التأريخ الهجري : ضرورة سياسية وخصوصية أممية وحتمية دينية . أ.شريف عبد العزيز
الفريق العلمي
في القرن الثاني عشر الهجري الموافق للقرن الثامن عشر ميلادي كانت الدولة العثمانية تمر بطور الانحطاط، وتتراجع بقوة أمام خصومها التاريخيين وعلى رأسهم روسيا القيصرية التي حققت نجاحات كبرى في حروب القرم على حساب الدولة العثمانية، بحيث خرجت معظم أملاك الدولة العثمانية في أوروبا الشرقية من حوزتها واحتلتها روسيا القيصرية، ففكرت الدولة العثمانية في تحديث جيوشها، فطلبت من إنجلترا وفرنسا وألمانيا تحديث آلتها العسكرية، فوافقوا على ذلك الأمر، واشترطوا في نظير ذلك عدة أمور من ضمنها إلغاء اعتماد التقويم الهجري في المكاتبات الرسمية للدولة، وتحت الضغط اضطرت الدولة العثمانية للموافقة. وفي القرن الثالث عشر الهجري/ التاسع عشر الميلادي عندما أراد خديوي مصر أن يقترض مبلغًا من الذهب من إنجلترا وفرنسا؛ لتغطية مصاريف فتح قناة السويس، اشترطتَا عليه ستة شروط؛ منها: إلغاء التقويم الهجري في مصر، فتم إلغاؤه سنة: 1292هـ - 1875م، واستبدال التقويم الميلادي به.
فهل إلى هذا الحد كان التقويم الهجري يمثل خطورة كبيرة على الأوروبيين خصوم الأمة الإسلامية التاريخيين بحيث يشترطوا إلغاءه ووقف العمل به، نظير إمداد أعدائهم المسلمين بالسلاح والمال !!
ولماذا يحرص خصوم الأمة على استهداف تاريخ الأمة ولغتها قبل دينها؟
وهل الحديث عن التقويم الهجري من باب نافلة القول أو الترف الفكري أو المظهرية الفارغة؟ أم أن الموضوع أبعد وأخطر وأهم من مجرد أيام وشهور ومنازل قمرية وذكريات تاريخية ومآثر مجد تليد انقرضت أيامه واندرست آثاره.
نشأة التأريخ الهجري.
ما من أمة كبيرة عبر التاريخ إلا ولها سماتها الخاصة بها والتي تشكل خصوصيتها وهويتها بين الأمم، هذه السمات الرئيسية تشمل اللغة والدين والتاريخ، والثلاثة بمثابة القوام الأساسي لهوية أي أمة ومجتمع، لا تقوم أمة بغير السمات الثلاثة، ولهذا كان لكل أمة من الأمم تقويمها التاريخي الخاص بها، به تُؤرِّخ لأحداثها الكبرى ومواقفها الحاسمة، وتضبط به أعيادها وشعائرها، هذا التاريخ يعتبر حافظ لذاكرتها، وسجل لأحداثها، وانعكاس لثقافتها؛ لذلك كان للحضارات القديمة تاريخها الخاص بها فالمصريون والفرس والرومان والهنود واليهود والصينيون وغيرهم ممن باد أو بقى من الأمم كان له تقويمه الخاص، حتى العربي القديم كان له تقويم يعتمد فيه على السنة القمرية، مع ربط هذا التاريخ بالأحداث الجسام والمفصلية في حياتهم، مثل عام الفيل، وحرب الفجار، والبسوس، وداحس والغبراء..
وعندما قامت أمة الإسلام ظل المسلمون يؤرِّخون بالأحداث الهامة، مثل عام الحزن، أما بعد الهجرة، فأخذت السنوات الأسماء التالية: السنة الأولى: الإذن؛ أي: الإذن بالهجرة، والثانية: الأمر؛ أي: الأمر بالقتال، والثالثة: التمحيص، والرابعة: الترفئة، والخامسة: الزلزال، والسادسة: الاستئناس، والسابعة: الاستغلاب، والثامنة: الاستواء، والتاسعة: البراءة؛ أي: براءة الله ورسوله مِن المشركين، ومنعهم مِن الاقتراب مِن المسجد الحرام، والعاشرة: اسم سنة الوداع، وفيها حج الرسول -صلى الله عليه وسلَّم- حجة الوداع.
