التبكيرُ لأداءِ الصلواتِ المفروضةِ

الخطبة الأولى :
عباد الله ، المبادرةُ إلى صلاةِ الجماعة ، والتبكيرُ في الذهاب إلى المساجدِ لأداءِ الصلواتِ المفروضةِ ، من فضائلِ الأعمالِ التي يَغْفُلُ عنها ويقصِّرُ فيها كثيرٌ من الناسِ اليوم ، فالمؤمنُ حين يذوقُ طعمَ الإيمان ، ويستشعرُ لذةَ العبادة ، لا يكادُ يصبرُ حتى يسمعَ النداءَ ليذهبَ إلى المسجد ، بل تجدُهُ مُسارعاً مُسابقاً ، لا يَدخلُ وقتُ الصلاةِ إلا وقد اشتاقَ إليها ، ويَصْدقُ عليه وصفُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم – في هذا الحديثِ العظيم ، عن أَبي هريرةَ - رضي الله عنه - ، عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : (( سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إلاَّ ظِلُّهُ : إمَامٌ عَادِلٌ ، وَشَابٌّ نَشَأ في عِبَادَةِ الله - عز وجل - ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالمَسَاجِدِ ...)) الحديث . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ
ولا شك أن التبكيرَ إلى صلاةِ الجماعةِ ، والحرصَ على إدراكِ تكبيرتَها الأولى ، دليلٌ على تعظيمِ هذه الشعيرة ، وحبِها ، والرغبةِ فيها ، وهو دليلٌ أيضاً على صلاحِ العبدِ ودينِهِ وتقواه .
وانظروا إلى حَالِ النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا دخلَ عليه وقتُ الصلاة ، عن أمِّ المؤمنين عائشةَ -رضي الله عنها - أنها سئلت عن حالِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في بيتِهِ ، فقالت : إنه يكونُ في خِدْمَةِ أهلِهِ ، ويعجنُ العجينَ أحيانًا ، فإذا " سَمِعَ حيَّ على الصلاة ، حيَّ على الفلاح " فكأنه لا يعرفنُا ولا نعرفُهُ . متفق عليه . علماً أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يدخلُ إلا إذا حانَ وقتُ إقامةِ الصلاة ، وهذه هي السنةُ للإمام بخلاف غيره ، فكان - صلى الله عليه وسلم - حين يسمعُ النداءَ – يتشغلُ بالاستعدادِ للصلاة وصلاة النوافل قبلها في بيته فإذا حان وقتُ الصلاةِ خَرَج ليصليَ بالناس . ليس كحالنِا اليوم لا ننشغل ، ولا نشتغلُ ، ولا نتشاغلُ إلا إذا حانَ وقتُ الصلاة ، لا تأتي المجالسُ والمحادثاتُ إلا في وقتِ الصلاة ، وربما كان هذا نوعٌ من هوان هذه الشعيرةِ عند بعضنا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
قال سفيان الثوري : " مجيئُك إلى الصلاةِ قبلَ الإقامة ، توقيرٌ للصلاة " (1) . وقال إبراهيم التيمي : " إذا رأيت الرجلَ يتهاونُ في التكبيرةِ الأولى فاغسلْ يدكَ منه (2)" . وكان وكيعُ بنُ الجراحِ يقول : " من لم يدركِ التكبيرةَ الأولى فلا ترجُ خيرَه (3) " .
بل كان بعضُ السلفِ يَعُدُّونَ الذهابَ إلى المسجدِ بعد الأذان تقصيراً ، وأن الفضلَ هو في الذهابُ قَبلَ النداء .قال سفيانُ بنُ عيينة : " لا تكن مثلَ عبدِ السوء ، لا يأتي حتى يُدعَى ، ايت الصلاةَ قبل النداء (4) " . كلُّ ذلك تعظيماً لقدرِ هذه الصلاة ، وأدائِها في المساجد .
وفي التبكير إلى الصلاة عدّةُ فضائلٍ نذكر منها :
روى ابن المنذر (5) عن أنس بنِ مالكٍ -رضي الله عنه - في تفسيرِ قولِهِ تعالى : ( سَابِقُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) [الحديد21] ، أنها التكبيرةُ الأولى .
وذكره بعضُ المفسرين عن مكحول ، وسعيدِ بنِ جبيرٍ من التابعين .
روى عبدُ الرزاق في "المصنف" من طريقٍ صحيحٍ عن أنس -رضي الله عنه - قال : ( من لم تفتْه الركعةُ الأولى من الصلاة أربعين يوماً كُتبت له براءتان : براءةٌ من النار ، وبراءةٌ من النفاق ) . وفي سنن الترمذي " من صلى لله أربعين يوماً في جماعةٍ يدركُ التكبيرةَ الأولى كُتبت له براءتان ، براءةٌ من النار ، وبراءةٌ من النفاق " .
