البيع بوسائل الاتصال الحديثة في المسجد.
الفريق العلمي
1435/06/14 - 2014/04/14 05:38AM
الشيخ معاذ بن عبدالله بن عبدالعزيز المحيش
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. وبعد.
فظهر في هذا الزمن وسائل حديثة لتسهيل التعاقد بين الطرفين، ومن تلك الوسائل: الفاكس، الشبكة العنكبوتية ( الانترنت ) والهاتف ونحو ذلك، وهذه الوسائل ليست جديدة للتعبير، وإنما هي وسائل لنقل الإيجاب والقبول تختلف عن الوسائل المعروفة زمناً وكيفية، ولذا سيكون الحديث عن هذه المسألة في مطلبين:
المطلب الأول: حكم البيع في المسجد عن طريق الوسائل الكتابية.
• يتم التعاقد عبر وسائل الاتصال الحديثة التي تنقل الإيجاب والقبول مكتوباً، ومن تلك الوسائل ما يلي:
أ. الفاكس: حيث يقوم الموجب بكتابة إيجابه على ورقة، وإرسالها عبر جهاز الفاكس إلى القابل، ثم يخرج جهاز الفاكس عند القابل ورقة الإيجاب، فإذا قرأها القابل وأعلن قبوله فقد تم العقد المالي، وإن جرى العرف على عدم إتمام العقد إلا بعد إشعار الموجب بذلك، فيعتبر ذلك ويكون شرطاً لإتمام العقد المالي.
ب. البرامج الكتابية للحاسب الآلي: مثل برامج المحادثة كالماسنجر أو البريد الإلكتروني، حيث يدخل الموجب على حسابه في البرنامج الكتابي، ثم يكتب إيجابه، ثم يرسله إلى القابل عن طريق الشبكة العنكبوتية ( الانترنت )، ثم يفتح القابل حسابه في ذلك البرنامج الكتابي، فإذا قرأ الإيجاب وأعلن قبوله فقد تم العقد المالي، وإن جرى العرف على عدم إتمام العقد إلا بعد إشعار الموجب بذلك، فيعتبر ذلك شرطاً لإتمام العقد المالي.
ت. العقد الإلكتروني(1): كأن يختار سلعة من أحد المواقع الإلكترونية، ثم بعد الموافقة على ثمنها يتم دفع الثمن(2).
ث. رسائل الجوال: حيث يقوم الموجب بكتابة إيجابه ثم يرسلها إلى جوال القابل، فإذا قرأها القابل وأعلن قبوله فقد تم العقد، إلا إن جرى العرف على إشعار الموجب بذلك كما تقدم.
• حكم إجراء العقد المالي عبر الوسائل الكتابية الحديثة:
لم يتحدث الفقهاء عن حكم إجراء العقود المالية عبر الوسائل الكتابية الحديثة، ولكن تخرج هذه المسألة على حديثهم عن حكم إجراء العقود المالية بالمكاتبة، وقد اختلفوا في ذلك على أقوال:
القول الأول: يصح العقد بالمكتابة والمراسلة مطلقاً، سواء كانا حاضرين أم غائبين، وهو مقتضى مذهب الحنفية(3) ومقتضى مذهب المالكية(4) ووجه عند الشافعية(5) وقول لبعض الحنابلة(6).
القول الثاني: يصح العقد بالكتابة والمراسلة إن كانا غائبين ولا يصح إن كانا حاضرين، وهو مذهب الحنابلة(7) ووجه عند الشافعية(8).
القول الثالث: لا ينعقد مطلقاً، وهو وجه عند الشافعية(9).
أدلة القول الأول:
1. أن الكتاب ممن نأى كالخطاب ممن دنا، فإن الكتاب له حروف ومفهوم يؤدي عن معنى معلوم فهو بمنزلة الخطاب من الحاضر(10).
2. ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مأمورا بتبليغ الرسالة بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) [سورة المائدة:67], وقد بلغ تارة بالكتاب وتارة باللسان فإنه كتب إلى ملوك الآفاق يدعوهم إلى الدين , وكان ذلك تبليغاً تاماً، فإن جاز ذلك في تبليغ الدين، فجوازه في المعاملات المالية من باب أولى.
