البَيْعُ الحَلالُ الطَيِّبُ وَالبَيْعُ الحَرَامُ الخَبِيثُ ـ2/4/1433ه
فهد موفي الودعاني
1433/03/30 - 2012/02/22 18:47PM
[align=justify]الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَبَاحَ لَنَا مِنَ التَّعَامُلِ كُلَّ مُعَامَلَةٍ مَبْنِيَّةٍ عَلَى الْعَدْلِ وَالصِّدْقِ وَالبَيَانِ , وَحَرَّمَ عَلَيْنَا كُلَّ مُعَامَلَةٍ مَبْنِيَّةٍ عَلَى الظُّلْمِ وَالكَذِبِ وَالْكِتْمَانِ , وَنَظَّمَ لَنَا طُرُقَ التَّعَامُلِ أَحْسَنَ نِظَامٍ , وَأَكْمَلَهُ حَتَّى كَانَ ذَلِكَ النِّظَامُ كَفِيلاً للتَّعَايُشِ بَيْنَ النَّاسِ بِالْمَحَبَّةِ وَالأُلْفَةِ وَالرَّحْمَةِ , وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ , الذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ , وَأَحْكَمَ كُلَّ نِظَامٍ شَرَعَهُ , وَهُوَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ , أَفْضَلُ النَّبِيِّينَ , وَإِمَامُ الْمُتَّقِينَ , وَحُجَّةُ اللهِ عَلَى الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ , الْمَبْعُوثُ رَحْمَةً للْعَالَمِينَ , وَقُدْوَةً لِلْعَامِلِينَ , صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ , وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً .
أَمَّا بَعْدُ : فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ وَاعْلَمُوا , أَنَّ أَرْزَاقَكُمْ مَكْتُوبَةٌ , وَآجَالَكُمْ مَحْدُودَةٌ , فَلا يُغْوِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ فَيُوقِعَكُمْ فِي الْحَرَامِ , أَوْ يُوهِمَكُمْ أَنَّ الأَرْزَاقَ لا تَحْصُلُ إِلَّا بِالْكَذِبِ , وَأَنَّ مَنْ يَتَعَامَلُ بِالصِّدْقِ لا مَكَانَ لَهُ فِي عَالَمِ الْيَوْمَ ! فَهَذَا اعْتِقَادٌ فَاسِدٌ , وَمَسْلَكٌ كَاسِدٌ , بَلْ إِنَّ الصِّدْقَ مَنْجَاةٌ , وَالأَمَانَة َمَفَازَةٌ , وَالْخَيْرُ بِيَدِ اللهِ وَالْبَرَكَةُ مِنَ اللهِ , قَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُقَرِّبُكُمْ إلَى الْجَنَّةِ إِلَّا قَدْ أَمَرْتُكُمْ بِه , وَلَيْسَ شَيْءٌ يٌقَرِّبُكُمْ إِلَى النَّارِ إِلَّا قَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ , إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ (1) نَفَثَ فِي رُوعِي (2) أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا ، أَلا فَاتَّقُوا اللَّهَ ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ , وَلَا يَحْمِلَنَّكُمْ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ تَطْلُبُوهُ بِمَعَاصِي اللهِ , فَإِنَّ اللهَ لا يُدْرَكُ مَا عِنْدَهُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ)[ صَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ فِي السِّلْسِلَةِ برقم 2866]
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : إِنَّ الْبَيْعَ طَرِيقٌ طَيِّبٌ لِلْكَسْبِ , وَمَصْدَرٌ حَسَنٌ للْعَيْشِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ , وَجَاءَتْ الشَّرِيعَةُ بِإِقْرَارِ ذَلِكَ , فعَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ اَلنَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ : أَيُّ اَلْكَسْبِ أَطْيَبُ ? قَالَ (عَمَلُ اَلرَّجُلِ بِيَدِهِ, وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ) رَوَاهُ اَلْبَزَّارُ، وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِمُ وَالأَلْبَانِيُّ
فَمَنْ صَدَقَ فِي بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ فَلْيَبْشِرْ بِالْبَرَكَةِ وَالنَّمَاءِ , وَمَنْ كَذَبَ وَغَشَّ فَلْيَبْشِرْ بِقِلَّةِ الْبَرَكَةِ , وَبِالْخَسَارَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالأُخْرَوِيَّةِ , وَمَنْ تَابَ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ , عَنْ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
فَإِيَّاكَ - أَيُّهَا الْمُسْلِمُ - وَالْكَذِبَ وَالْخِيَانَةَ , وَعَلَيْكَ بِالصِّدْقِ وَالأَمَانَةِ , وَلا تَرْضَ لِلْمُسْلِمِينَ إَلَّا مَا تَرْضَى لِنَفْسِكَ , فعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : إِنَّ الْبُيُوعَ الْمُحَرَّمَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَحَدِ ثَلاثَةِ أُمُورٍ : هِيَ الرِّبَا أَوْ الْغِشِّ أَوْ الظُّلْمِ , وَكُلُّهَا مُحَرَّمَةٌ , بَلْ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ الأَدِلَّةُ , فعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكِلَ الرِّبَا وَمُؤْكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَقَالَ (هُمْ سَوَاءٌ) ... فَهَذَا فِي الرِّبَا , وَأَمَّا الْغِشُّ : فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلا , فَقَالَ (مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ ؟ ) قَالَ : أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ! قَالَ (أَفَلا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي)
وَأَمَّا الظُّلْمُ فَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)
وَهَذِهِ الأَحَادِيثُ الثَّلاثَةُ رَوَاها الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ .
أَيُّهَا الإِخْوَةُ : إِنَّ الْمُعَامَلَاتِ الْمُحَرَّمَةَ فِي الْبَيْعِ تَقَعُ الْيَوْمَ مِنْ كَثِيرٍ مِنَّ النَّاسِ , إِمَّا عَنْ جَهْلٍ أَوْ عَنْ عِلْمٍ لَكِنْ يُصِرُّ عَلَى فِعْلِهِ !
وَسَوْفَ نُورِدُ فِي هَذِهِ الْخُطْبَةِ أَمْثِلَةً يَسِيرَةً نَظَرَاً لِعَدَمِ اتِّسَاعِ الْوَقْتِ لاسْتِيعَابِهَا !
فَمِنْ ذَلِكَ : الْغِشُّ وَلَهُ صُوَرٌ كَثِيرَةٌ , مِنْهَا : أَنْ يَبِيعَ السِّلْعَةَ وَفِيهَا عَيْبٌ يَعْلَمُهُ وَلَكِنَّهُ لا يُخْبِرُ الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ , وَهَذَا غِشٌّ وَخِيَانَةٌ وَتَرْكٌ لِلأَمَانَةِ , وَرُبَّمَا قَالَ عِنْدَ الْبَيْعِ : انْظُرْ السٍّلْعَةَ أَمَامَكَ وَلا تَشْتَرِ إِلَّا وَأَنْتَ مُقْتَنِعٌ ! وَيَحْسَبُ هَذَا الْبَائِعُ الْمِسْكِينُ أَنَّهُ بِهَذَا بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ , وَهَذَا ظَنٌّ خَطَأٌ , فَلا تَبْرَأْ ذِمَّتُهُ حَتَّى يُبِيَّنَ كُلَّ عُيُوبَ السِّلْعَةِ الَّتِي يَعْلَمُهَا !!! فَإِنْ قَالَ : أَنَا اشْتَرَيْتُهَا هَكَذَا وَقَدْ غَشَّنِي مَنْ بَاعَنِي ! فَيُقَالُ : هَلْ غِشُّ البَائِعِ لَكَ يُبِيحُ لَكَ أَنْ تَغِشَّ الْمُشْتَرِي ؟ الْجَوَابُ : كَلَّا ! فَهَذَا لا يَجُوزُ , بَلْ بَيِّنْ أَنْتَ عُيُوبَ السِّلْعَةِ لِلْمُشْتَرِي , وَأَمَّا الذِي غَشَّكَ فَارْفَعْ أَمْرَهُ لِلْجِهَاتِ الْمُخْتَصَّةِ , فَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ فَاصْبِرْ وَلَا تَظْلِمْ غَيْرَكَ لأَنَّهُ ظَلَمَكَ , فَالظُّلْمُ ظُلُمَاتٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ !
وَبَعْضُهُم فِي سُوقِ الْخُضَارَ وَمَا أَشْبَهَهَا يَضَعُونَ الصَّالِحَ وَالطَّيِّبَ فِي الأَعْلَى وَالرَّدِيءَ فِي الأَسْفَلِ , وَيَقُولُونَ : هَذَا (تَوْجِيهُ بِضَاعَةٍ) , وَيَقْصِدُونَ إِنَّ نِظَامَ السُّوقِ أَنْ تُزَيِّنَ وَاجِهَةَ السِّلْعَةِ فِي نَظَرِ الْمُشْتَرِي بِقَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا بِالدَّاخِلِ , وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ غِشٌّ مُبَطَّنٌ , وَهَذَا يُشْبِهُ عَمَلَ الْيَهُودِ الذِينَ اعْتَدَوْا فِي السَّبْتِ !
وَالوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ الصِّدْقُ وَالأَمَانَةُ , وَإِذَا رَأَى أَوْ عَلِمَ مِثْلَ هَذَا أَنْ يَنْصَحَ مَنْ يَفْعَلُهُ , وَأَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِ وَيُخَوٍّفَهُ بِاللهِ , وَلِنَحْذَرَ أَنْ تَحِلَّ عَلَيْنَا اللَّعْنَةَ جَمِيعاً إِذَا رَأَيْنَا الْمُنْكَرَ فَلَمْ نُغَيِّرْهُ , قَالَ اللهُ تَعَالَى (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)
وَمِنَ الْمُعَامَلاتِ الْمُحَرَّمَةِ : أَنْ يَعْرِضَ الْبَائِعُ أُنْمُوذَجَاً لِلزَّبَائِنِ وَيَكُونَ طَيَّباً , ثُمَّ يَشْتَرُونَ مِنْهُ كِمِيَّاتٍ كَثِيرَةً بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا عَلَى نَفْسِ الْهَيْئَةِ , وَلَكِنَّ الْوَاقِعَ خِلافُ ذَلِكَ , فَتَكُونُ أَصْغَرَ أَوْ أَرْدَأَ مِنَ الْعَيِّنَةِ التِي جَلَبَهَا لِيَرَاها الزَّبَائِنُ ! مِثَالُ ذَلِكَ : أَهْلُ الأَعْلافِ يَأْتِي بَعْضُهُمْ بِعِدَّةِ لَبِنَاتٍ مِنْ الْبَرْسِيمِ فِي السُّوقِ وَتَكُونَ جِيَّدَةً وَكَبِيرَةً , ثُمَّ يَبِيعُ الزَّبَائِنَ عَلَى أَنَّهَا بِنَفْسِ الْجَوْدَةِ وَالْهَيْئَةِ , ثُمَّ هُوَ يَذْهَبُ وَيُنْقِصُهَا , أَوْ رُبَّمَا عِنْدَ التَّلْبِينِ يُرْخِي أَسْلَاكَ اللَّبَانَةِ لِتَبْدُوَ أَكَبْرَ مِمَّا هِيَ فِي الْوَاقِعِ , وَهَذَا غِشٌّ وَحَرَامٌ !
اللَّهُمَّ أَرِنَا الْحَقَّ حَقَّاً وَارْزُقْنَا اتِّبَاعَه , وَأَرِنَا الْبَاطِلَ بَاطِلاً وَارْزُقْنَا اجْتِنَابَهُ , وَلا تَجْعَلْهُ مُلْتَبِسَاً عَلَيْنَا فَنَضِلَّ !
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ .
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ الذِي بَيَّنَ الْحَلالَ وَأَبَاحَه , وَوَضَّحَ الْحَرَامَ وَمَنَعَه , وَجَعَلَ الْبَرَكَةَ وَالرِّزْقَ فِي الأَمَانَة , وَالْفَسَادَ وَالشَّرَّ فِي الْخِيَانَة , وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ الذِي دَلَّنَا عَلَى كُلِّ خَيْرٍ وَحَذَّرَنَا مِنْ كُلِّ شَرًّ , صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيراً .
أَمَّا بَعْدُ : فَخَافُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ , وَتَوَقَّوْا الْحَرَامَ , وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بَهْرَجُهُ وَكَثْرَةُ كَسْبِهِ فَإِنَّ مَصِيرَهُ إِلَى الْكَسَادِ وَمَآلُهُ إِلَى الْخَسَارِةِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ !
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : وَمِنْ صُوَرِ الْبُيُوعِ الْمُحَرَّمَةِ , الْبَيْعِ بَعْدَ نِدَاءِ الْجُمْعَةِ الثَّانِي , فَهَذَا حَرَامٌ , لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)
وَمِنْ ذَلِكَ الْبَيْعُ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ , أَوْ الْبَيْعُ عَلَى دَرَجَاتِ بَابِ الْمَسْجِدِ أَوْ تَحْتَ مَظَلَّةِ الْمَسْجِدِ وَهَذَا تَابِعٌ لِلْمَسْجِدِ , فَهَذَا كُلُّهُ حَرَامٌ عَلَى الْبَائِعِ والْمُشْتَرِيِ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال (إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ , أَوْ يَبْتَاعُ فِي اَلْمَسْجِدِ , فَقُولُوا لَا أَرْبَحَ اَللَّهُ تِجَارَتَكَ) رَوَاهُ النَّسَائِيُّ , وَاَلتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ .
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : وَمِنَ الْبُيُوعِ الْمُحَرَّمَةِ بَيْعُ السِّلْعَةِ قَبْلَ مَلْكِهَا , مِثَالُ ذَلِكَ : أَنْ يَأْتِيَ الْمُشْتَرِي إِلَى الْبَائِعِ وَيَقُولُ : أُرِيدُكَ أَنْ تُدَيِّنَنِي [أي :تبيعني بالآجل] سَيَّارَةَ كَذَا وَكَذَا , وَيَتَّفِقُ مَعَهُ عَلَى سِعْرٍ وَأَقْسَاطٍ مَعْرُوفَةٍ ثُمَّ يَذْهَبُ وَيَشْتَرِيهَا لَهُ , وَهَذَا مُحَرَّمٌ لِحَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ قَالَ : قلت يَا رَسُولَ اللَّهِ يَأْتِينِى الرَّجُلُ فَيُرِيدُ مِنِّى الْبَيْعَ [يَعْنِي السِّلْعَةَ] لَيْسَ عِنْدِى أَفَأَبْتَاعُهُ [أَيْ : أَشْتَرِي] لَهُ مِنَ السُّوقِ ؟ فَقَالَ (لاَ تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ
وَهَذَا يَقَعُ فِي مُعَامَلاتِ بَعْضِ الْبُنُوكِ , فَيُعَيِّنُ لَهُمْ الْعَمِيلُ الْبَيْتَ أَوْ السَّيَارَةَ , ثُمَّ يَتَّفِقُونَ مَعَهُ عَلَى التَّفَاصِيلِ , وَيُوَقِّعُونَ الأَوْرَاقَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ , ثُمَّ يَذْهَبُونَ فَيَشْتَرُونَ السِّلْعَةَ , وَهَذَا مُحَرَّمٌ لأَنَّهُمْ بَاعُوا مَالَمْ يَمْلِكُوا !
وَالطَّرِيقَةُ السَّلِيمَةُ فِي ذَلِكَ , أَنْ يُوَاعِدَهُ وَلا يَعْقِدَ مَعَهُ وَلا يَتَّفِقَانِ عَلَى سِعْرٍ وَلا أَقْسَاطٍ حَتَّى يَمْلِكَ الْبَائِعُ السَّيَارَةَ أَوْ الْبَيْتَ مُلْكَاً صَحِيحاً وَيَحُوزَهَا ثُمَّ يَبِيعُهُ !
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : هَذَا مَا تَيَّسَرَ إِيرَادُهُ فِي هَذِهِ الْخُطْبَةِ , وَفِي الْجُمْعَةِ الْمُقْبِلَةِ نَسْتَكْمِلُ هَذَا الْمَوْضُوعَ بِإِذْنِ اللهِ !
اللَّهُمَّ أَرِنًا الْحَقَّ حَقَّاً وَارْزُقْنَا اتِّبَاعَه، وَأَرِنَا البَاطِلَ بَاطِلاً وَارْزُقْنَا اجْتِنَابَه وَلا تَجْعَلْهُ مُلْتَبِساً عَلَيْنَا فَنَضِلّ , اَللَّهُمَّ اِنْفَعْنَا بِمَا عَلَّمْتَنَا , وَعَلِّمْنَا مَا يَنْفَعُنَا , وَارْزُقْنَا عِلْمًا يَنْفَعُنَا , اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ اسْتَمَعَ الْقَوْلَ فَاتَّبَعَ أَحْسَنَه , وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ عَرَفَ الْحَلالَ فَأَتَاه وَعَرَفَ الْحَرَامَ فَاجْتَنَبَه يَا رَبَّ الْعَالَمِين !
اللَّهُمَّ انْصُرْ دِينَكَ وَكِتَابَكَ وَعِبَادَكَ الصَّالِحينَ , اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ مُجْرِي السَّحَاب سَريعَ الْحِسَاب هَازِمَ الأحْزَاب اهْزِمْ كُلَّ عَدُوٍّ لِلْمُسْلِمين , اللَّهُمَّ زَلْزِلْهُم وَفَرِّقْ جَمْعَهُم , اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِمَنْ آذَوْا إِخْوَانَنَا الْمُسْلِمِينَ فِي سُورِيَا , اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِالرَّافِضَةِ وَالنُّصَيْرِيِّينَ وَالبَعْثِيِّينَ يَا قَوِيُّ يَا عَزِيز !
اللَّهُمَّ كُنْ لإخْوَانِنَا الْمُسْتَضْعَفِينَ فِي سُورِيَا عَوْناً وَنَصِيراً , اللَّهُمَّ انْصُرْهُمْ عَلَى عَدُوِّكَ وَعَدُوِّهِم , اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِمَوْتَاهُمْ وَاشْفِ مَرْضَاهُمْ وَسُدَّ جَوْعَاتِهِمْ وَارْحَمْهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْ عِنْدِكَ تُغْنِيهِمْ بِهَا عَمَّنْ سِوَاكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ ! اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وِأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ اللَّهُمَّ ارْضَ عَنْ صَحَابَتِهِ وَعَنِ التَّابِعِينَ وَتَابِعيِهِم إِلَى يَوْمِ الدِّينِ وَعَنَّا مَعَهُم بِعَفْوِكَ وَمَنِّكَ وَكَرَمِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ , وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
(1) القدس : الطهارة : وروح القدس : اسم جبريل عليه السلام أي : الروح المقدسة الطاهرة .
