التأمل في عبادة التوكل- الحلقة الثالثة

خالد علي أبا الخيل
1438/01/29 - 2016/10/30 07:36AM
التأمل في عبادة التوكل- الحلقة الثالثة
التاريخ: الجمعة: 27/ محرم/ 1438 هـ

الحمد لله، الحمد لله الأعز الأجل، وفق من شاء لتحقيق التوكل، فأحسن الظن والعمل، ونفض عنه العجز والكسل، وأشهد أن لا إله إلا الله إليه يصعد الكلم الطيب والعمل، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل وأكمل من توكل، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه واتباعه ممن صدق في التوكل،
أما بعد،،
فاتقوا الله، فهي وصيته سبحانه (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) (النساء:131).
أيها المسلمون، مضى معنا في الجمعتين الماضيتين حلقتين كاملتين في التأمل مع عبادة التوكل، وبما أن موضوع التوكل لا ينتهي، ولا يستغني عنه أحد وينقضي، ناسب ذكر حلقة ثالثة أخيرة إتمامًا وإكمالا، ومعرفة وتأصيلا، لاسيما في هذا الزمان الذي ضعف فيه التوكل، وساء فيه العمل.
التوكل: هو الاعتصام بالله وحده من كل سوء ومكروه.
ولهذا لجأ إليه المرسلون من بطش المتجبرين وعلو المتكبرين، فنعم المولى ونعم النصير وهو على كل شيء قدير، وكان أعظم من حقق التوكل أنبياء الله ورسله، فهم سادات المتوكلين، وقدوة الناس أجمعين، ولهذا ضربوا أعظم المواقف، وأصدق الصور، فانظر إلى توكلهم وتأس بهم، فهذا نوح عليه السلام لما كذبه قومه وآذوه، وتسلطوا على أتباعه أعلنها صريحة قوية بالتوكل على رب البرية (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ) (يونس:71)، تحديًا وشجاعة، وتوكلًا وبسالة، وهذا هود عليه السلام لما آذوه واتهموه، وسخروا به وبالجنون قذفوه، أعلن توكله على الحي الذي لا يموت (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (هود:54- 56) .
وهذا شعيب عليه السلام لما كذبه قومه ورموه، وسخروا به وعليه، أعلن هو ومن معه التوكل الصريح، والاعتقاد الصحيح (وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا) (الأعراف:89).
وهذا موسى لما طغى عليه فرعون وعتى، وسخر وأذى، (وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا) (يونس:84، 85)، فدفع تلك الطغيان بالتوكل على الرحيم الرحمن، بل طارده فرعون وجنده حتى حصرهم البحر وعشره، فكان أمامهم والعدو من ورائهم، فأيقن اتباع موسى بالهلاك، والوقوع والانفكاك، (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) (الشعراء:61، 62) يقين تام، وثبات عجيب، فنجا من كيد عدوه، وسلمه ربه.
وهذا إبراهيم عليه السلام لما كاد له قومه وهموا بإحراقه وآذوه ورموه، قال توحيده، وأعلن يقينه، وصرح بإيمانه، فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فقال الله لناره: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ)[الأنبياء:69]، توكل على الرحمن في كل حاجة أردت، فالله يقضي ويقدر متى ما يرد ذو العرش أمرًا بعبده يصبه، وما للعبد ما يتخير، وقد يهلك الإنسان من وجه أمنه، وينجو بإذن الله من حيث يحذر.