3. ولأن صحة العقد منوطة بالتراضي، وما جعل اللسان إلا ليبين ما في الجنان، وما الألفاظ إلا وسيلة من وسائل التعبير عما في النفس، فجاز إبرام العقد بكل وسيلة تنبؤ عن رضا الطرفين.
دليل القول الثاني: إنما جاز إجراء العقد بين غائبين للحاجة والضرورة، وتنتفي الحاجة إن كانا حاضرين.
دليل القول الثالث: أن الكتابة كناية، والعقود التي تحتاج إلى قبول كالبيع والإجارة لا تنعقد بالكناية(11).
الراجح: هو القول الأول - وهو جواز التعاقد بالكتابة مطلقاً، سواء كانا حاضرين أو غائبين - لقوة أدلتهم، ولأن الإيجاب والقبول لم يطلب لذاته، بل لكونه وسيلة لمعرفة مراد المتكلم، "فإذا ظهر مراده ووضح بأي طريق كان عمل بمقتضاه، سواء كان بإشارة، أو كتابة، أو بإيماءة ونحو ذلك"(12).
والجواز بقيد بشرط: وهو ألا يكون العقد مما يشترط فيه التقابض في المجلس، كأن يكون صرفاً أو لكونه سلَمَاً أو نحو ذلك؛ لتعذر اجتماعهما قبل انفضاض مجلس العقد.
• حكم إجراء العقد المالي عبر الوسائل الكتابية الحديثة في المسجد:
تقدم أن العقود تنعقد بالمكاتبة والمراسلة، وتنعقد كذلك بكل وسيلة تظهر وتنبئ عن رضا الطرفين للتعاقد، وبناءً على ما تقدم فلإجراء البيع في المسجد عبر هذه الوسائل عدة صور:
الصورة الأولى: أن يتخذ كلا الطرفين أو أحدهما من المسجد محلاً لعقد الصفقات التجارية، فهذا محرم باتفاق الفقهاء.
الصورة الثانية: أن يقع الإيجاب والقبول في المسجد ذاته أو في مسجدين مختلفين، فيمكن تخريجها على مسألة: [إجراء البيع في المسجد من دون إحضار للسلع]، حيث ذهب المالكية إلى جوازها؛ لأنها من باب كتابة الأخ إلى أخيه، وليست من باب البيع، بينما ذهب الشافعية وبعض الحنابلة إلى كراهتها، وذهب الحنفية والحنابلة وبعض المالكية إلى حرمتها؛ والأقرب - والله أعلم - جواز هذه المعاملة ما لم تشغل الآلة بقعة من المسجد؛ لتنزيه المسجد عن إشغاله بحقوق العباد.
الصورة الثالثة: أن يقع الإيجاب في المسجد، والقبول خارج المسجد، أو العكس، فهذه لها ثلاث حالات:
الحالة الأولى: ألا يكون البيع لصالح المسجد، فحكمه حكم البيع في المسجد، حيث ذهب بعض الحنفيةِ والمالكيةِ والشافعيةِ إلى جوازها، بينما ذهب الشافعية وبعض الحنابلة إلى كراهتها، وذهب الحنفية والحنابلة وبعض المالكية إلى حرمتها، والأقرب جوازها؛ لما ذكرته من الأدلة والاعتبارات، بشرط: ألا تشغل الآلة بقعة من المسجد.
الحالة الثانية: أن يكون البيع لصالح المسجد، فقد يقال: بأنه جائز؛ قال المهلب: وفيه أن المسجد قد ينتفع به في أمر جماعة المسلمين لغير الصلاة، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع فيه الصدقات وجعله مخزنا لها، وكذلك أمر أن يوضع فيه مال البحرين وأن يبات عليه حتى قسمه فيه، وكذلك كان يقعد فيه للوفود والحكم بين الناس، ومثل ذلك مما هو أبين منه لعب الحبشة بالحراب، وتعلم المثاقفة، وكل ذلك إذا كان شاملا لجماعة المسلمين، وإذا كان العمل لخاصة الناس فيكره مثل الخياطة والجزارة، وقد كره قوم التأديب في المسجد، لأنه خاص، ورخص فيه آخرون لما يرجى من نفع تعلم القرآن فيه ا.هـ.(13).