(2) النفث : النفخ بالفم ، والروع : النفس ، أي : ألقي في قلبي، وأوقع في نفسي ، وألهمني[/align]
أَمَّا بَعْدُ : فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ وَاعْلَمُوا , أَنَّ أَرْزَاقَكُمْ مَكْتُوبَةٌ , وَآجَالَكُمْ مَحْدُودَةٌ , فَلا يُغْوِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ فَيُوقِعَكُمْ فِي الْحَرَامِ , أَوْ يُوهِمَكُمْ أَنَّ الأَرْزَاقَ لا تَحْصُلُ إِلَّا بِالْكَذِبِ , وَأَنَّ مَنْ يَتَعَامَلُ بِالصِّدْقِ لا مَكَانَ لَهُ فِي عَالَمِ الْيَوْمَ ! فَهَذَا اعْتِقَادٌ فَاسِدٌ , وَمَسْلَكٌ كَاسِدٌ , بَلْ إِنَّ الصِّدْقَ مَنْجَاةٌ , وَالأَمَانَة َمَفَازَةٌ , وَالْخَيْرُ بِيَدِ اللهِ وَالْبَرَكَةُ مِنَ اللهِ , قَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُقَرِّبُكُمْ إلَى الْجَنَّةِ إِلَّا قَدْ أَمَرْتُكُمْ بِه , وَلَيْسَ شَيْءٌ يٌقَرِّبُكُمْ إِلَى النَّارِ إِلَّا قَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ , إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ (1) نَفَثَ فِي رُوعِي (2) أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا ، أَلا فَاتَّقُوا اللَّهَ ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ , وَلَا يَحْمِلَنَّكُمْ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ تَطْلُبُوهُ بِمَعَاصِي اللهِ , فَإِنَّ اللهَ لا يُدْرَكُ مَا عِنْدَهُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ)[ صَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ فِي السِّلْسِلَةِ برقم 2866]
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : إِنَّ الْبَيْعَ طَرِيقٌ طَيِّبٌ لِلْكَسْبِ , وَمَصْدَرٌ حَسَنٌ للْعَيْشِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ , وَجَاءَتْ الشَّرِيعَةُ بِإِقْرَارِ ذَلِكَ , فعَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ اَلنَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ : أَيُّ اَلْكَسْبِ أَطْيَبُ ? قَالَ (عَمَلُ اَلرَّجُلِ بِيَدِهِ, وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ) رَوَاهُ اَلْبَزَّارُ، وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِمُ وَالأَلْبَانِيُّ
فَمَنْ صَدَقَ فِي بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ فَلْيَبْشِرْ بِالْبَرَكَةِ وَالنَّمَاءِ , وَمَنْ كَذَبَ وَغَشَّ فَلْيَبْشِرْ بِقِلَّةِ الْبَرَكَةِ , وَبِالْخَسَارَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالأُخْرَوِيَّةِ , وَمَنْ تَابَ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ , عَنْ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
فَإِيَّاكَ - أَيُّهَا الْمُسْلِمُ - وَالْكَذِبَ وَالْخِيَانَةَ , وَعَلَيْكَ بِالصِّدْقِ وَالأَمَانَةِ , وَلا تَرْضَ لِلْمُسْلِمِينَ إَلَّا مَا تَرْضَى لِنَفْسِكَ , فعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : إِنَّ الْبُيُوعَ الْمُحَرَّمَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَحَدِ ثَلاثَةِ أُمُورٍ : هِيَ الرِّبَا أَوْ الْغِشِّ أَوْ الظُّلْمِ , وَكُلُّهَا مُحَرَّمَةٌ , بَلْ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ الأَدِلَّةُ , فعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكِلَ الرِّبَا وَمُؤْكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَقَالَ (هُمْ سَوَاءٌ) ... فَهَذَا فِي الرِّبَا , وَأَمَّا الْغِشُّ : فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلا , فَقَالَ (مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ ؟ ) قَالَ : أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ! قَالَ (أَفَلا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي)
وَأَمَّا الظُّلْمُ فَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)
وَهَذِهِ الأَحَادِيثُ الثَّلاثَةُ رَوَاها الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ .
