البلد الأمين.
عاصم بن محمد الغامدي
1437/11/16 - 2016/08/19 04:40AM
[align=justify]البلد الأمين.
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي سيَّرَ بقُدرتِه الفُلْكَ والفَلَك، ودبَّر بصَنْعَتِه النورَ والحَلَك، تعالى عن وزير، وتنزَّه عن نظير، قَبِل من خلقه اليسير، وأعطى من رزقه الكثير، أحمده وهو بالحمد جدير، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وأصلي على محمد رسوله البشير النذير، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم النفير، أما بعد عباد الله:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، فاتقوه رحمكم الله، واحذروا الغفلة، فالعاقل من يرى العِبَر بعينيه، ويسمع المواعظَ بأُذنيه، فالزموا الجد والاجتهاد، وتزودوا، والتقوى خير زاد، {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد}.
أيها المسلمون:
من حكمة الله تعالى تفضيلُ بعضِ مخلوقاته على بعضٍ، فالأنبياء كلهم خِيار، وأولو العزم أفضلُهم وأخيرهم، وأفضلُ أولي العزم محمدٌ صلى الله عليه وسلم وإبراهيمُ عليه السلام، والملائكةُ كلهم كرام وجبريل عليه السلام أكرمهم.
وهذا التفضيل جارٍ على الزمان والمكان، فرمضان خير الشهور، والأشهر الحرمُ معظمة، وليلةُ القدر خيرٌ من ألف شهر، وعشرُ ذي الحجةِ أفضلُ أيامِ السنةِ، وصلاةٌ في المسجدِ الأقصى تعدلُ خمسَمئة صلاةٍ، وفي المسجدِ النبويِ تعدلُ ألفَ صلاةٍ، وفي المسجدِ الحرامِ تعدل مئةَ ألفِ صلاة.
ومما عظَّمه الله تعالى، وأكد النبي صلى الله عليه وسلم مكانته، وتواترت الأنباء والأخبار عن خيار هذه الأمةِ بتعظيمه، بلدُ الله الأمين، مكةُ المكرمة.
عن عبدالله بن عدي رضي الله عنه قال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفًا على الحَزْوَرَةِ –وهي موضعٌ قريبٌ من الكعبة- يقول: "والله إنك لخيرُ أرضِ الله، وأحبُّ أرض اللهِ إلى الله، ولولا أني أخرجتُ منكِ ما خرجتُ". [أخرجه أحمد والترمذي وصححه الألباني].
عباد الله:
شعورُ الشوق جرَّبه كلُّ قلب، وأحسَّت به كل نفس، وشوقُ الصالحين إلى بلد الله الأمين، طعمهُ مختلف، وأخباره وشواهده كثيرة.
كان أبو بكر رضي الله عنه يطوف بالبيت وهو يقول:
(يا حبَّذا مكةُ من وادي *** أرضٌ بها أهلي وعوَّادي).
وكانت عائشة رضي الله عنها تقول: (لولا الهجرةُ لسكنتُ مكةَ، إني لم أرَ السماءَ بمكان أقربَ إلى الأرض منها بمكة، ولم أر القمرَ بمكان قطُّ أحسنَ منه بمكة). [الأربعون المكية 31].
وقال ابن عباس رضي الله عنهما لبعض أصحابه: (أدمن الاختلاف إلى هذا البيت، فإنك إن أدمنت الاختلاف إلى هذا البيت لقيت الله عز وجل وأنت خفيفُ الظهر).
ولهذا حج عطاء ابن أبي رباحٍ سبعين مرة، وقصد الأسود بن يزيد النخعي مكة بين حاج ومعتمر أكثر من ثمانين مرة، وذكر بعضُ المؤرخين أن سفيان بن عيينة رحمه الله استلقى على المشعر الحرام ليلة مزدلفة فقال يخاطب صاحبًا له: قد وافيت هذا الموضع سبعين مرة، أقول في كل سنة: اللهم لا تجعله آخر العهد من هذا المكان، وإني قد استحييت من الله من كثرة ما أسأله ذلك، فرجع فتوفي من سنته رحمه الله.