ومع اتساع الأمة، وكثرة الفتوحات ودخول أمم وأقوام جدد في الإسلام، فتمددت حدود الأمة لتشمل ألسنة جديدة وثقافات مغايرة وأصبحت الحاجة لاعتماد تقويم خاص بالأمة ضرورة سياسية وحتمية مجتمعية وخصوصية أممية، تقويم يتجاوز إطاره الظاهري من طريقة حساب الزمن ومعرفة أوائل الشهور ومنازل القمر إلى إطاره الأوسع والأشمل ليكون عنصر من عناصر الهوية الإسلامية، ومعبراً عن ثقافتها وخصوصيتها بين الأمم، وحافظة لأهم انتصارات الأمة وانكساراتها، وذاكرة واعية تحفظ الأمة من التيه والضياع والتخبط في دروب التقليد والتبعية.
بداية الانتباه كان في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فقد ورد في السنة الثالثة من خلافته كتاب من أبي موسى الأشعري والي البصرة يقول فيه: "إنه يأتينا من أمير المؤمنين كتب، فلا ندري على أي نعمل، وقد قرأنا كتابًا محلُّه شعبان، فلا ندري أهو الذي نحن فيه أم الماضي؟!"، عندها جمع عمر أكابر الصحابة للتداول في هذا الأمر، وكان ذلك في يوم الأربعاء 20 جمادى الآخرة من عام 17هـ، وانتهوا إلى ضرورة اختيار مبدأ التاريخ الإسلامي، وتبايَنتِ الآراء: فمنهم من رأى الأخذ بمولد النبي -صلى الله عليه وسلم- ومنهم من رأى بمبعثه، ومنهم من رأي بوفاته، ومنهم من رأي بيوم بدر، ومنهم من رأي بفتح مكة، ومنهم من رأى العمل بتقويم الفرس أو الروم، لكن الرأي بينهم استقر على الأخذ برأي علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- الذي أشار إلى جعل مبدأ التقويم هجرة الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- وقد اتخذ أول المحرم من السنة التي هاجر الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيها مبدأَ التاريخ الإسلامي.
لماذا اختار الصحابة التأريخ بالهجرة دون غيرها؟
رغم أهمية كل التواريخ التي طرحها الصحابة -رضوان الله عليهم- لتكون مبدأ للتاريخ الإسلامي الخاص بالأمة إلا إن اختيار الهجرة كان دليلاً على فقه الصحابة ووعيهم السياسي والاجتماعي والأممي.
فالهجرة كانت الحدث الأبرز والأكثر استحقاقاً للاختيار، وذلك لعدة أسباب:
1 – الهجرة كانت الحدث الأبرز والموقف الحاسم في تاريخ الإسلام، انتقل به الإسلام من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدولة، وهذا يعني قيام الكيان السياسي الجامع لكل أفراد الأمة، والمظلة الآمنة لكل المؤمنين والخائفين من غدر المتربصين، ويعني وجود الكيان النظامي الذي له سلطة عليا تحكمه وتنظم شئونه وترعى حقوق المنتمين لهذا الكيان، ويعني قيام الشوكة الحامية للدين وأهله، ويعني وجود الدولة المحددة الحدود والمعالم بقيادة زمانية ومكانية واحدة موحَّدة، تكون قاعدة انطلاق الدعاة في كل مكان لنشر الإسلام في ربوع الأرض، فمن المدينة انطلق سفراء النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى رؤساء وعظماء فارس والروم والقبط واليمن والحبشة، محتمين بمظلة الدولة والكيان الحافظ لذمتهم من أن يعتدي عليها أحد، ودخل الناس في دين الله أفواجاً.