وقد يقال: بأنه يأخذ حكم البيع في المسجد كما في الحالة الأولى؛ لأن الطرف الآخر - وهو البائع - يريد أن يتجر، قال محمد بن عثيمين: حتى ولو كان البيع والشراء لصالح المسجد، فإن الظاهر عدم جوازه؛ لأن هذا البائع يريد أن يتجر ا.هـ.(14).
والأقرب في ذلك جواز البيع لصالح المسجد؛ لما ذكره المهلب، والله أعلم.
الحالة الثالثة: أن يكون الموجب معتكفاً، وهو بحاجة إلى إجراء العقد، فهذا جائز كما تقدم في بيع المعتكف وشرائه.
المطلب الثاني: حكم البيع في المسجد عن طريق الوسائل اللفظية.
يتم التعاقد بالوسائل الحديثة التي تنقل لفظ المتعاقدين مباشرة، ومن تلك الوسائل:
أ. الهاتف: بأن يقوم الموجب بالاتصال على القابل، فيجيب القابل على الاتصال، ثم يتفاوضان حول العقد، فإذا أبرما العقد وأنهيا الاتصال باختيارهما فقد تم العقد.
ب. برامج المحادثة الصوتية للحاسب الآلي: مثل برنامج skype، حيث يدخل الموجب على حسابه في برنامج المحادثة الصوتي، ثم يتصل بواسطة البرنامج على القابل، ثم يجيب القابل على الاتصال، ثم يتفاوضان حول العقد، فإذا أبرما العقد وأنهيا الاتصال باختيارهما فقد تم العقد.
• ذكر بعض الباحثين [ التلفاز و المذياع ] من الوسائل اللفظية لإجراء العقد: حيث تقوم الشركة أو المؤسسة بإصدار إيجاب موجه لجمهور الناس، ويحتوي الإيجاب على شروط العقد ومواصفات السلعة والثمن ونحو ذلك، وفي هذه الحالة يبقى الإيجاب قائماً حتى يتقدم شخص ويعلن قبوله، وحينئذ يتم العقد(15).
ولكن الذي يظهر للباحث أن هذا الفعل لا يعدو عن كونه إعلاناً تجارياً لترويج سلعه؛ لأن الراغب فيها سيعرض قبوله على صاحب السلعة، ثم يواجبه صاحب السلعة فيتم العقد، ولا يتم العقد بمجرد إعلان القبول من المشتري.
• حكم إجراء العقد المالي عبر الوسائل اللفظية:
حقيقة التعاقد عبر الوسائل اللفظية: أنه عقد بين حاضرين من جهة الزمان؛ لاجتماعهما في زمان واحد أثناء المكالمة، ويشبه التعاقد بين غائبين من جهة المكان؛ لأن كل واحد منهما بعيد عن صاحبه(16)، وبناءً على ما تقدم: فإنه يجوز إجراء العقد المالي عبر الهاتف؛ لكونه وسيلة للتعبير عن الرضا بنقلها للإيجاب والقبول بين المتعاقدين، قال النووي: لو تناديا وهما متباعدان وتبايعا صح البيع بلا خلاف ا.هـ (17) ويستثنى من ذلك كل عقد من شرطه التقابض في مجلس العقد كالسلم أو الصرف ونحو ذلك.
وجاء في مجمع الفقه الإسلامي:
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع إجراء العقود بآلات الاتصال الحديثة، ونظراً إلى التطور الكبير الذي حصل في وسائل الاتصال وجريان العمل بها في إبرام العقود لسرعة إنجاز المعاملات المالية والتصرفات، وباستحضار ما تعرض له الفقهاء بشأن إبرام العقود بالخطاب وبالكتابة وبالإشارة وبالرسول، وما تقرر من أن التعاقد بين الحاضرين يشترط له اتحاد المجلس - عدا الوصية والإيصاء والوكالة - وتطابق الإيجاب والقبول، وعدم صدور ما يدل على إعراض أحد العاقدين عن التعاقد، والموالاة بين الإيجاب والقبول بحسب العرف.