أيها المسلمون:
ذلك الشوق الصادق مليء بالتعظيم والإجلال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة فتح مكة: "إن هذا بلدٌ حرَّمه الله يوم خلق السماوات والأرض، وهو حرام بحرمةِ الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحلَّ القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحلَّ لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يُعْضَدُ شَوْكُه، ولا يُنَفَّرُ صيدُه، ولا يَلتَقِطُ لقطتَه إلا من عرَّفها، ولا يختلى خلاها". [أخرجه البخاري ومسلم].
وكان عمر -رضي الله عنه- ينادي في أهل مكة ويحذرهم مغَبَّة الإلحاد في بلد الله الحرام، فيقول: (اتقوا الله في حرم الله، أتدرون من كان يسكن هذا البيت؟ كان به بنو فلان فأحلُّوا حرمته فأُهلكوا، وكان به بنو فلان فأحلُّوا حرمته فأُهلكوا، حتى ذكر ما شاء الله من قبائل العرب أن يذكر، ثم قال: لأنْ أعمل عشر خطايا في غيرِه أحبُّ إلي من أن أعمل ها هنا خطيئة واحدة". [رواه ابن أبي شيبة في المصنف].
وقال رضي الله عنه: (لو وجدتُّ فيه – أي في الحرم - قاتلَ الخطاب ما بَدَهْتُه)، أي: ما زجرته، وكان حمَام الحرم يغشى رحل ابن عمرَ وطعامه وثيابه فلا يطرده.
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في قوله عز وجل: ﴿ومن يرد فيه بإلحادٍ بظلم﴾: (لو أنّ رجلاً هَمَّ فيه بإلحاد وهو بِعَدَنَ أَبْيَنَ؛ لأذاقه الله عز وجل عذابًا أليمًا).
يا أهل مكة:
هل تعلمون أن البيت هدم مرتين؟ وأنه سيرفع في الثالثة؟
قال صلى الله عليه وسلم: "استمتعوا بهذا البيت فقد هدم مرتين، ويرفع في الثالثة". [أخرجه ابن خزيمة وابن حبان].
وتعظيم هذا البيت دليل على الخير، قال صلى الله عليه وسلم: "لا تزال هذه الأمةُ بخيرٍ ما عظَّموا هذه الحرمةَ حقَّ تعظيمها، فإذا تركوها وضيعوها هلكوا". [أخرجه أحمد وابن ماجه وحسنه ابن حجر].
ما حالكم مع العبادات التي لا تؤدى إلا بمكة؟
روى البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عام حجة الوداع يزور البيت كل ليلة من ليالي منى للطواف حوله.
واقتدى به الصحابة رضي الله عنهم، حتى ذُكر أن عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما، كان كثير الطواف، ولما غمر المسجد الحرام سيل عظيم، طاف رضي الله عنه سباحة، ولم يجرؤ أحد من الناس يومها على ذلك سواه. [سير أعلام النبلاء 3/370].
وكان عبدالله بن عمر رضي الله عنهما يزاحم عند الركنين فسئل عن ذلك فقال: إنْ أفعل، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن مسحهما كفارة للخطايا"، وسمعته يقول: "من طاف بهذا البيت أسبوعًا فأحصاه كان كعتق رقبة", وسمعته يقول: "لا يضع قدمًا ولا يرفع أخرى إلا حط الله عنه خطيئة، وكتبت له بها حسنة". [أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن، وصححه الألباني].
يا أهل مكة:
جرت عادة الناس على إتحاف أهلهم بنفائس البلدان التي يزورونها، وعندكم تحفة ليست لأحد من البلدان، فعن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تحمل من ماء زمزم، وتُخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحمله. [أخرجه الترمذي وصححه الألباني].
وكان ابن عباس رضي الله عنهما إذا نزل به ضيف أتحفه من ماء زمزم.