وجاء عن مِيثم ، رجلٍ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( بلغني أن الملَكَ يغدو برايتِهِ مع أولِ من يغدو إلى المسجد ، فلا يزال بها معه حتى يرجعَ يدخلُ بها منزلَه ، وإن الشيطانَ يغدو مع أولِ من يغدو برايتِهِ إلى السوقِ فلا يزالُ بها حتى يرجعَ فيُدْخِلَها منزلَه ) (6) .
وفي التبكيرِ إلى صلاةِ الجماعةِ تَحصيلُ أجرِ انتظارِ الصلاة ، والمكثِ في المسجد ، ودعاءِ الملائكة ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - : أنَّ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : (( لا يَزَالُ أحَدُكُمْ في صَلاَةٍ مَا دَامَتِ الصَّلاَةُ تَحْبِسُهُ ، لا يَمنَعُهُ أنْ يَنقَلِبَ إلى أهلِهِ إلاَّ الصَّلاةُ )) متفقٌ عَلَيْهِ .
وعنه - رضي الله عنه - : أنَّ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : (( الْمَلائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلاَّهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ ، مَا لَمْ يُحْدِثْ، تَقُولُ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ )) رواه البُخَارِيُّ .
كما فيه تحصيلُ فضيلةِ الصلاةِ في الصف الأول ، عن أَبي هريرة - رضي الله عنه - : أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : (( لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا في النِّدَاءِ والصَّفِ الأَوَّلِ ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاسْتَهَمُوا عَلَيْهِ ، ولو يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي العَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْواً )) متفقٌ عَلَيْهِ .
(( الاسْتِهَامُ )) : الاقْتِرَاعُ ، وَ(( التَّهْجِيرُ )) : التَّبْكِيرُ إِلَى الصَّلاةِ . والعتمةُ : وقتُ صلاةِ العشاءِ الأخيرة .
وعنه – رضي الله عنه - قَالَ : قال رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : (( خيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أوَّلُهَا ، وَشَرُّهَا آخِرُهَا ، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا ، وَشَرُّهَا أوَّلُهَا )) رواه مُسلِم .
وكما فيه تحصيلُ فضيلةِ إدراكِ التأمين مع الإمام ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه - ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : (( إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ )) رواه البخاري ومسلم .
وهو في صلاة ما دام ينتظرُ الصلاة ، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - : أنَّ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : (( لا يَزَالُ أحَدُكُمْ في صَلاَةٍ مَا دَامَتِ الصَّلاَةُ تَحْبِسُهُ ، لا يَمنَعُهُ أنْ يَنقَلِبَ إلى أهلِهِ إلاَّ الصَّلاةُ )) متفقٌ عَلَيْهِ .
ومن بكَّر في حضورِ الجماعة أمكنه الاستفادةُ من الوقتِ بين الأذانِ والإقامةِ بصلاةِ السنةِ الراتبة أو تحيةِ المسجد ، وقراءةِ ما تيسر من القرآن ، وشُغلِ الوقتِ بالدعاءِ بالخيرِ في الدنيا والآخرة ، فإن ما بين الأذانِ والإقامةِ من مواطنِ إجابةِ الدعاء . عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ – رضي الله عنه - ؛ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : « إِنَّ الدُّعَاءَ لَا يُرَدُّ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، فَادْعُوا » صحيح ، رواه أحمد وغيرُه . فشتان بين من يحضرُ للصلاةِ مبكراً ، وبين من يحضرُ إلى الصلاةِ مُسْرِعًا ليدركَ مع المصلين ما فاته ، فشتان ما بين الاثنين في حصولِ الخيرِ والأجر .
انتظارُ الصلاةِ بعد الصلاة سببٌ في محو الخطايا ورفعِ الدرجات ، وهو من الرباطِ في سبيل الله ،عَنْ أبي هريرة – رضي الله عنه - ، قَالَ : قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( ألا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ ؟ )) قَالُوا : بَلَى ، يَا رسولَ اللهِ ، قَالَ : (( إِسْبَاغُ الوُضُوءِ عَلَى المَكَارِهِ ، وَكَثْرَةُ الخُطَا إِلَى المَسَاجِدِ ، وَانْتِظَارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ فَذلِكُمُ الرِّبَاطُ )) رواه مسلم .