قرر ما يلي:
أولاً: إذا تم التعاقد بين غائبين لا يجمعهما مكان واحد ولا يرى أحدهما الآخر معاينة، ولا يسمع كلامه وكانت وسيلة الاتصال بينهما الكتابة أو الرسالة أو السفارة (الرسول)، وينطبق ذلك على البرق والتلكس والفاكس وشاشات الحاسب الآلي (الحاسوب)، ففي هذه الحالة ينعقد العقد عند وصول الإيجاب إلى الموجه إليه وقبوله.
ثانياً: إذا تم التعاقد بين طرفين في وقت واحد وهما في مكانين متباعدين، وينطبق هذا على الهاتف واللاسلكي، فإن التعاقد بينهما يعتبر تعاقداً بين حاضرين، وتطبق على هذه الحالة الأحكام الأصلية المقررة لدى الفقهاء المشار إليها في الديباجة.
ثالثاً: إذا أصدر العارض بهذه الوسائل إيجاباً محدد المدة، يكون ملزماً بالبقاء على إيجابه خلال تلك المدة، وليس له الرجوع عنه .
رابعاً : إن القواعد السابقة لا تشمل النكاح لاشتراط الإشهاد فيه، ولا الصرف لاشتراط التقابض، ولا السلم لاشتراط تعجيل رأس المال ا.هـ.(18).
• حكم إجراء العقد المالي عبر الوسائل اللفظية في المسجد:
التفصيل السابق في حكم البيع في المسجد عبر الوسائل الكتابية يجري هنا، إلا أن الصور والحالات الجائزة مقيدة بأمرين:
1. بعدم رفع الصوت أثناء المحادثة في المسجد بحيث يضر بالمصلين والمتعبدين، فإن فُقِدَ هذا القيد صار الفعل محرماً، فإن رفع صوته وحدث لغط في المسجد ولم يزعج المصلين ومن في المسجد فإنه يكون مكروهاً.
2. ألا تشغل الآلة بقعة من المسجد؛ لأن المسجد منزه عن إشغاله بحقوق العباد.
[url][/url]
(1) هو العقد الذي يتم انعقاده بوسيلة الكترونية كلياً أو جزئياً، وتتمثل الوسيلة الإلكترونية في كل وسيلة كهربائية أو مغناطيسية أو ضوئية أو الكترومغناطيسية أو وسيلة أخرى مشابهة صالحة لتبادل المعلومات بين المتعاقدين. انظر: العقد الإلكتروني20.
(2) انظر: الأحكام الفقهية للتعاملات الإلكترونية 128.
(3) لم أجد نصاً صريحاً للحنفية في إجراء المعاملات المالية بالكتابة، ولكنهم ذكروا حكم ذلك في النكاح، فإذا جاز ذلك في النكاح الذي احتاط فيه الشرع أيما احتياط، فجوازه في المعاملات المالية من باب أولى.
ولم يصرح الحنفية بالحكم في التعاقد بالكتابة بين حاضرين، إلا أن قواعد المذهب الحنفي تأبى أن تحصر الأحكام على الألفاظ دون معاني الأقوال والأفعال، فلا يستبعد جوازها عندهم، والله أعلم.
انظر: المبسوط 5/15. بدائع الصنائع 2/370. فتح القدير 3/190، 197. صيغ العقود في الفقه الإسلامي 218.
(4) قال في كفاية الطالب الرباني: الثالث : ما ينعقد به البيع وهو الإيجاب , والقبول , وما شاركهما في الدلالة على الرضا كالمعاطاة اهـ، ولا يخفى أن الكتابة من وسائل التعبير عن الرضا. انظر: حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني 2/139. بلغة السالك لأقرب المسالك 3/14.
(5) انظر: المجموع 9/120. أسنى المطالب 2/4.
(6) انظر: مطالب أولي النهى 3/8. كشاف القناع 3/148.
(7) انظر: مطالب أولي النهى 3/8. كشاف القناع 3/148.
(8) انظر: المجموع 9/120. أسنى المطالب 2/4.
(9) انظر: المجموع 9/120.
(10) انظر: المبسوط 5/15.
(11) انظر: الحاوي للماوردي 13/20.
(12) ما قوس مستفاد من نص كلام ابن القيم في إعلام الموقعين 1/209 .
(13) شرح ابن بطال 3/533.
(14) فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام 2/565.
(15) انظر: صيغ العقود في الفقه الإسلامي 507.