2 – الهجرة كانت حدثاً تمازجت فيه كل الأدوار الاجتماعية، وتشارك فيه الجميع، فالهجرة لم تكن حادثاً فردياً، بل كانت مجهود مكونات الأمة كلها، كبار وصغار، رجال ونساء، أغنياء وفقراء، مرضى وأصحاء، أقوياء وضعفاء، أفراد وأسر، أحرار وعبيد، سادة وموالي، الجميع ضحا من أجل نجاح الهجرة، كل هؤلاء اشتركوا في صناعة حادث الهجرة، لا يُنسب لأحد على أحد فضل زائد، فسقطت عندها كل الروابط والفوارق الأرضية، وبقت رابطة الإيمان وحدها تشد الجميع في وشيجة واحدة وثيقة، ينتمي إليها الجميع، وهي رابطة التوحيد ودعوة الإسلام.
3 – الهجرة كانت النقطة الفارقة في حياة الأمة ومسيرتها، فارقة بين الخوف والاضطهاد والتعذيب والتضييق والتنكيل، وبين الأمن والأمان والاعتزاز والحرية، فارقة بين الاستخفاء بالعبادة والاسرار بالعقيدة والتوجس من طوارق الليل والنهار، وبين الجهر بالدين والاستعلاء بالعقيدة والاستعلان بالشعائر ورفع رايات الدين، فارقة بين القلة المضطهدة التي تركت أموالها وديارها وكل ما لديها وراء ظهرها وبين الأكثرية الكاسحة التي ستفتح مكة بعد أقل من عشر سنوات من هذا الحدث بأكثر من عشرة آلاف مقاتل، ثم يتضاعف العدد ليصل لأكثر من مائة ألف في حجة الوداع.
4 – الهجرة كانت انتصاراً على نوازع النفس وجذبة الأرض ومعوقات البشر من مال وأهل وولد ومساكن وقبيلة وعصبية وعشيرة، الهجرة كانت انتصاراً على الضعف الإنساني الذي دفع ببعض من آمن لئن يخبر المشركين بميعاد غزوة فتح مكة كما حدث من حاطب بن بلتعة -رضي الله عنه-، كما دفع البعض لإيثار هذه النوازع من مال وأهل وولد على الهجرة، فأخروها فترة من الزمان ففاتهم كثير من أمور الدين، فحذرهم القرآن أشد تحذير، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ۚ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[التغابن: 14].
وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الشيطان قعد لابن آدم في طريق الإيمان فقال له أتؤمن وتذر دينك ودين آبائك فخالفه فآمن ثم قعد له على طريق الهجرة فقال له أتهاجر وتترك مالك وأهلك فخالفه فهاجر ثم قعد له على طريق الجهاد فقال له أتجاهد فتقتل نفسك فتنكح نساؤك ويقسم مالك فخالفه فجاهد فقتل، فحق على الله أن يدخله الجنة ". هذا الانتصار كان الجهاد الأكبر الذي يحتاجه المرء حتى يكون أهلاً لحامل رسالة الإسلام، وبمثابة التهيئة الإيمانية لجسام الأمور التي ستقبل عليها الأمة بعد حادث الهجرة.
5 – أن كل الأحداث الكبرى التي تداولها الصحابة وطرحوها كموعد لبدء التأريخ كانت بمثابة التابع أو الأثر من آثار الهجرة، أو أنها لم تكن لتعرف وتنتشر لولا الهجرة، كيوم بدر وفتح مكة، أو أنها لم تكن معلومة الوقت على وجه اليقين مثل مولده -صلى الله عليه وسلم-، أو أنها تثير الحزن والشجن في قلوب المسلمين مثل وفاته -صلى الله عليه وسلم-.
