِيٍّ، وَعَالَمٍ وَهْمِيٍّ.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) التحريم: [5].
بَارَكَ اللهُ لِي ولَكُمْ فِي الْقُرْآنِ والسنةِ، وَنَفَعَنَا بما فيهما من الآياتِ والحكمَةِ، أقولُ قَوْلِي هَذَا، وأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي ولَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ، وتوبوا إليه، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ يُحِبُّ المصْلِحِينَ، وَيَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وأَشْهَدُ ألا إِلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وصحبِهِ وسلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا أمَّا بَعْدُ فاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّ الانْطِوَاءَ والْعُزْلَة مَرَضٌ فَتَّاكٌ يُحَوِّلُ الإِنْسَانَ إِلَى مَغْلُوبٍ مَهْزُومٍ، لا يَقْوَى عَلَى مُقَاوَمَةِ نَفْسِهِ، ولا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الإِنجَازِ، ولا طَاقَةَ لَهُ عَلَى التَّوَاصلِ مَعَ مَنْ حَوْلَهُ، وَعِلاجُ تِلْكَ الظَّاهِرَةِ في الْحِرْصِ على الاجْتِمَاعَاتِ الأُسَرِيَّةِ، وتوطيدِ الْعَلاقَاتِ الاجْتِمَاعِيَّةِ ، وَدَمْجِ الأَبْنَاءِ بِهَا.
عِبَادَ اللهِ: وَهَذَا المرَضُ العُضَالُ قدْ يُسَاقُ إليهِ كِبَارُ السِّنِّ مِنَ الآَبَاءِ والأُمَّهَاتِ، والأَجْدَادِ والجَدَّاتِ، دُونَ رَغْبَةٍ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا لانْشِغَالِ الأَبْنَاءِ، وَقِلَّةِ الزِّيَارَاتِ، ومُفَارَقَة الأَصْحَابِ، وانْعِدَامِ الْجَلِيسِ والأَنِيسِ، فَيَتَسَلَّلُ إِلَيْهِم الْقَلَقُ والاضْطِرَابُ، فَاتَّقُوا اللهَ في كِبَارِ السِّنِّ، وجَالِسُوهُمْ، وخَالِطُوهُم، فَهَذَا أَعْظَمُ أَبْوَابِ الْبِرِّ. أَسْأَلُ اللهَ عزَّ وجلَّ أَنْ يُعِزَّنَا بِطَاعَتِهِ، وَأَنْ يُمِدَّنَا بِنَصْرِهِ وَقُوَّتِهِ. اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشْرِكِينَ، وانْصُرْ عِبَادَكَ الموَحِّدِينَ. اللَّهُمَّ انْصُرْ إِخْوَانَنَا المسْلِمِينَ المُسْتَضْعَفِينَ في كُلِّ مَكَانٍ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. اَللَّهُمَّ أمِّنا فِي أَوْطَانِنَا وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللهم وَفِّق وَلِيَّ أَمْرِنَا خادمَ الْحَرَمَيْنِ الشريفينِ إِلَى مَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وخُذْ بِنَاصِيَتِهِ إِلَى اَلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، اللَّهُمَّ وَفِّقْه وَوَلِيَّ عَهْدِهِ وِإِخْوَانَهُ وَأَعْوَانَهُ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَسَلِّمْهُمْ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَشَرٍّ. اللَّهُمَّ احْفَظْ رِجَالَ الأَمْنِ، والمُرَابِطِينَ عَلَى الثُّغُورِ. اللَّهُمَّ ارْحَمْ هذَا الْجَمْعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ والمؤْمِنَاتِ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِهِمْ، وآَمِنْ رَوْعَاتِهِمْ وارْفَعْ دَرَجَاتِهِمْ في الجناتِ واغْفِرْ لَهُمْ ولآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، واجْمَعْنَا وإيَّاهُمْ ووالدِينَا وإِخْوَانَنَا وذُرِّيَّاتِنَا وَأَزْوَاجَنَا وجِيرَانَنَا ومشايخنا وَمَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَيْنَا في جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
الجمعة 10 /7/ 1446هـ
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: إنَّ مِنَ النَّزَعَاتِ الْجِبِلِّيَةِ، والْفِطَرِ الْبَشَرِيَّةِ الَّتِي فَطَرَ اللهُ عزَّ وجلَّ الناسَ عَلَيْهَا: المَيْلَ إلى الاجْتِمَاعِ والتَّعَارفِ، والأُلْفَةِ والتَّعَاونِ، قَالَ تَعَالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) الحجرات: [13].