(16) انظر: صيغة العقود في الفقه الإسلامي 511.
(17) المجموع 9/120.
(18) 2/785.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. وبعد.
فظهر في هذا الزمن وسائل حديثة لتسهيل التعاقد بين الطرفين، ومن تلك الوسائل: الفاكس، الشبكة العنكبوتية ( الانترنت ) والهاتف ونحو ذلك، وهذه الوسائل ليست جديدة للتعبير، وإنما هي وسائل لنقل الإيجاب والقبول تختلف عن الوسائل المعروفة زمناً وكيفية، ولذا سيكون الحديث عن هذه المسألة في مطلبين:
المطلب الأول: حكم البيع في المسجد عن طريق الوسائل الكتابية.
• يتم التعاقد عبر وسائل الاتصال الحديثة التي تنقل الإيجاب والقبول مكتوباً، ومن تلك الوسائل ما يلي:
أ. الفاكس: حيث يقوم الموجب بكتابة إيجابه على ورقة، وإرسالها عبر جهاز الفاكس إلى القابل، ثم يخرج جهاز الفاكس عند القابل ورقة الإيجاب، فإذا قرأها القابل وأعلن قبوله فقد تم العقد المالي، وإن جرى العرف على عدم إتمام العقد إلا بعد إشعار الموجب بذلك، فيعتبر ذلك ويكون شرطاً لإتمام العقد المالي.
ب. البرامج الكتابية للحاسب الآلي: مثل برامج المحادثة كالماسنجر أو البريد الإلكتروني، حيث يدخل الموجب على حسابه في البرنامج الكتابي، ثم يكتب إيجابه، ثم يرسله إلى القابل عن طريق الشبكة العنكبوتية ( الانترنت )، ثم يفتح القابل حسابه في ذلك البرنامج الكتابي، فإذا قرأ الإيجاب وأعلن قبوله فقد تم العقد المالي، وإن جرى العرف على عدم إتمام العقد إلا بعد إشعار الموجب بذلك، فيعتبر ذلك شرطاً لإتمام العقد المالي.
ت. العقد الإلكتروني(1): كأن يختار سلعة من أحد المواقع الإلكترونية، ثم بعد الموافقة على ثمنها يتم دفع الثمن(2).
ث. رسائل الجوال: حيث يقوم الموجب بكتابة إيجابه ثم يرسلها إلى جوال القابل، فإذا قرأها القابل وأعلن قبوله فقد تم العقد، إلا إن جرى العرف على إشعار الموجب بذلك كما تقدم.
• حكم إجراء العقد المالي عبر الوسائل الكتابية الحديثة:
لم يتحدث الفقهاء عن حكم إجراء العقود المالية عبر الوسائل الكتابية الحديثة، ولكن تخرج هذه المسألة على حديثهم عن حكم إجراء العقود المالية بالمكاتبة، وقد اختلفوا في ذلك على أقوال:
القول الأول: يصح العقد بالمكتابة والمراسلة مطلقاً، سواء كانا حاضرين أم غائبين، وهو مقتضى مذهب الحنفية(3) ومقتضى مذهب المالكية(4) ووجه عند الشافعية(5) وقول لبعض الحنابلة(6).
القول الثاني: يصح العقد بالكتابة والمراسلة إن كانا غائبين ولا يصح إن كانا حاضرين، وهو مذهب الحنابلة(7) ووجه عند الشافعية(8).
القول الثالث: لا ينعقد مطلقاً، وهو وجه عند الشافعية(9).
أدلة القول الأول:
1. أن الكتاب ممن نأى كالخطاب ممن دنا، فإن الكتاب له حروف ومفهوم يؤدي عن معنى معلوم فهو بمنزلة الخطاب من الحاضر(10).
2. ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مأمورا بتبليغ الرسالة بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) [سورة المائدة:67], وقد بلغ تارة بالكتاب وتارة باللسان فإنه كتب إلى ملوك الآفاق يدعوهم إلى الدين , وكان ذلك تبليغاً تاماً، فإن جاز ذلك في تبليغ الدين، فجوازه في المعاملات المالية من باب أولى.