وهذا يعقوب عليه السلام لما فقد ولده، فلذة كبده، وأخذ منه قوة، أعلنها مدوية، وصرح بها متيقنًا، فقال: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) (يوسف:67).
وهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم سيد المتوكلين، وإمام المتوكلين، عصمه الله وكفاه من الناس أجمعين، وحفظه الله من كفر الكافرين، وعدوان المعتدين، فلما أجمعوا عليه أمرهم، وبذلوا سعيهم، قال كما قال إبراهيم، تلك الكلمة الخالدة، والعقيدة الصافية حسبنا الله ونعم الوكيل، فنجاه من شرهم، وخاب سعيهم، وطفيَّ كيدهم، وكفاه شرهم،(فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) (آل عمران:174).
ومن صور توكله وقوة إيمانه وصبره: أنه لما نزل تحت شجرة، فعلّق بها سيفه، قال جابر: فنمنا نومة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا فجئناه فإذا عنده أعرابي جالس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن هذا اخترط علي سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتا)، فقال لي: من يمنعك مني؟ قلت: (الله)، ولمسلم فقال لرسول الله: أتخافني؟ قال: (لا)، قال: من يمنعك مني ؟ قال: (الله يمنعني منك) (رواه الشيخان).
ومن صور توكله وثقته بربه: أنه لما دخل الغار ومعه أبو بكر -رضي الله عنه- ليلة الهجرة، والمشركون يتبعونهما، قال أبو بكر -رضي الله عنه- من شدة خوفه على رسول الله: لو أن أحدهم نظر تحت قدمه لأبصرنا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما) (رواه الشيخان).
ومن صور توكله على الله في مواجهة الكافرين وعَددهم، وعُددهم، وشدة بأسهم وعنادهم، ومكرهم، وكيدهم، وسبهم، وضربهم، فكفاه الله وتولاه وحفظه وحماه.
ومن المواقف المشرقة ما وقع في وقعة اليرموك، أن رأى المسلمون كثرة العدد وقلتهم كتبوا إلى عمر -رضي الله عنه- يطلبون المدد، قائلين: إنه قد جاش إلينا الموت، فكتب إليهم عمر -رضي الله عنه-: إنه قد جاءني كتابكم تستمدونني وإني أدلكم على من هو أعز نصرا، وأحضر جندا، الله عز وجل، الله عز وجل فاستنصروه، فإن محمدًا قد نصر يوم بدر في أقل من عدتكم، قال الراوي: فقاتلناهم فهزمناهم، هكذا يصنع التوكل والثقة، والإيمان والصدق والنصرة، إن التوكل يعطي المؤمن عزة ورفعة، وقوة ومنعة، لا يخشى الصعاب ولا يهاب، علق قلبه برب الأرباب، (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران:159).
إن التوكل عز المؤمن واستغناؤه عما في أيدي الناس، والبعد عن سؤالهم، ولما بايع الصحابة رضي الله عنهم رسول الله، بايعهم ألا يسألوا الناس شيئًا، فكان سوط أحدهم يسقط على الأرض، ومن على رحله، فلا يسأل أحدًا أن يناوله إياه.
لا تسألن بُنيَّ آدم حاجةً
وسل الذي أبوابه لا تُحجبُ

