التّأريخ والأعياد في الشّريعة الإسلاميّة

أبو البراء
1431/12/29 - 2010/12/05 19:41PM
التّأريخ والأعياد في الشّريعة الإسلاميّة
الخطبة الأولى
الحمدُ للّه الذي أكملَ لنا الدِّين, وأتمَّ علينا النِّعمة, ورَضِيَ لنا الإسلامَ ديناً, أحمدُه سبحانَه وأشكُرُه, وأتوبُ إليهِ وأستغفِرُه. وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له, إلهُ الأوّلينَ والآخِرين, وقيّومُ السّموات والأَرضين, ومالكُ يومِ الدّين, الذي لا فوزَ إلا في طاعتِه, ولا عزَّ إلا في التّذلِّلِ لعَظَمتِه.
وأشهدُ أنَّ محمّداً عبدُه ورسولِه, وصفْوتُه من خَلْقِه, وأمينُه على وحيِه, ابتَعثَه بخيرِ مِلَّة, وأحسَنِ شِرْعَة, وأظهرِ دِلالَة, وأوضحِ حُجَّة, وأبينِ برهان, إلى جميعِ العالَمين: إنسِهم وجنِّهم, عربِهم وعجَمهم, حاضرِهم وباديهم؛ وهوَ الذي بشَّرتْ به الكتبُ السّالفةُ, وأخبَرتْ به الرُّسلُ الماضيةُ, وجرى ذكرُه في الأعصارِ, في القرى والأمصارِ, والأممِ الخاليةِ. صلّى اللهُ وسلَّمَ عليه وعلى آلِهِ وصحبِه.
أمّا بعد: فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ حق تقاته واصبروا، واذكروه كثيرًا واثبتوا، وحافظوا على دينكم ولا تغيّروا، إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ
أيُّها الإخوةُ المسلمون: دينُ الإسلامِ دينٌ جامعٌ مانِعٌ, كامِلٌ خاتِمٌ, يقولُ الحقُّ سبحانه: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسلامَ دِيناً ).
إنّه عقيدةٌ صافيةٌ, وإيمانٌ قويمٌ, وعبادةٌ راشدةٌ, لا خيرَ إلا احتواه ودلَّ عليه, ولا شرَّ إلا نفاه وحذّرَ منه, جعلَه اللهُ ناسخاً لجميعِ الشّرائِع قبلَه: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) ,وقال الله ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ) , وقال تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون ). من أجلِ ذلك تشرّبَتْ قلوبُ أهلِ المللِ الأخْرى الحقدَ والحسدَ, والكراهيةَ والبغضاء, والمكرَ والعِداءَ على أهلِ الإسلامِ وحمَلَتِه:( وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ).( وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ).
أيُّها الإخوةُ: لقدِ اختلَطَ الحقُّ بالباطلِ, والحابِلُُ بالنّابِلِ, حتّى بلغَ ( السّكينُ العظمَ, والسَّيلُ الزُّبى ), حَولَ التّأريخِ المرتَبِطِ بميلادِ المسيحِ عيسى بنِ مريمَ عليه السّلامُ, حيثُ شُغِلَتْ أنظارُ النّاسِ وانصرَفتْ إلى متابعةِ أعيادِ اليهودِ والنّصارى واحتفالاتِهم, ما هذا التّخبُّطُ والـمَرَجُ؟! ولماذا الغَلَطُ واللَغَطُ؟ .
وإنّ لكم في كتابِ اللهِ آياتٍ بيّنات, في الأيّام والشُّهور والسنوات, ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ),
( يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ ),( الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَام ),(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ),( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ). قال القُرطبي في تفسير هذه الآية: أنه سبحانه وضع هذه الشهور وسماها بأسمائها على ما رتبها عليه يوم خلق السموات والأرض، وأنزل ذلك على أنبيائه في كتبه المنزلة. وهو معنى قوله تعالى: "إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا". وحكمها باق على ما كانت عليه لم يزلها عن ترتيبها تغييرُ المشركين لأسمائها، وتقديمُ المقدم في الاسم منها. والمقصود من ذلك اتباع أمر الله فيها ورفض ما كان عليه أهل الجاهلية من تأخير أسماء الشهور وتقديمها، وتعليقِ الأحكام على الأسماء التي رتبوها عليه، ولذلك قال عليه السلام في خطبته في حجة الوداع: (أيها الناس إنَّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض...) انتهى كلامه رحمه الله.