3. ولأن صحة العقد منوطة بالتراضي، وما جعل اللسان إلا ليبين ما في الجنان، وما الألفاظ إلا وسيلة من وسائل التعبير عما في النفس، فجاز إبرام العقد بكل وسيلة تنبؤ عن رضا الطرفين.
دليل القول الثاني: إنما جاز إجراء العقد بين غائبين للحاجة والضرورة، وتنتفي الحاجة إن كانا حاضرين.
دليل القول الثالث: أن الكتابة كناية، والعقود التي تحتاج إلى قبول كالبيع والإجارة لا تنعقد بالكناية(11).
الراجح: هو القول الأول - وهو جواز التعاقد بالكتابة مطلقاً، سواء كانا حاضرين أو غائبين - لقوة أدلتهم، ولأن الإيجاب والقبول لم يطلب لذاته، بل لكونه وسيلة لمعرفة مراد المتكلم، "فإذا ظهر مراده ووضح بأي طريق كان عمل بمقتضاه، سواء كان بإشارة، أو كتابة، أو بإيماءة ونحو ذلك"(12).
والجواز بقيد بشرط: وهو ألا يكون العقد مما يشترط فيه التقابض في المجلس، كأن يكون صرفاً أو لكونه سلَمَاً أو نحو ذلك؛ لتعذر اجتماعهما قبل انفضاض مجلس العقد.
• حكم إجراء العقد المالي عبر الوسائل الكتابية الحديثة في المسجد:
تقدم أن العقود تنعقد بالمكاتبة والمراسلة، وتنعقد كذلك بكل وسيلة تظهر وتنبئ عن رضا الطرفين للتعاقد، وبناءً على ما تقدم فلإجراء البيع في المسجد عبر هذه الوسائل عدة صور:
الصورة الأولى: أن يتخذ كلا الطرفين أو أحدهما من المسجد محلاً لعقد الصفقات التجارية، فهذا محرم باتفاق الفقهاء.
الصورة الثانية: أن يقع الإيجاب والقبول في المسجد ذاته أو في مسجدين مختلفين، فيمكن تخريجها على مسألة: [إجراء البيع في المسجد من دون إحضار للسلع]، حيث ذهب المالكية إلى جوازها؛ لأنها من باب كتابة الأخ إلى أخيه، وليست من باب البيع، بينما ذهب الشافعية وبعض الحنابلة إلى كراهتها، وذهب الحنفية والحنابلة وبعض المالكية إلى حرمتها؛ والأقرب - والله أعلم - جواز هذه المعاملة ما لم تشغل الآلة بقعة من المسجد؛ لتنزيه المسجد عن إشغاله بحقوق العباد.
الصورة الثالثة: أن يقع الإيجاب في المسجد، والقبول خارج المسجد، أو العكس، فهذه لها ثلاث حالات:
الحالة الأولى: ألا يكون البيع لصالح المسجد، فحكمه حكم البيع في المسجد، حيث ذهب بعض الحنفيةِ والمالكيةِ والشافعيةِ إلى جوازها، بينما ذهب الشافعية وبعض الحنابلة إلى كراهتها، وذهب الحنفية والحنابلة وبعض المالكية إلى حرمتها، والأقرب جوازها؛ لما ذكرته من الأدلة والاعتبارات، بشرط: ألا تشغل الآلة بقعة من المسجد.
الحالة الثانية: أن يكون البيع لصالح المسجد، فقد يقال: بأنه جائز؛ قال المهلب: وفيه أن المسجد قد ينتفع به في أمر جماعة المسلمين لغير الصلاة، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع فيه الصدقات وجعله مخزنا لها، وكذلك أمر أن يوضع فيه مال البحرين وأن يبات عليه حتى قسمه فيه، وكذلك كان يقعد فيه للوفود والحكم بين الناس، ومثل ذلك مما هو أبين منه لعب الحبشة بالحراب، وتعلم المثاقفة، وكل ذلك إذا كان شاملا لجماعة المسلمين، وإذا كان العمل لخاصة الناس فيكره مثل الخياطة والجزارة، وقد كره قوم التأديب في المسجد، لأنه خاص، ورخص فيه آخرون لما يرجى من نفع تعلم القرآن فيه ا.هـ.(13).