عِبَادَ اللهِ: والانْطِواءُ والْعُزْلَةُ، آَفَةٌ مِنَ الآَفَاتِ الاجْتِمَاعِيَّةِ، وَسَبَبٌ للأَمْرَاضِ النَّفْسِيَّةِ، ونَقِيضُ الإِيمَانِ، ومَدْخَلُ الشَّيْطَان، كَمْ أَفْسَدَتْ مِنْ قُلُوبٍ، وأَضَاعَتْ مِنْ أعْمَارٍ، وَأَوْرَثَتْ مِنْ أَسْقَامٍ، وأَهْدَرَتْ الْكَوَادِرَ والْعُقُولَ، وأَنْهَكَتْ الأَرْوَاحَ والأَبْدَانَ.
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: وقَدْ جَاءَتْ الشَّرِيعَةُ الإِسْلامِيَّةُ تُعَزِّزُ الاجْتِمَاعَ والاتّحَاد، وتُحَذِّرُ مِنَ الْعُزْلَةِ والانْفِرَادِ، فَكَانَتْ أُمَّهَاتُ الْعِبَادَة في الإِسْلامِ قَائِمَةً على الاجتماعِ، فالصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، والجُمَعُ والأَعْيَادُ، وشَعَائِرُ الْحَجّ ومَنَاسِكُهِ، وكذا أَعْمَالُ الْبِرّ مِنْ صِلَةِ الأَرْحَامِ، والإِصْلاحِ بَيْنَ الأَخْصَامِ، وتَحْرِيمِ الْقَطِيعَةِ والْهُجْرَانِ، وعِيَادَةِ المرْضَى، واتّبَاعِ الْجَنَائِزِ، كُلُّ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ تَتَأَتَّى بِالاجْتِمَاعِ لا الانْقِطَاعِ.
عِبَادَ اللهِ: والاجْتِمَاعُ والتَّشَارُكُ، والاخْتِلاطُ والتَّفَاعُلُ، هَدْيٌ نَبَوِيٌّ في أُمُورِ النَّاسِ ومَعَاشِهِمْ، فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُخَالِطُ النَّاسَ في أَسْوَاقِهِمْ، وَيَأْمُرهم، ويَنْهَاهم، ويَأْكُل مَعَهُم، قَالَ تَعَالَى: (وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ) الفرقان:[20] وقال ﷺ: (الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ، وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، أَعظَمُ أَجرًا مِنَ المُؤمِنِ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُمْ، وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ) أخرجه أحمد (5022)
أيُّهَا المُؤْمِنُونَ: ولا أَعْنِي بِالْعُزْلَةِ: تِلْكَ الَّتِي يَنْقَطِعُ فِيهَا الْعَبْدُ لِخَالِقِهِ، وَيَجْتَنِبُ بِهَا مَوَاطِنَ السُّوءِ، وَمَجَالِسَ الإِثْمِ، فَهَذِهِ مَنْدُوحَةٌ مَحْمُودَةٌ، يَسْلَمُ لِلْمَرْءِ بِهَا دِينُهُ وَدُنْيَاهُ وَإِنَّمَا أَعْنِي الانْطِوَاء لِغَيْرِ حَاجَةٍ، والانْعِزَالَ لِغَيْرِ الطَّاعَةِ، والانْفِرَادَ عنِ الْجَمَاعَةِ والانْطِوَاءَ على النَّفْسِ، الَّذِي يَتْبَعه الْوُقُوعُ في حَبَائِلِ الشَّيْطَانِ، وبَرَاثِنِ الْخُسْرَانِ.
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: والانْطِوَاءُ والْعُزْلَةُ: آَفَةٌ خَطِيرَةٌ، وظَاهِرَةٌ مَقِيتَةٌ، ودَاءٌ عُضَالٌ، يَفْتِكُ بِالأُسَرِ، وَيَفُتُّ فِي عَضُدِ المُجْتَمَعِ، فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَهَى عَن الوَحْدةِ أنْ يَبِيتَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ أَوْ يُسَافِرَ وَحْدَهُ) أخرجه البخاري (2998) بنحوه، وأحمد (5650) واللفظ له. يَقُولُ عَبْدُ اللهِ بْنُ مسعودٍ رضيَ اللهُ عَنْهُ: (خَالِطُوا النَّاسَ وَزَايِلُوهُم وصَافِحُوهُم) أخرجه وكيع في الزهد (531) والطبراني في الكبير (9757).