حاجتنا للتأريخ الهجري
ربما يرى البعض أن الحديث عن التأريخ أو التقويم الهجري من المستحبات والمكملات ومن ترف الثقافة والفكر، وأنه لا داعي لتكبير الحديث عن التأريخ الهجري وأن الأمر سيان بينه وبين التأريخ الميلادي، أو أن الحاجة اليوم أمسّ للتقويم الميلادي منه إلى الهجري، فالعالم كله يتعامل بالميلادي، والمعاملات المالية والاقتصادية والمؤسسات الدولية مرتبطة بالتقويم الميلادي، ولكن الحق أن الأمر أكبر من ذلك كله وأن الحاجة ماسة للغاية للتقويم الهجري والتأريخ العربي القمري، وذلك لأسباب عديدة منها:
ارتباط الشعائر الإسلامية بالتأريخ الهجري؛ قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ)[البقرة: 189] الأهلة: جمع الهلال، وهو القمر في بداية ظهروه في الثلاثة أيام الأولى من الشهر، والمواقيت: جمع ميقات، وهو الوقت المحدد المعلوم للناس، وعن ابن عباس قال: "سأل الناس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الأهلة، فنزلت هذه الآية، يعلمون بها حل دينهم، وعدة نسائهم، ووقت حجهم.. ".
وغير الحج هناك فريضة الصوم والزكاة وكلاهما يرتبط بالتأريخ الهجري، أيضا الأعياد والمناسبات الإسلامية كيوم عاشوراء وعشر ذي الحجة ترتبط بالتأريخ والمواقيت، وقال تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)[التوبة: 36]. والآية محكمة ففي بيان زمان القتال.
ومنها أن التأريخ الهجري توقيفي من الله لا اجتهاد: قال تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)[التوبة: 36].
قال المفسرون :(عِندَ اللَّهِ) معناها في حكمه وتقديره -سبحانه وتعالى-، وعلينا أن نهتدي بما هدانا إليه، وقوله تعالى: (فِي كِتَابِ اللَّهِ)، أي فيما كتبه علينا من أحكام متعلقة بهذه الأشهر، وقال بعض العلماء: المراد ما كتب في اللوح المحفوظ الذي فيه ما قدره الله -تعالى- بعباده، فهو لوحه المكنون.
وقال القرطبي: "إنما قال (يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) ليبين أن قضاءه وقدره كان قبل ذلك، وأنه سبحانه وضع هذه الشهور وسماها بأسمائها على ما رتبها عليه يوم خلق السموات والأرض، وأنزل ذلك على أنبيائه في كتبه المنزلة، وحكمها باق على ما كانت عليه، والمقصود من ذلك اتباع أمر الله فيها".
وقال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)[يونس: 5]. قال الإمام الشوكاني: (وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ)؛ أي: قدر مسيره في منازل، أو قدره ذا منازل، والضمير راجع إلى القمر، وقيل: إن الضمير راجع إلى كل واحد من الشمس والقمر، والأولى رجوع الضمير إلى القمر وحده، كما في قوله تعالى(وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ)[يس: 39]، إذن فعلم تقدير السنين والحساب يعود إلى القمر، لأن الضمير في (قَدَّرْنَاهُ) يعود على القمر.