وقد يقال: بأنه يأخذ حكم البيع في المسجد كما في الحالة الأولى؛ لأن الطرف الآخر - وهو البائع - يريد أن يتجر، قال محمد بن عثيمين: حتى ولو كان البيع والشراء لصالح المسجد، فإن الظاهر عدم جوازه؛ لأن هذا البائع يريد أن يتجر ا.هـ.(14).
والأقرب في ذلك جواز البيع لصالح المسجد؛ لما ذكره المهلب، والله أعلم.
الحالة الثالثة: أن يكون الموجب معتكفاً، وهو بحاجة إلى إجراء العقد، فهذا جائز كما تقدم في بيع المعتكف وشرائه.
المطلب الثاني: حكم البيع في المسجد عن طريق الوسائل اللفظية.
يتم التعاقد بالوسائل الحديثة التي تنقل لفظ المتعاقدين مباشرة، ومن تلك الوسائل:
أ. الهاتف: بأن يقوم الموجب بالاتصال على القابل، فيجيب القابل على الاتصال، ثم يتفاوضان حول العقد، فإذا أبرما العقد وأنهيا الاتصال باختيارهما فقد تم العقد.
ب. برامج المحادثة الصوتية للحاسب الآلي: مثل برنامج skype، حيث يدخل الموجب على حسابه في برنامج المحادثة الصوتي، ثم يتصل بواسطة البرنامج على القابل، ثم يجيب القابل على الاتصال، ثم يتفاوضان حول العقد، فإذا أبرما العقد وأنهيا الاتصال باختيارهما فقد تم العقد.
• ذكر بعض الباحثين [ التلفاز و المذياع ] من الوسائل اللفظية لإجراء العقد: حيث تقوم الشركة أو المؤسسة بإصدار إيجاب موجه لجمهور الناس، ويحتوي الإيجاب على شروط العقد ومواصفات السلعة والثمن ونحو ذلك، وفي هذه الحالة يبقى الإيجاب قائماً حتى يتقدم شخص ويعلن قبوله، وحينئذ يتم العقد(15).
ولكن الذي يظهر للباحث أن هذا الفعل لا يعدو عن كونه إعلاناً تجارياً لترويج سلعه؛ لأن الراغب فيها سيعرض قبوله على صاحب السلعة، ثم يواجبه صاحب السلعة فيتم العقد، ولا يتم العقد بمجرد إعلان القبول من المشتري.
• حكم إجراء العقد المالي عبر الوسائل اللفظية:
حقيقة التعاقد عبر الوسائل اللفظية: أنه عقد بين حاضرين من جهة الزمان؛ لاجتماعهما في زمان واحد أثناء المكالمة، ويشبه التعاقد بين غائبين من جهة المكان؛ لأن كل واحد منهما بعيد عن صاحبه(16)، وبناءً على ما تقدم: فإنه يجوز إجراء العقد المالي عبر الهاتف؛ لكونه وسيلة للتعبير عن الرضا بنقلها للإيجاب والقبول بين المتعاقدين، قال النووي: لو تناديا وهما متباعدان وتبايعا صح البيع بلا خلاف ا.هـ (17) ويستثنى من ذلك كل عقد من شرطه التقابض في مجلس العقد كالسلم أو الصرف ونحو ذلك.
وجاء في مجمع الفقه الإسلامي:
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع إجراء العقود بآلات الاتصال الحديثة، ونظراً إلى التطور الكبير الذي حصل في وسائل الاتصال وجريان العمل بها في إبرام العقود لسرعة إنجاز المعاملات المالية والتصرفات، وباستحضار ما تعرض له الفقهاء بشأن إبرام العقود بالخطاب وبالكتابة وبالإشارة وبالرسول، وما تقرر من أن التعاقد بين الحاضرين يشترط له اتحاد المجلس - عدا الوصية والإيصاء والوكالة - وتطابق الإيجاب والقبول، وعدم صدور ما يدل على إعراض أحد العاقدين عن التعاقد، والموالاة بين الإيجاب والقبول بحسب العرف.
قرر ما يلي:
أولاً: إذا تم التعاقد بين غائبين لا يجمعهما مكان واحد ولا يرى أحدهما الآخر معاينة، ولا يسمع كلامه وكانت وسيلة الاتصال بينهما الكتابة أو الرسالة أو السفارة (الرسول)، وينطبق ذلك على البرق والتلكس والفاكس وشاشات الحاسب الآلي (الحاسوب)، ففي هذه الحالة ينعقد العقد عند وصول الإيجاب إلى الموجه إليه وقبوله.