وخير البشر صلى الله عليه وسلم يقول: "خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم، فيه طعام من الطعم، وشفاء من السقم". [رواه الطبراني وصححه الألباني].
عباد الله:
هذه مكة، تعظيمها حق على المؤمنين، وحبها مستقر في قلوب الصالحين، فيها بيت الله الأول، ومنها انبثق نور الرسالة المحمدية، وهي قبلة المسلمين، لا يدخلها الدجال، وما من نبي إلا دخلها، فاستشعروا نعمة الله عليكم بسكناها، وتزودوا من فضلها وعطاها.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله أحقِّ من شُكِر، وأولى من حُمِد، وأكرمِ مَنْ تفضَّل وأرحمِ من قُصِد، وصلى الله وسلم على نبيه محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد عباد الله:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، فهي وصيته للأولين والآخرين، وبها تكون النجاة في يوم الدين، {ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله}.
عباد الله:
لما ارتفع بناء البيت، ووصل إلى موضع الحجر الأسود، قال إبراهيم الخليل لابنه إسماعيل عليهما السلام: "أبغني حجرًا أضعه ها هنا يكون للناس علمًا يبتدئون منه الطواف" فذهب إسماعيل يطلب حجرًا، ولما رجع وجد جبريل عليه السلام قد نزل بالحجر الأسود من الجنة. [أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي].
وسيأتي هذا الحجر يوم القيامة شاهدًا لمن استلمه بحق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليأتين هذا الحجر يوم القيامة وله عينان يبصر بهما، ولسان ينطق به، يشهد على من يستلمه بحق". [أخرجه أحمد و الترمذي وصححه الألباني].
أيها المسلمون:
هل تعلمون أن ذلك الحجر كان أشدَّ بياضًا من اللبن؟
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الحجر الأسود من الجنة، وهو أشد بياضًا من اللبن، فسوّدته خطايا بني آدم". [أخرجه أحمد و الترمذي وصححه الألباني].
فاحذروا يا عباد الله من الذنوب، فإنها أكثر تسلطًا على القلوب، ألا ترون كيف أثرت على الحجر الصلد؟ فتأثيرها على القلب اللين أكبر وأشد.
ثم اعلموا أن ثمرةَ الاستماع الاتباع، وثمرة العلم العمل، فكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واستشعروا مراقبة السميع البصير، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وتقربوا إلى ربكم بعبادته، وأكثروا في هذه الأيام من طاعته، وصلُّوا وسلِّموا على خير الورى طُرًّا، فمن صلَّى عليه صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا.
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة، أصحاب السنة المُتَّبَعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الآلِ والصحابة أجمعين، والتابعين لهم وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وجُودك يا أرحم الراحمين.
اللهم وفقنا لتعظيم شعائرك، واجعلنا ممن خافك واتقاك واتبع رضاك.
اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين المصلحين، واغفر لنا خطايانا في يوم الدين.
اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنّا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، واجعل بلدنا هذا آمنًا مطمئنًا، سخاءً رخاءً، وسائر بلاد المسلمين.
اللهم أبرم لأمتنا أمر رشد يعز فيه أولياؤك، ويذل فيه أعداؤك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
اللهم كن لإخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم كن لجنودنا المرابطين على الحدود مؤيدًا ونصيرًا، ومعاونًا وظهيرًا، اللهم ثبت أقدامهم، وسدد سهامهم، وصوب رأيهم ورميهم، واجمع على الحق كلمتهم، واجعل الدائرة على عدوك وعدوهم.
اللهم كن لإخواننا المستضعفين في كل مكان، اللهم ارحم ضعفهم، واجبر كسرهم، وتولَّ جميع أمرهم، اللهم ارحم موتاهم، واشف مرضاهم، وداو جرحاهم، وفك أسراهم، وأمن روعاتهم، واستر عوراتهم يا أرحم الراحمين.