الله يغضبُ إن تركت سؤاله
و بُنَيَّ آدم حينَ يُسألُ يغضبُ

إن حمل الصخر من قنن الجبال
أحب إلي من منن الرجال

يقول الناس هذا عيب
فقلت العيب في ذُل السؤال

وكثيرًا من الناس يدعون التوكل على الله لكن دعواهم باطلة؛ لأنها خالية من التوكل وتحقيقه، ومن الرضا والطمأنينة والتسليم والسكينة.
قال بشر الحافي -رحمه الله-: يقول أحدهم توكلت على الله، يكذب على الله، ولو توكل على الله لرضي بما يفعل.
التوكل: أيها الناس اعتقادٌ، واعتمادٌ، وعمل؛ فالاعتقاد أن يعلم المرء أن الأمر كله بيد الله، ثم يأتي الاعتماد بالثقة عليه، ثم يأتي العمل بفعل الأسباب، قيل لحاتم الأصم على ما بنيت أمرك في التوكل؟ قال: على خصال أربعة: علمت أن رزقي لن يأكله غيري فاطمأنت به نفسي، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتي بغتةً فأنا أبادره، وعلمت أني لا أخلو من عين الله فأنا مستحي منه، المتوكل من أقوى الناس يقول شيخ الإسلام: الاستعانة بالله، والتوكل عليه، واللجأ إليه هي التي تقوي العبد، وتيسر عليه الأمور، ولهذا قال بعض السلف: من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله.
المتوكل لا يعتمد على غير الله، ولو فيما أقدره الله، فإن من اعتمد على حسبه ذل، ومن اعتمد على عقله ضل، ومن اعتمد على ماله قل، ومن اعتمد على الناس مل، والموحد يعتمد على الله عز وجل.
قلت ما سمعتم، واستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ومصطفاه، وبعد،،
من قواعد التوكل: أن التوكل لا ينافي السعي في الأسباب، التي قدره الله سبحانه، فالله أمر بتعاطي الأسباب مع أمره بالتوكل عليه، كما قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) (النساء:71)، وقال: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ) (الأنفال:60)، وقال جل ذكره: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) (الجمعة:10)، وقال عز اسمه: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) (الملك:15).
قال سهل التستري -رحمه الله-: من طعن في الحركة -يعني في السعي والكسب- فقد طعن في السنة، ومن طعن في التوكل فقد طعن في الإيمان، فالتوكل حال النبي صلى الله عليه وسلم، والكسب سنته، فمن عمل على حاله فلا يتركن سنته.
وهناك طائفتان ضلتا في هذا الباب:
طائفة عطلت الأسباب الشرعية المأمور بها، بحجة التوكل، وقالوا: الآجال محدودة، والأرزاق مكتوبة.
وطائفة تركت العمل والأخذ بالأسباب المباحة، واستسلامًا للأوهام والكسل، يتكففون الناس، وينظرون إلى ما في أيديهم، والمرء مأمور بالعمل والأمل، وترك العجز والكسل.
فالمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، دخل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- المسجد، فوجد قومًا قد عكفوا فيه عالةً على الناس، وتركوا العمل والكسب، فعلاهم بدرته وقال: إن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة.
وفي البخاري قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن متوكلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس، فأنزل الله: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) (البقرة:197).
وقال معاوية بن قرة: لقي عمر ناسًا من أهل اليمن، فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون، قال: بل أنتم المتأكلون.
إنما المتوكل من يُلقي حبه في الأرض ويتوكل، التوكل والعمل والأخذ بالأسباب المباحة صنوان لا يفترقان، ومن فرق بينهما فقد فرق ما جمع الله.
قال شيخ الإسلام: الالتفات إلى الأسباب واعتبارها مؤثرة في المسببات شرك في التوحيد، ومحو الأسباب من تكون أسبابًا نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب المأمور بها قدح في الشرك.
ولما سئل الإمام أحمد عن قوم لا يعملون، ويقولون نحن متوكلون، قال: هؤلاء مبتدعة، فديننا دين عمل وبذل، وفي الوقت نفسه ثقة وتوكل، وأخذ الحذر والحيطة، والتأمل في حال العبد نفسه لا ينافي التوكل، فالناس بين طرفي نقيض أما رجل عطل الأسباب والعمل، وإما رجل اعتمد على دنياه وماله وعمله ومنصبه وجاهه، وخاف الجوع والفقر، واعتمد على الأسباب والمادة، فالتوكل بدون القيام بالأسباب المأمور بها عجز محض، فلا ينبغي أن يجعل توكله عجزًا، ولا عجزه توكلًا، بل يجعل توكله من جملة الأسباب التي لا يتم المقصود إلا بها.
قال الفضيل -رحمه الله-: والله لو يئست من الخلق حتى لا تريد منهم شيئًا لأعطاك مولاك ما تريد.
قال داود بن سليمان -رحمه الله-: يستدل على تقوى المؤمن بثلاث: حسن التوكل فيما لم ينل، وحسن الرضا فيما قد نال، وحسن الصبر فيما قد فات.
أيها المسلم! الرضا والتوكل يكتنفان المقدور، فالتوكل قبل وقوعه والرضا بعد وقوعه، والرضا ثمرة التوكل وروح التوكل، فحسن بظنك وتفاءل، وارجوا ربك ولا تشاءم.
قل للذي ملأ التشاؤم قلبه ومضى يضيق حولنا الآفاقا
سر السعادة حسن ظنك بالذي خلق الحياة وقسم الأرزاقا
فهذه بحمد الله ثلاث حلقات متوالية في خطب متتابعة، في هذا الباب العظيم، والحصن المتين، وهو التوكل على رب العالمين،
توكل على الرحمن في الأمر كله فما خاب حقًا من عليه توكلا
وكن واثقًا بالله واصبر لحكمه تفز بالذي ترجوه منه تفضلا
وما ثم إلا الله في كل حالة فلا تتكل يومًا على غير لطفه
فكم من حالة تأتي ويكرهها الفتى وخيرته فيها على رغم أنفه
المشاهدات 1014 | التعليقات 0