ثانياً: إذا تم التعاقد بين طرفين في وقت واحد وهما في مكانين متباعدين، وينطبق هذا على الهاتف واللاسلكي، فإن التعاقد بينهما يعتبر تعاقداً بين حاضرين، وتطبق على هذه الحالة الأحكام الأصلية المقررة لدى الفقهاء المشار إليها في الديباجة.
ثالثاً: إذا أصدر العارض بهذه الوسائل إيجاباً محدد المدة، يكون ملزماً بالبقاء على إيجابه خلال تلك المدة، وليس له الرجوع عنه .
رابعاً : إن القواعد السابقة لا تشمل النكاح لاشتراط الإشهاد فيه، ولا الصرف لاشتراط التقابض، ولا السلم لاشتراط تعجيل رأس المال ا.هـ.(18).
• حكم إجراء العقد المالي عبر الوسائل اللفظية في المسجد:
التفصيل السابق في حكم البيع في المسجد عبر الوسائل الكتابية يجري هنا، إلا أن الصور والحالات الجائزة مقيدة بأمرين:
1. بعدم رفع الصوت أثناء المحادثة في المسجد بحيث يضر بالمصلين والمتعبدين، فإن فُقِدَ هذا القيد صار الفعل محرماً، فإن رفع صوته وحدث لغط في المسجد ولم يزعج المصلين ومن في المسجد فإنه يكون مكروهاً.
2. ألا تشغل الآلة بقعة من المسجد؛ لأن المسجد منزه عن إشغاله بحقوق العباد.
[url][/url]
(1) هو العقد الذي يتم انعقاده بوسيلة الكترونية كلياً أو جزئياً، وتتمثل الوسيلة الإلكترونية في كل وسيلة كهربائية أو مغناطيسية أو ضوئية أو الكترومغناطيسية أو وسيلة أخرى مشابهة صالحة لتبادل المعلومات بين المتعاقدين. انظر: العقد الإلكتروني20.
(2) انظر: الأحكام الفقهية للتعاملات الإلكترونية 128.
(3) لم أجد نصاً صريحاً للحنفية في إجراء المعاملات المالية بالكتابة، ولكنهم ذكروا حكم ذلك في النكاح، فإذا جاز ذلك في النكاح الذي احتاط فيه الشرع أيما احتياط، فجوازه في المعاملات المالية من باب أولى.
ولم يصرح الحنفية بالحكم في التعاقد بالكتابة بين حاضرين، إلا أن قواعد المذهب الحنفي تأبى أن تحصر الأحكام على الألفاظ دون معاني الأقوال والأفعال، فلا يستبعد جوازها عندهم، والله أعلم.
انظر: المبسوط 5/15. بدائع الصنائع 2/370. فتح القدير 3/190، 197. صيغ العقود في الفقه الإسلامي 218.
(4) قال في كفاية الطالب الرباني: الثالث : ما ينعقد به البيع وهو الإيجاب , والقبول , وما شاركهما في الدلالة على الرضا كالمعاطاة اهـ، ولا يخفى أن الكتابة من وسائل التعبير عن الرضا. انظر: حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني 2/139. بلغة السالك لأقرب المسالك 3/14.
(5) انظر: المجموع 9/120. أسنى المطالب 2/4.
(6) انظر: مطالب أولي النهى 3/8. كشاف القناع 3/148.
(7) انظر: مطالب أولي النهى 3/8. كشاف القناع 3/148.
(8) انظر: المجموع 9/120. أسنى المطالب 2/4.
(9) انظر: المجموع 9/120.
(10) انظر: المبسوط 5/15.
(11) انظر: الحاوي للماوردي 13/20.
(12) ما قوس مستفاد من نص كلام ابن القيم في إعلام الموقعين 1/209 .
(13) شرح ابن بطال 3/533.
(14) فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام 2/565.
(15) انظر: صيغ العقود في الفقه الإسلامي 507.
(16) انظر: صيغة العقود في الفقه الإسلامي 511.
(17) المجموع 9/120.
(18) 2/785.