اللهم عليك بكفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن دينك، ويحاربون أولياءك، اللهم عليك بهم وبمن عاونهم على المسلمين، يا قوي يا عزيز.[/align]
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي سيَّرَ بقُدرتِه الفُلْكَ والفَلَك، ودبَّر بصَنْعَتِه النورَ والحَلَك، تعالى عن وزير، وتنزَّه عن نظير، قَبِل من خلقه اليسير، وأعطى من رزقه الكثير، أحمده وهو بالحمد جدير، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وأصلي على محمد رسوله البشير النذير، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم النفير، أما بعد عباد الله:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، فاتقوه رحمكم الله، واحذروا الغفلة، فالعاقل من يرى العِبَر بعينيه، ويسمع المواعظَ بأُذنيه، فالزموا الجد والاجتهاد، وتزودوا، والتقوى خير زاد، {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد}.
أيها المسلمون:
من حكمة الله تعالى تفضيلُ بعضِ مخلوقاته على بعضٍ، فالأنبياء كلهم خِيار، وأولو العزم أفضلُهم وأخيرهم، وأفضلُ أولي العزم محمدٌ صلى الله عليه وسلم وإبراهيمُ عليه السلام، والملائكةُ كلهم كرام وجبريل عليه السلام أكرمهم.
وهذا التفضيل جارٍ على الزمان والمكان، فرمضان خير الشهور، والأشهر الحرمُ معظمة، وليلةُ القدر خيرٌ من ألف شهر، وعشرُ ذي الحجةِ أفضلُ أيامِ السنةِ، وصلاةٌ في المسجدِ الأقصى تعدلُ خمسَمئة صلاةٍ، وفي المسجدِ النبويِ تعدلُ ألفَ صلاةٍ، وفي المسجدِ الحرامِ تعدل مئةَ ألفِ صلاة.
ومما عظَّمه الله تعالى، وأكد النبي صلى الله عليه وسلم مكانته، وتواترت الأنباء والأخبار عن خيار هذه الأمةِ بتعظيمه، بلدُ الله الأمين، مكةُ المكرمة.
عن عبدالله بن عدي رضي الله عنه قال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفًا على الحَزْوَرَةِ –وهي موضعٌ قريبٌ من الكعبة- يقول: "والله إنك لخيرُ أرضِ الله، وأحبُّ أرض اللهِ إلى الله، ولولا أني أخرجتُ منكِ ما خرجتُ". [أخرجه أحمد والترمذي وصححه الألباني].
عباد الله:
شعورُ الشوق جرَّبه كلُّ قلب، وأحسَّت به كل نفس، وشوقُ الصالحين إلى بلد الله الأمين، طعمهُ مختلف، وأخباره وشواهده كثيرة.
كان أبو بكر رضي الله عنه يطوف بالبيت وهو يقول:
(يا حبَّذا مكةُ من وادي *** أرضٌ بها أهلي وعوَّادي).
وكانت عائشة رضي الله عنها تقول: (لولا الهجرةُ لسكنتُ مكةَ، إني لم أرَ السماءَ بمكان أقربَ إلى الأرض منها بمكة، ولم أر القمرَ بمكان قطُّ أحسنَ منه بمكة). [الأربعون المكية 31].
وقال ابن عباس رضي الله عنهما لبعض أصحابه: (أدمن الاختلاف إلى هذا البيت، فإنك إن أدمنت الاختلاف إلى هذا البيت لقيت الله عز وجل وأنت خفيفُ الظهر).
ولهذا حج عطاء ابن أبي رباحٍ سبعين مرة، وقصد الأسود بن يزيد النخعي مكة بين حاج ومعتمر أكثر من ثمانين مرة، وذكر بعضُ المؤرخين أن سفيان بن عيينة رحمه الله استلقى على المشعر الحرام ليلة مزدلفة فقال يخاطب صاحبًا له: قد وافيت هذا الموضع سبعين مرة، أقول في كل سنة: اللهم لا تجعله آخر العهد من هذا المكان، وإني قد استحييت من الله من كثرة ما أسأله ذلك، فرجع فتوفي من سنته رحمه الله.