أَيُّهَا الإِخْوَةُ : إِنَّ الْمُعَامَلَاتِ الْمُحَرَّمَةَ فِي الْبَيْعِ تَقَعُ الْيَوْمَ مِنْ كَثِيرٍ مِنَّ النَّاسِ , إِمَّا عَنْ جَهْلٍ أَوْ عَنْ عِلْمٍ لَكِنْ يُصِرُّ عَلَى فِعْلِهِ !
وَسَوْفَ نُورِدُ فِي هَذِهِ الْخُطْبَةِ أَمْثِلَةً يَسِيرَةً نَظَرَاً لِعَدَمِ اتِّسَاعِ الْوَقْتِ لاسْتِيعَابِهَا !
فَمِنْ ذَلِكَ : الْغِشُّ وَلَهُ صُوَرٌ كَثِيرَةٌ , مِنْهَا : أَنْ يَبِيعَ السِّلْعَةَ وَفِيهَا عَيْبٌ يَعْلَمُهُ وَلَكِنَّهُ لا يُخْبِرُ الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ , وَهَذَا غِشٌّ وَخِيَانَةٌ وَتَرْكٌ لِلأَمَانَةِ , وَرُبَّمَا قَالَ عِنْدَ الْبَيْعِ : انْظُرْ السٍّلْعَةَ أَمَامَكَ وَلا تَشْتَرِ إِلَّا وَأَنْتَ مُقْتَنِعٌ ! وَيَحْسَبُ هَذَا الْبَائِعُ الْمِسْكِينُ أَنَّهُ بِهَذَا بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ , وَهَذَا ظَنٌّ خَطَأٌ , فَلا تَبْرَأْ ذِمَّتُهُ حَتَّى يُبِيَّنَ كُلَّ عُيُوبَ السِّلْعَةِ الَّتِي يَعْلَمُهَا !!! فَإِنْ قَالَ : أَنَا اشْتَرَيْتُهَا هَكَذَا وَقَدْ غَشَّنِي مَنْ بَاعَنِي ! فَيُقَالُ : هَلْ غِشُّ البَائِعِ لَكَ يُبِيحُ لَكَ أَنْ تَغِشَّ الْمُشْتَرِي ؟ الْجَوَابُ : كَلَّا ! فَهَذَا لا يَجُوزُ , بَلْ بَيِّنْ أَنْتَ عُيُوبَ السِّلْعَةِ لِلْمُشْتَرِي , وَأَمَّا الذِي غَشَّكَ فَارْفَعْ أَمْرَهُ لِلْجِهَاتِ الْمُخْتَصَّةِ , فَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ فَاصْبِرْ وَلَا تَظْلِمْ غَيْرَكَ لأَنَّهُ ظَلَمَكَ , فَالظُّلْمُ ظُلُمَاتٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ !
وَبَعْضُهُم فِي سُوقِ الْخُضَارَ وَمَا أَشْبَهَهَا يَضَعُونَ الصَّالِحَ وَالطَّيِّبَ فِي الأَعْلَى وَالرَّدِيءَ فِي الأَسْفَلِ , وَيَقُولُونَ : هَذَا (تَوْجِيهُ بِضَاعَةٍ) , وَيَقْصِدُونَ إِنَّ نِظَامَ السُّوقِ أَنْ تُزَيِّنَ وَاجِهَةَ السِّلْعَةِ فِي نَظَرِ الْمُشْتَرِي بِقَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا بِالدَّاخِلِ , وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ غِشٌّ مُبَطَّنٌ , وَهَذَا يُشْبِهُ عَمَلَ الْيَهُودِ الذِينَ اعْتَدَوْا فِي السَّبْتِ !
وَالوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ الصِّدْقُ وَالأَمَانَةُ , وَإِذَا رَأَى أَوْ عَلِمَ مِثْلَ هَذَا أَنْ يَنْصَحَ مَنْ يَفْعَلُهُ , وَأَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِ وَيُخَوٍّفَهُ بِاللهِ , وَلِنَحْذَرَ أَنْ تَحِلَّ عَلَيْنَا اللَّعْنَةَ جَمِيعاً إِذَا رَأَيْنَا الْمُنْكَرَ فَلَمْ نُغَيِّرْهُ , قَالَ اللهُ تَعَالَى (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)
وَمِنَ الْمُعَامَلاتِ الْمُحَرَّمَةِ : أَنْ يَعْرِضَ الْبَائِعُ أُنْمُوذَجَاً لِلزَّبَائِنِ وَيَكُونَ طَيَّباً , ثُمَّ يَشْتَرُونَ مِنْهُ كِمِيَّاتٍ كَثِيرَةً بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا عَلَى نَفْسِ الْهَيْئَةِ , وَلَكِنَّ الْوَاقِعَ خِلافُ ذَلِكَ , فَتَكُونُ أَصْغَرَ أَوْ أَرْدَأَ مِنَ الْعَيِّنَةِ التِي جَلَبَهَا لِيَرَاها الزَّبَائِنُ ! مِثَالُ ذَلِكَ : أَهْلُ الأَعْلافِ يَأْتِي بَعْضُهُمْ بِعِدَّةِ لَبِنَاتٍ مِنْ الْبَرْسِيمِ فِي السُّوقِ وَتَكُونَ جِيَّدَةً وَكَبِيرَةً , ثُمَّ يَبِيعُ الزَّبَائِنَ عَلَى أَنَّهَا بِنَفْسِ الْجَوْدَةِ وَالْهَيْئَةِ , ثُمَّ هُوَ يَذْهَبُ وَيُنْقِصُهَا , أَوْ رُبَّمَا عِنْدَ التَّلْبِينِ يُرْخِي أَسْلَاكَ اللَّبَانَةِ لِتَبْدُوَ أَكَبْرَ مِمَّا هِيَ فِي الْوَاقِعِ , وَهَذَا غِشٌّ وَحَرَامٌ !
اللَّهُمَّ أَرِنَا الْحَقَّ حَقَّاً وَارْزُقْنَا اتِّبَاعَه , وَأَرِنَا الْبَاطِلَ بَاطِلاً وَارْزُقْنَا اجْتِنَابَهُ , وَلا تَجْعَلْهُ مُلْتَبِسَاً عَلَيْنَا فَنَضِلَّ !
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ .
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ الذِي بَيَّنَ الْحَلالَ وَأَبَاحَه , وَوَضَّحَ الْحَرَامَ وَمَنَعَه , وَجَعَلَ الْبَرَكَةَ وَالرِّزْقَ فِي الأَمَانَة , وَالْفَسَادَ وَالشَّرَّ فِي الْخِيَانَة , وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ الذِي دَلَّنَا عَلَى كُلِّ خَيْرٍ وَحَذَّرَنَا مِنْ كُلِّ شَرًّ , صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيراً .
أَمَّا بَعْدُ : فَخَافُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ , وَتَوَقَّوْا الْحَرَامَ , وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بَهْرَجُهُ وَكَثْرَةُ كَسْبِهِ فَإِنَّ مَصِيرَهُ إِلَى الْكَسَادِ وَمَآلُهُ إِلَى الْخَسَارِةِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ !
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : وَمِنْ صُوَرِ الْبُيُوعِ الْمُحَرَّمَةِ , الْبَيْعِ بَعْدَ نِدَاءِ الْجُمْعَةِ الثَّانِي , فَهَذَا حَرَامٌ , لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)
وَمِنْ ذَلِكَ الْبَيْعُ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ , أَوْ الْبَيْعُ عَلَى دَرَجَاتِ بَابِ الْمَسْجِدِ أَوْ تَحْتَ مَظَلَّةِ الْمَسْجِدِ وَهَذَا تَابِعٌ لِلْمَسْجِدِ , فَهَذَا كُلُّهُ حَرَامٌ عَلَى الْبَائِعِ والْمُشْتَرِيِ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال (إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ , أَوْ يَبْتَاعُ فِي اَلْمَسْجِدِ , فَقُولُوا لَا أَرْبَحَ اَللَّهُ تِجَارَتَكَ) رَوَاهُ النَّسَائِيُّ , وَاَلتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ .
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : وَمِنَ الْبُيُوعِ الْمُحَرَّمَةِ بَيْعُ السِّلْعَةِ قَبْلَ مَلْكِهَا , مِثَالُ ذَلِكَ : أَنْ يَأْتِيَ الْمُشْتَرِي إِلَى الْبَائِعِ وَيَقُولُ : أُرِيدُكَ أَنْ تُدَيِّنَنِي [أي :تبيعني بالآجل] سَيَّارَةَ كَذَا وَكَذَا , وَيَتَّفِقُ مَعَهُ عَلَى سِعْرٍ وَأَقْسَاطٍ مَعْرُوفَةٍ ثُمَّ يَذْهَبُ وَيَشْتَرِيهَا لَهُ , وَهَذَا مُحَرَّمٌ لِحَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ قَالَ : قلت يَا رَسُولَ اللَّهِ يَأْتِينِى الرَّجُلُ فَيُرِيدُ مِنِّى الْبَيْعَ [يَعْنِي السِّلْعَةَ] لَيْسَ عِنْدِى أَفَأَبْتَاعُهُ [أَيْ : أَشْتَرِي] لَهُ مِنَ السُّوقِ ؟ فَقَالَ (لاَ تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ
وَهَذَا يَقَعُ فِي مُعَامَلاتِ بَعْضِ الْبُنُوكِ , فَيُعَيِّنُ لَهُمْ الْعَمِيلُ الْبَيْتَ أَوْ السَّيَارَةَ , ثُمَّ يَتَّفِقُونَ مَعَهُ عَلَى التَّفَاصِيلِ , وَيُوَقِّعُونَ الأَوْرَاقَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ , ثُمَّ يَذْهَبُونَ فَيَشْتَرُونَ السِّلْعَةَ , وَهَذَا مُحَرَّمٌ لأَنَّهُمْ بَاعُوا مَالَمْ يَمْلِكُوا !