ومنها أن التأريخ الهجري أدق وأحكم من الميلادي: وهذا ما قد يندهش له الكثيرون، وتتمعر له وجوه العلمانيين والمفتونين بالحضارة الغربية، لاعتقادهم أن التقويم الميلادي أدق وأصوب من التقويم الهجري، ولكن بنظرة تاريخية فاحصة نجد أن التقويم الميلادي هو تاريخ روماني الأصل، عَدَّلَه بعض الملوك ورهبان النصارى، ونسبوه إلى ميلاد المسيح -عليه السلام- بعد مولده بستة قرون أو ثمانية قرون تقريبًا، والأشهر الميلادية التي يدور عليها فلكُ هذا التاريخ، تحمل في اشتقاقها ومعناها معانيَ وثنيةً ذات ارتباط بآلهة الرومان وعُظمائهم، كما أنه حافل بالأخطاء والتحريفات ولا يكاد ينضبط بسبب تدخلات القياصرة والباباوات في حساب الشهور والسنين ومواعيد الصوم والحج وأعياد الميلاد، وعملية تراكم الخطأ مع مرور السنوات كانت واضحة، ولا يمكن أن تتماشى مع الواقع، وبالفعل ففي 5/10/1582م؛ أي: بعد مرور حوالي 16 قرنًا من بدء التاريخ الميلادي، لوحظ أنه تأخر عن التاريخ الحقيقي بمقدار 10 أيام، الأمر الذي أدى إلى لزوم ضبطه؛ حيث أضيف هذا الفرق ليصبح التاريخ الجديد 15/10/1582م، وهو التاريخ المفترض أن يكون، وتَمَّت هذه الإضافة بأمر من البابا (جريجوري الثالث عشر)، وكان هذا بدايةَ تعديل التَّقويم الميلادي اليوليانيِّ -نسبة إلى يوليوس قيصر- إلى التقويم الجريجوري، حيث جُعِلَت السنة 365 يوما لثلاث سنوات متتالية "سنة بسيطة"؛ بحيث تجمع الكُسور في السنة الرابعة لتصبح 366 يومًا "سنة كبيسة". هذا غير أن التقويم الميلادي زاخر بالإشارات الوثنية لآلهة باطلة وعقائد فاسدة.
أما التقويم القمري تقويم رباني سماوي توقيفي كوني لا دخل ليد البشر في تغييره والعبث به، وليس للفلكيين سلطان على أسماء الشهور العربية القمرية، ولا على عددها أو تسلسها أو أطوالها ،وتم تحديد عدد الشهور السنويَّة في كتاب الله القويم؛ قال تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ)[التوبة: 36].
وفي الوقت الذي عبثت أصابع الفلكيين بتقويم الأمم الأخرى في كل جزئية من جزئياتها، وأسماء شهورها، وأطوالها وهيئاتها وتسلسلها، فإنَّه لا سلطة للفلكيين، أو غيرهم على التقويم القمري؛ بحيث لا يستطيع أحد استبدال اسم شهر بشهر، أو موقع شهر بشهر، أو زيادة يوم فيه، أو نقْص يوم منه؛ فهو تقويم كامل، لا يحتاج إلى تعديل أو تصحيح، وهو رباني من تقدير العزيز العليم. وما قام به مشركو الجاهلية من "النسئ" وهو نقل حرمة شهر لشهر آخر إذا أرادوا القتال فيه، فقد انتهى يوم حجة الوداع، بصريح قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاَثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو القَعْدَةِ، وَذُو الحِجَّةِ، وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ، مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى، وَشَعْبَانَ".
أما الكلام الذي يردده بعض الملاحدة والجهلاء أمثال يوسف زيدان وعدنان إبراهيم وغيرهم من بيادق الغرب في بلاد الإسلام من أن "النسيء" هو شهر عربي ألغاه الرسول والصحابة، فهو كذب فاضح لا يصدر عن عاقل، وإنما أٌريد به التشغيب على تاريخ المسلمين ودينهم وشعائرهم.
ومنها ارتباط التأريخ الهجري بالأحداث الكبرى في حياة الأمة من فتوحات وانتصارات وقيام دول، وأيضا بانكساراتها من هزائم وتراجعات وسقوط دول، وأيضا ارتباط التأريخ الهجري بهوية الأمة وخصوصيتها وبصمتها بين الأمم، والواقع أن الأمة الإسلامية لا تَرتبط بتاريخها أو تقويمها الهجري، إلا في حالات الازدهار والرقي والتقدم، وحينما يتحقق لها واقعيًّا مرتبة الشهود الحضاري على الأمم كما أراد لها القرآن الكريم. لذلك ظل التأريخ الهجري هو الأساس في حياة المسلمين، ولم يتم استبداله إلا بعد دخول الاحتلال الأوروبي إلى بلاد الإسلام حيث جعل التاريخ واللغة قبل الدين غرضاً يصوب عليه سهامه.