أيها المسلمون:
ذلك الشوق الصادق مليء بالتعظيم والإجلال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة فتح مكة: "إن هذا بلدٌ حرَّمه الله يوم خلق السماوات والأرض، وهو حرام بحرمةِ الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحلَّ القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحلَّ لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يُعْضَدُ شَوْكُه، ولا يُنَفَّرُ صيدُه، ولا يَلتَقِطُ لقطتَه إلا من عرَّفها، ولا يختلى خلاها". [أخرجه البخاري ومسلم].
وكان عمر -رضي الله عنه- ينادي في أهل مكة ويحذرهم مغَبَّة الإلحاد في بلد الله الحرام، فيقول: (اتقوا الله في حرم الله، أتدرون من كان يسكن هذا البيت؟ كان به بنو فلان فأحلُّوا حرمته فأُهلكوا، وكان به بنو فلان فأحلُّوا حرمته فأُهلكوا، حتى ذكر ما شاء الله من قبائل العرب أن يذكر، ثم قال: لأنْ أعمل عشر خطايا في غيرِه أحبُّ إلي من أن أعمل ها هنا خطيئة واحدة". [رواه ابن أبي شيبة في المصنف].
وقال رضي الله عنه: (لو وجدتُّ فيه – أي في الحرم - قاتلَ الخطاب ما بَدَهْتُه)، أي: ما زجرته، وكان حمَام الحرم يغشى رحل ابن عمرَ وطعامه وثيابه فلا يطرده.
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في قوله عز وجل: ﴿ومن يرد فيه بإلحادٍ بظلم﴾: (لو أنّ رجلاً هَمَّ فيه بإلحاد وهو بِعَدَنَ أَبْيَنَ؛ لأذاقه الله عز وجل عذابًا أليمًا).
يا أهل مكة:
هل تعلمون أن البيت هدم مرتين؟ وأنه سيرفع في الثالثة؟
قال صلى الله عليه وسلم: "استمتعوا بهذا البيت فقد هدم مرتين، ويرفع في الثالثة". [أخرجه ابن خزيمة وابن حبان].
وتعظيم هذا البيت دليل على الخير، قال صلى الله عليه وسلم: "لا تزال هذه الأمةُ بخيرٍ ما عظَّموا هذه الحرمةَ حقَّ تعظيمها، فإذا تركوها وضيعوها هلكوا". [أخرجه أحمد وابن ماجه وحسنه ابن حجر].
ما حالكم مع العبادات التي لا تؤدى إلا بمكة؟
روى البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عام حجة الوداع يزور البيت كل ليلة من ليالي منى للطواف حوله.
واقتدى به الصحابة رضي الله عنهم، حتى ذُكر أن عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما، كان كثير الطواف، ولما غمر المسجد الحرام سيل عظيم، طاف رضي الله عنه سباحة، ولم يجرؤ أحد من الناس يومها على ذلك سواه. [سير أعلام النبلاء 3/370].
وكان عبدالله بن عمر رضي الله عنهما يزاحم عند الركنين فسئل عن ذلك فقال: إنْ أفعل، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن مسحهما كفارة للخطايا"، وسمعته يقول: "من طاف بهذا البيت أسبوعًا فأحصاه كان كعتق رقبة", وسمعته يقول: "لا يضع قدمًا ولا يرفع أخرى إلا حط الله عنه خطيئة، وكتبت له بها حسنة". [أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن، وصححه الألباني].
يا أهل مكة:
جرت عادة الناس على إتحاف أهلهم بنفائس البلدان التي يزورونها، وعندكم تحفة ليست لأحد من البلدان، فعن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تحمل من ماء زمزم، وتُخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحمله. [أخرجه الترمذي وصححه الألباني].
وكان ابن عباس رضي الله عنهما إذا نزل به ضيف أتحفه من ماء زمزم.
وخير البشر صلى الله عليه وسلم يقول: "خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم، فيه طعام من الطعم، وشفاء من السقم". [رواه الطبراني وصححه الألباني].