عِبَادَ اللهِ: والْعُزْلَةُ دَاءٌ مِنْ جُمْلَةِ الأَمْرَاضِ، لَهُ أَسْبَابٌ وَأَعْرَاضٌ، يُنْبِئُ عَنْ خَرْقٍ جَسِيمٍ في جِدَارِ الأُسْرَةِ، يَهْرَبُ إِلَيْهَا بَعْضُ الشَّبَابِ؛ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ فِيهَا خَلاصًا منَ الضغُوطَاتِ وراحَةً منَ المشَاكِلِ والمسْؤُولِيَّاتِ، فيَنْعَزِلُ عنِ الْجَمَاعَةِ؛ لِيَقَعَ فَرِيسَةً لِلنَّفْسِ والشَّيْطَانِ، فلا يَقْوَى على مُدَافَعَتِهِمَا؛ لعدَمِ وجودِ الأخِ النَّاصِحِ، والمعَلِّمِ الْوَاعِظِ، قَالَ ﷺ لَوْ يَعْلَمُ النّاسُ ما في الوَحْدَةِ ما أعْلَمُ، ما سارَ راكِبٌ بلَيْلٍ وحْدَهُ) أخرجه البخاري (2998).
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: وإذَا انْعَزَلَ المرْءُ عَنْ بِيئَتِهِ ومَنْ حَوْلَهُ، لا تَسَلْ حِينَئِذٍ عن اكْتِئَابِ النَّفْسِ وعِلَلِهَا، وَأَدْرَانِ الوَحْدَةِ وَأَمْرَاضِهَا، وتَلاعُبِ الشَّيْطَانِ وَأَفْكَارِهِ، قَالَ ﷺ: (إنَّ الشَّيطانَ ذئبُ الإنسانِ كذِئْبِ الغنَمِ، يَأخُذُ الشّارِدةَ القاصِيَةَ؛ فإيّاكُم والشِّعابَ، وعلَيكم بالجماعةِ، والعامَّةِ، والمسجِدِ) أخرجه أحمد (22029) وصححه الأرناؤوط في شرح الطحاوية (776).
عِبَادَ اللهِ: ومِنْ أَهَمِّ أسْبَابِ الْعُزْلَةِ وَدَوَافِعهَا: مَا يَنْتُجُ عَنْ مُخَالَطَةِ بَعْض النَّاسِ مِنَ الأَذَى النَّفْسِي، وتَزَاحمِ الأَشْغَالِ، وضِيقِ الأَوْقَاتِ، وهذَا سُوءُ فَهْمٍ، وقِلَّةُ فِقْهٍ؛ لأنَّ المُسْلِمَ مَأْمُورٌ بِمُصَاحَبَةِ الأَخْيَارِ، ومُجَاهَدَةِ النَّفْسِ في صُحْبَتِهِمْ، واحْتِسَابِ الأَجْرِ في مُجَالَسَتِهِم، قَالَ تَعَالَى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) الكهف: [28].
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: وفي زَمَانِنَا، أَصْبَحَ مَفْهُومُ الانْطِوَاءِ والْعُزْلَةِ أَعَمُّ وأشْمَلُ وأَخْطَرُ وأَوْسَعُ، مَعَ وُجودِ وسَائِل اللَّهْوِ والْعَبَثِ، والأَلْعَابِ الإِلِكْتُرُونِيَّةِ، والموَاقِعِ المُحَمَّلَةِ باِلغَثِّ والسَّمِينِ، الَّتِي غَرِقَ بِهَا كَثِيرٌ مِنَ المُسْلِمِينَ الْيَوْمَ، واعْتَاضُوا بِتِلْكَ الأَجْهِزَةِ والمنَصَّاتِ عنِ التَّوَاصلِ والتَّفَاعلِ مَعَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَهْلِ والأَصْحَابِ، فَانْعَزَلَ الأَبُ عَنْ أَبْنَائِهِ بِفِكْرِهِ وَقَلْبِهِ، وَهُوَ بَيْنَهُمْ بِجَسَدِهِ وشَخْصِهِ، وانْعَزَلَتْ الأُمُّ عَنْ أَبْنَائِهَا وَزَوْجِهَا، وانْعَزَلَ الأَبْنَاءُ عَن أُسَرِهِمْ، واسْتَغْنَوْا بِمُجْتَمَعٍ افْتِرَاضِيٍّ، وَعَالَمٍ وَهْمِيٍّ.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) التحريم: [5].