وَالطَّرِيقَةُ السَّلِيمَةُ فِي ذَلِكَ , أَنْ يُوَاعِدَهُ وَلا يَعْقِدَ مَعَهُ وَلا يَتَّفِقَانِ عَلَى سِعْرٍ وَلا أَقْسَاطٍ حَتَّى يَمْلِكَ الْبَائِعُ السَّيَارَةَ أَوْ الْبَيْتَ مُلْكَاً صَحِيحاً وَيَحُوزَهَا ثُمَّ يَبِيعُهُ !
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : هَذَا مَا تَيَّسَرَ إِيرَادُهُ فِي هَذِهِ الْخُطْبَةِ , وَفِي الْجُمْعَةِ الْمُقْبِلَةِ نَسْتَكْمِلُ هَذَا الْمَوْضُوعَ بِإِذْنِ اللهِ !
اللَّهُمَّ أَرِنًا الْحَقَّ حَقَّاً وَارْزُقْنَا اتِّبَاعَه، وَأَرِنَا البَاطِلَ بَاطِلاً وَارْزُقْنَا اجْتِنَابَه وَلا تَجْعَلْهُ مُلْتَبِساً عَلَيْنَا فَنَضِلّ , اَللَّهُمَّ اِنْفَعْنَا بِمَا عَلَّمْتَنَا , وَعَلِّمْنَا مَا يَنْفَعُنَا , وَارْزُقْنَا عِلْمًا يَنْفَعُنَا , اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ اسْتَمَعَ الْقَوْلَ فَاتَّبَعَ أَحْسَنَه , وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ عَرَفَ الْحَلالَ فَأَتَاه وَعَرَفَ الْحَرَامَ فَاجْتَنَبَه يَا رَبَّ الْعَالَمِين !
اللَّهُمَّ انْصُرْ دِينَكَ وَكِتَابَكَ وَعِبَادَكَ الصَّالِحينَ , اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ مُجْرِي السَّحَاب سَريعَ الْحِسَاب هَازِمَ الأحْزَاب اهْزِمْ كُلَّ عَدُوٍّ لِلْمُسْلِمين , اللَّهُمَّ زَلْزِلْهُم وَفَرِّقْ جَمْعَهُم , اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِمَنْ آذَوْا إِخْوَانَنَا الْمُسْلِمِينَ فِي سُورِيَا , اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِالرَّافِضَةِ وَالنُّصَيْرِيِّينَ وَالبَعْثِيِّينَ يَا قَوِيُّ يَا عَزِيز !
اللَّهُمَّ كُنْ لإخْوَانِنَا الْمُسْتَضْعَفِينَ فِي سُورِيَا عَوْناً وَنَصِيراً , اللَّهُمَّ انْصُرْهُمْ عَلَى عَدُوِّكَ وَعَدُوِّهِم , اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِمَوْتَاهُمْ وَاشْفِ مَرْضَاهُمْ وَسُدَّ جَوْعَاتِهِمْ وَارْحَمْهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْ عِنْدِكَ تُغْنِيهِمْ بِهَا عَمَّنْ سِوَاكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ ! اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وِأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ اللَّهُمَّ ارْضَ عَنْ صَحَابَتِهِ وَعَنِ التَّابِعِينَ وَتَابِعيِهِم إِلَى يَوْمِ الدِّينِ وَعَنَّا مَعَهُم بِعَفْوِكَ وَمَنِّكَ وَكَرَمِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ , وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
(1) القدس : الطهارة : وروح القدس : اسم جبريل عليه السلام أي : الروح المقدسة الطاهرة .
(2) النفث : النفخ بالفم ، والروع : النفس ، أي : ألقي في قلبي، وأوقع في نفسي ، وألهمني[/align]
المرفقات
البَيْعُ الحَلالُ الطَيِّبُ وَالبَيْعُ الحَرَامُ الخَبِيثُ.doc
البَيْعُ الحَلالُ الطَيِّبُ وَالبَيْعُ الحَرَامُ الخَبِيثُ.doc
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا ونفع بك
تعديل التعليق