وقال سبحانه: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ). كلُّ هذا وغيرُه يدلُّ على أنّ التّأريخ الميلاديَّ باطلٌ باطل, أضف إليه أنّه لا يصحُّ تحديدُهُ وحسابُه أصلاً, وأشنع منه وأقبح ما يقولُونه عن ولادة عيسى عليه السّلام وأنّه ولدُ الله!! تعالى الله وتقدّس( وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ).
إخوةَ الإسلام: إنّ عيدنا هو عيدُ الفِطرِ وعيدُ الأضحى, ولا عيدَ لنا غيرُهما, وأمّا ما سِواهُما من الأعيادِ فجاهليَّةٌ, ليستْ من دينِنا في شيءٍ, حتّى فُسِّرَ قولُهُ تعالى: (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ). في وصفِ عبادِ الرّحمن, بأنَّهمُ الذين لا يشهدُونَ أعيادَ الكفَّار, وقد ثبتَ عن أنسٍ t أنّه قال: قَدِمَ رسولُ اللهِ r المدينةَ ولهم يومانِ يلعبُونَ فيهما, فقال النّبيُّ r : ما هذانِ اليومانِ ؟ قالُوا: كنَّا نلعبُ فيهما في الجاهليّةِ, فقالَ رسولُ الله r : ( إنَّ الله قد أبدَلَكُم بهما خيراً منهما: يومَ الأضحى ويومَ الفِطرِ).
وإنّ من المفاسدِ النّاتِجةِ عن الاهتِمامِ بأعيادِ الكفّارِ , وتعظيمِها, والاحتفالِ بها: إشعارَ الكفَّارِ وأهلِ الكتابِ بالتّبعيّةِ لهم, ووجودِ المحبّةِ والموالاةِ لهم, مما يتنافى مع الإيمانِ الصّادق.
ومن مفاسدِ ذلك: ضعفُ شعورِ مسلمينَ بأعيادهم وسطَ مظاهرَ طاغيةٍ من احتفالاتِ أهلِ الكتاب. لا سيّما وقد حرِصَ بعضُ المسلمين على متابعة أعيادِ الكفّار, وتعطيل الأعمال, وتكبّدِ مشاقِّ السَّفرِ لحضور هذه الاحتفالات. وتزدادُ المصيبَةُ إذا علمنا ما يكونُ فيها من الفسق والمجونِ, والإسرافِ والعصيانِ. ورضيَ اللهُ عن عُمَرَ الفاروقِ فقد قال: ( اجتنبوا أعداءَ اللهِ في عيدهم ).
لذا فإنَّ كلَّ مظاهرِ الاحتفالِ برأسِ السّنةِ الميلاديّة, والدّعوةَ إليها, وتخصيصَها ببعضِ الأنشطةِ التّجاريّةِ, أو توقيتَ بعضِ المناسباتِ والمشاريعِ عليها, مـمَّّا لا يجوزُ للمسلِمِ ولا يَسوغُ, ولا يفعلُه إلا من في قلبِه مرض ممن ضعُفَ إيمانُه, ولا يُشِيعُه إلا من تأثَّرَ بتضليلِ الأعداءِ وإرجافِهم خوفاً وهلعاً, وخشيَةً وتسارُعاً.
ومما يجبُ الانتباهُ إليه أنّه لا يجوزُ لمسلمٍ الهديةُ و التّهنئةُ بأعيادِ الكفّار؛ لأن ذلك يعبِّرُ عن رضاً بما هم عليه من الباطل وهو حرامٌ بالاتفاق , أمّا في مناسباتهم الدنيويّة فلا حرج وهو من البرِّ الذي أمرنا به.