بَارَكَ اللهُ لِي ولَكُمْ فِي الْقُرْآنِ والسنةِ، وَنَفَعَنَا بما فيهما من الآياتِ والحكمَةِ، أقولُ قَوْلِي هَذَا، وأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي ولَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ، وتوبوا إليه، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ يُحِبُّ المصْلِحِينَ، وَيَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وأَشْهَدُ ألا إِلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وصحبِهِ وسلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا أمَّا بَعْدُ فاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّ الانْطِوَاءَ والْعُزْلَة مَرَضٌ فَتَّاكٌ يُحَوِّلُ الإِنْسَانَ إِلَى مَغْلُوبٍ مَهْزُومٍ، لا يَقْوَى عَلَى مُقَاوَمَةِ نَفْسِهِ، ولا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الإِنجَازِ، ولا طَاقَةَ لَهُ عَلَى التَّوَاصلِ مَعَ مَنْ حَوْلَهُ، وَعِلاجُ تِلْكَ الظَّاهِرَةِ في الْحِرْصِ على الاجْتِمَاعَاتِ الأُسَرِيَّةِ، وتوطيدِ الْعَلاقَاتِ الاجْتِمَاعِيَّةِ ، وَدَمْجِ الأَبْنَاءِ بِهَا.
عِبَادَ اللهِ: وَهَذَا المرَضُ العُضَالُ قدْ يُسَاقُ إليهِ كِبَارُ السِّنِّ مِنَ الآَبَاءِ والأُمَّهَاتِ، والأَجْدَادِ والجَدَّاتِ، دُونَ رَغْبَةٍ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا لانْشِغَالِ الأَبْنَاءِ، وَقِلَّةِ الزِّيَارَاتِ، ومُفَارَقَة الأَصْحَابِ، وانْعِدَامِ الْجَلِيسِ والأَنِيسِ، فَيَتَسَلَّلُ إِلَيْهِم الْقَلَقُ والاضْطِرَابُ، فَاتَّقُوا اللهَ في كِبَارِ السِّنِّ، وجَالِسُوهُمْ، وخَالِطُوهُم، فَهَذَا أَعْظَمُ أَبْوَابِ الْبِرِّ. أَسْأَلُ اللهَ عزَّ وجلَّ أَنْ يُعِزَّنَا بِطَاعَتِهِ، وَأَنْ يُمِدَّنَا بِنَصْرِهِ وَقُوَّتِهِ. اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشْرِكِينَ، وانْصُرْ عِبَادَكَ الموَحِّدِينَ. اللَّهُمَّ انْصُرْ إِخْوَانَنَا المسْلِمِينَ المُسْتَضْعَفِينَ في كُلِّ مَكَانٍ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. اَللَّهُمَّ أمِّنا فِي أَوْطَانِنَا وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللهم وَفِّق وَلِيَّ أَمْرِنَا خادمَ الْحَرَمَيْنِ الشريفينِ إِلَى مَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وخُذْ بِنَاصِيَتِهِ إِلَى اَلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، اللَّهُمَّ وَفِّقْه وَوَلِيَّ عَهْدِهِ وِإِخْوَانَهُ وَأَعْوَانَهُ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَسَلِّمْهُمْ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَشَرٍّ. اللَّهُمَّ احْفَظْ رِجَالَ الأَمْنِ، والمُرَابِطِينَ عَلَى الثُّغُورِ. اللَّهُمَّ ارْحَمْ هذَا الْجَمْعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ والمؤْمِنَاتِ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِهِمْ، وآَمِنْ رَوْعَاتِهِمْ وارْفَعْ دَرَجَاتِهِمْ في الجناتِ واغْفِرْ لَهُمْ ولآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، واجْمَعْنَا وإيَّاهُمْ ووالدِينَا وإِخْوَانَنَا وذُرِّيَّاتِنَا وَأَزْوَاجَنَا وجِيرَانَنَا ومشايخنا وَمَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَيْنَا في جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
الجمعة 10 /7/ 1446هـ