إنَّ من يأتي إلى الصلاة مبكرًا غالبًا ما يأتي إليها بسكينة ووقار ، فيكون ممتثلاً أمرَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، بخلاف المتأخرِ عن الصلاةِ ؛ فإنه غالبًا ما يأتي إليها مستعجلاً غيرَ متّصفٍ بالسكينةِ والوقار ، عن أَبي هريرة - رضي الله عنه - ، قَالَ : سَمِعْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، يقول : (( إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ ، فَلاَ تَأتُوهَا وَأنْتُمْ تَسْعَونَ ، وَأتُوهَا وَأنْتُمْ تَمْشُونَ ، وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ ، فَمَا أدْرَكْتُم فَصَلُّوا ، وَمَا فَاتكُمْ فَأَتِمُّوا )) متفقٌ عَلَيْهِ .
بارك الله لي ولكم في القرآن .....
______________
(1) "فتح الباري" لابن رجب (3/533)
(2) "سير أعلام النبلاء" (5/84)
(3) رواه البيهقي في "شعب الإيمان" (3/74)
(4) التبصرة لابن الجوزي (131)
(5) كما في "الدر المنثور" (2/314)
(6)رواه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" ، وأبو نعيم في معرفة الصحابة ، وصححه ابن حجر في "الإصابة" ، والألباني في "صحيح الترغيب" .
الخطبة الثانية :
وفي هدي السلفِ الصالحِ من النماذج التي تبعثُ الهمةَ في القلب ، وتبثُ العزيمةَ في النفس ، وتدعو كلَّ مقصِّرٍ ومفرِّطٍ إلى الحياءِ من رب العالمين ، حيث يتسابقُ إليه العبادُ والزهادُ ، وهو في غفلتِهِ ساهٍ عن الأجرِ والمغنم ، مؤثراً للدنيا وحُطامِها على طاعةِ ربه ومولاه الذي هو ملاقيه ، مؤثراً لبيعةٍ دنيوية ، أو جلسةٍ فارغة ، أو لُعبةٍ لاهيةً ، على أفضلِ عبادةٍ ، وأعظمِ طاعة لله .
عن الحسن ، عن أنس - رضي الله عنه - قال : ( اجتمع أصحابُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهم حذيفةُ – رضي الله عنه - ، قال رجل منهم : ما يسرني أني فاتتني التكبيرةُ الأولى مع الإمام وأن لي خمسين من الغنم . وقال الآخر : ما يسرني أنها فاتتني مع الإمام وأن لي مائةً من الغنم . وقال الآخر : ما يسرني أنها فاتتني مع الإمام وأن لي ما طلعت عليه الشمس . وقال الآخر : ما يسرني أنها فاتتني مع الإمام وأني صليت من العشاء الآخرة إلى الفجر ) (1) .
وعن أبي حرملةَ عن ابن المسيب قال : " ما فاتتني التكبيرةُ الأولى منذ خمسين ، وما نظرت في قفا رجل في الصلاة منذ خمسين سنة (2) " . يعني أنه كان يصلي في الصف الأول .
ويخشى على من يعتادُ التأخرَ عن صلاةِ الجماعة ، وإهمالِ فضلِ التكبيرةِ الأولى أن يؤخرَه اللهُ عن الأجرِ والفضلِ والخيرِ ، حيث يرضى لنفسه التأخر ، فيكون جزاؤُه من جنس عمله .
قال بعض العلماء في تفسير قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( تَقَدَّمُوا فَأْتَمُّوا بِي وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ ، لا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمْ اللَّه ) رواه مسلم ، أن المقصودَ هو من يتأخرُ عن الصف الأول والتكبيرةِ الأولى .
فاحرصوا – رحمكم الله – على حضورِ هذه الصلاةِ مبكرين ، لتدركوا أجرَ هذه الأعمال ، وتنالوا الفضلَ الجزيلَ من الله ، فإنَّ من علامةِ الاهتمامِ بهذه الصلاة ، وإقامتِها ، التبكيرُ في الاتيان إليها .
وأخيراً : عن ابن مسعود - رضي الله عنه - ، قَالَ : مَنْ سَرَّهُ أنْ يَلْقَى اللهَ تَعَالَى غداً مُسْلِماً ، فَلْيُحَافِظْ عَلَى هؤُلاَءِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ ، فَإنَّ اللهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكم - صلى الله عليه وسلم - سُنَنَ الهُدَى ، وَإنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ الهُدَى ، وَلَوْ أنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ في بُيُوتِكم كَمَا يُصَلِّي هذا المُتَخَلِّفُ فِي بَيْتِهِ لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ ، وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّة نَبِيِّكُم لَضَلَلْتُمْ ، وَلَقَدْ رَأيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إلاَّ مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤتَى بهِ ، يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ في الصَّفِّ . رَوَاهُ مُسلِم .
__________
(1)رواه ابنُ شاهين في كتابه "الترغيب في فضائل الأعمال وثواب ذلك" (رقم/107)
(2)السير (4/30)
المشاهدات 2060 | التعليقات 0