ومن أعظمِ مَـخاطرِ الاحتفالِ بأعياد أهل الكفر: الدّعوةُ إلى وَحْدَةِ الأديان, أو الإبراهيميَّة, أو وَحدَةِ الدِّينِ الإلهيِّ, وغيرِها من الأسماءِ التي تدلُّ على مُسمًّى وشيءٍ واحدٍ, وهيَ دعوةٌ خبيثَةٌ ماكرةٌ, دعوةٌ إلى إلغاءِ الفوارقِ بين الإسلامِ والكفرِ, وبين الحقِّ والباطل, وبين المعروف والمنكر, ومن أصولِ الإسلامِ المُقرَّرةِ في الكتابِ والسُّنةِ: أنّه يجبُ اعتقادُ كُفْرِ كلِّ من لم يدخلْ في الإسلامِ من اليهودِ والنّصارى وغيرِهم , وأنّه من أهلِ النّارِ إن ماتَ على ذلك, كما قالَ الله تعالي: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ). وقال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ).وثبتَ في صحيحِ مسلمٍ أنّ النّبيَّ r قال: ( والذي نفسي بيدِه لا يسمعُ بي أحدٌ من هذه الأمّةِ: يهوديٌّ ولا نصرانيُّ, ثمَّ يموتُ ولم يُؤمن بالذي أرسلتُ به إلا كانَ من أصحاب النّارِ). أسأل اللهَ أن يُصلحَ أحوالَ المسلمين, وأن يهديَ ضَالَّهم, إنّ ربي سميعٌ قريب.
أقول هذا القولَ, وأستغفِر الله لي ولكم من أيِّ ذنبٍ, فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ .
الخطبة الثانية
الحمد لله كما أمر , والشكر له وقد تأذن بالزيادة لمن شكر , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , إرغاما لمن جحد به وكفر . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خيرُ البشر , صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه أهل الدين والظفر.
وبعد, فالمسلمون يُؤرِّخَون بالهجرةِ النّبويةِ الكريمةِ, التي تمثِّلُ شرفاً وعزّةً لهم بل وديناً قيّماً؟ وهو الـتأريخ المرتبط بالقمر ومنازله؟ وارفعوا رؤوسكم لتروا مسيرة الأيام والليالي! وهل يخفى القمرُ ليلةَ البدر!!!
إنّه التَّأريخُ الصحيح الوحيد في العالم, والذي أجمعَ عليهِ الصّحابةُ رضيَ اللهُ عنهم, وأرَّخُوا له بدونِ احتفالٍ ولا ابتداعٍ, وتوارثَهُ المسلمون من بعدِهم منذُ أربعةَ عَشَرَ قرناً, وهو ما تعتمدُه الدولةُ في هذه البلاد.
هذا, وللجنّةِ الدّائمةِ للبحوثِ العِلميَّةِ والإفتاء في هذه الدولةِ المباركة بيانٌ شافٍ ووافٍ و فتوى حولَ هذا الموضوعِ, مضمونُه ما سبق, نفعَ اللهُ به, وجَزَاهم على ذلك خيرَ الجزاءِ.
ألا فاتقوا اللهَ ربَّكم أيها المسلمون، واستمسكوا بدينكم، وأقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه، أقيموه في أنفسكم وأهليكم وكلِّ جوانب حياتكم , وعودوا إلى ربكم وتوبوا إليه لعلكم تفلحون.
ثم اعلَموا ـ رحمكم الله ـ أن الله قد أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى فيه بملائكته المسبحة بقدسه، وأيّه بكم أيها المؤمنون من جنّه وإنسه، فقال جل في علاه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد ما زهرت النجوم وتلاحمت الغيوم، وصل وسلم على نبيك وآله وأصحابه وأزواجه وذريته، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين.. اللهم أصلح أحوال المسلمين , وأصلح عقائدهم ,وطهر قلوبهم , واجعلنا جميعا من أهل( لا إله إلا الله ) وممن قام بحقها وعَمِلَ بمقتضاها ,فنال فضلها وثوابها ..
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم, اللهم ارزقنا الاستقامة على طاعتك على الدوام إنك جواد كريم. اللهم واجعلنا فيما نستقبل من أيامنا خيرا مما مضى من أعمارنا ,واختم بالصالحات أعمالنا وأعمارنا. اللهم واجعل آخر كلامنا من الدنيا : ( لا إله إلا الله ) وتوفّنا وأنت راضٍ عنّا غيرَ غضبان .

من المراجع :
منبريّات للدكتور أحمد السديس
خطب الشيخ عبد الله البصري
المشاهدات 2010 | التعليقات 0