عباد الله:
هذه مكة، تعظيمها حق على المؤمنين، وحبها مستقر في قلوب الصالحين، فيها بيت الله الأول، ومنها انبثق نور الرسالة المحمدية، وهي قبلة المسلمين، لا يدخلها الدجال، وما من نبي إلا دخلها، فاستشعروا نعمة الله عليكم بسكناها، وتزودوا من فضلها وعطاها.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله أحقِّ من شُكِر، وأولى من حُمِد، وأكرمِ مَنْ تفضَّل وأرحمِ من قُصِد، وصلى الله وسلم على نبيه محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد عباد الله:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، فهي وصيته للأولين والآخرين، وبها تكون النجاة في يوم الدين، {ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله}.
عباد الله:
لما ارتفع بناء البيت، ووصل إلى موضع الحجر الأسود، قال إبراهيم الخليل لابنه إسماعيل عليهما السلام: "أبغني حجرًا أضعه ها هنا يكون للناس علمًا يبتدئون منه الطواف" فذهب إسماعيل يطلب حجرًا، ولما رجع وجد جبريل عليه السلام قد نزل بالحجر الأسود من الجنة. [أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي].
وسيأتي هذا الحجر يوم القيامة شاهدًا لمن استلمه بحق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليأتين هذا الحجر يوم القيامة وله عينان يبصر بهما، ولسان ينطق به، يشهد على من يستلمه بحق". [أخرجه أحمد و الترمذي وصححه الألباني].
أيها المسلمون:
هل تعلمون أن ذلك الحجر كان أشدَّ بياضًا من اللبن؟
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الحجر الأسود من الجنة، وهو أشد بياضًا من اللبن، فسوّدته خطايا بني آدم". [أخرجه أحمد و الترمذي وصححه الألباني].
فاحذروا يا عباد الله من الذنوب، فإنها أكثر تسلطًا على القلوب، ألا ترون كيف أثرت على الحجر الصلد؟ فتأثيرها على القلب اللين أكبر وأشد.
ثم اعلموا أن ثمرةَ الاستماع الاتباع، وثمرة العلم العمل، فكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واستشعروا مراقبة السميع البصير، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وتقربوا إلى ربكم بعبادته، وأكثروا في هذه الأيام من طاعته، وصلُّوا وسلِّموا على خير الورى طُرًّا، فمن صلَّى عليه صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا.
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة، أصحاب السنة المُتَّبَعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الآلِ والصحابة أجمعين، والتابعين لهم وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وجُودك يا أرحم الراحمين.
اللهم وفقنا لتعظيم شعائرك، واجعلنا ممن خافك واتقاك واتبع رضاك.
اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين المصلحين، واغفر لنا خطايانا في يوم الدين.
اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنّا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، واجعل بلدنا هذا آمنًا مطمئنًا، سخاءً رخاءً، وسائر بلاد المسلمين.
اللهم أبرم لأمتنا أمر رشد يعز فيه أولياؤك، ويذل فيه أعداؤك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
اللهم كن لإخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم كن لجنودنا المرابطين على الحدود مؤيدًا ونصيرًا، ومعاونًا وظهيرًا، اللهم ثبت أقدامهم، وسدد سهامهم، وصوب رأيهم ورميهم، واجمع على الحق كلمتهم، واجعل الدائرة على عدوك وعدوهم.
اللهم كن لإخواننا المستضعفين في كل مكان، اللهم ارحم ضعفهم، واجبر كسرهم، وتولَّ جميع أمرهم، اللهم ارحم موتاهم، واشف مرضاهم، وداو جرحاهم، وفك أسراهم، وأمن روعاتهم، واستر عوراتهم يا أرحم الراحمين.
اللهم عليك بكفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن دينك، ويحاربون أولياءك، اللهم عليك بهم وبمن عاونهم على المسلمين، يا قوي يا عزيز.[/align]
المرفقات
1131.doc