البركة: ما يجلبها وما يمحقها

د. محمود بن أحمد الدوسري
1441/05/25 - 2020/01/20 13:41PM
                                                                البَرَكة: ما يجلبُها وما يمحَقُها
                                                                د. محمود بن أحمد الدوسري
     الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على رسوله الكريم, وعلى آله وصحبه أجمعين, وبعد؛ البَرَكة: هي ثبوتُ الخير ودوامه, أو كثرةُ الخير وزيادته, أو هما معاً[1]. وجاء في حديث الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم: «وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ» رواه البخاري ومسلم. أي: أثْبِتْ له, وأَدِمْ ما أعطيتَه من التشريف والكرامة. قال ابن القيم - رحمه الله: (فهذا الدعاء يتضَمَّنُ إعطاءَه من الخير ما أعطاه لآل إبراهيم, وإدامتَه له, وثبوتَه له, ومُضاعفتَه وزيادتَه, هذا حقيقة البَرَكة)[2].
     ويشهد له أيضاً: قصة جُوَيْرِيَةِ بِنْتِ الْحَارِثِ بْنِ الْمُصْطَلِقِ - رضي الله عنها - حين أعتَقَ الصحابةُ سباياهم من غزوة بني المُصْطَلِق, لَمَّا تزوَّجها النبيُّ صلى الله عليه وسلم - فقالت عائشةُ رضي الله عنها: «فَمَا رَأَيْنَا امْرَأَةً كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً عَلَى قَوْمِهَا مِنْهَا؛ أُعْتِقَ فِي سَبَبِهَا مِائَةُ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ» حسن - رواه أبو داود. عباد الله .. ومن أهم الأمور التي تَجْلُبُ البركة[3]:
       1- الصِّدق في المعاملة: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا؛ فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا, وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا» رواه البخاري ومسلم.  بالصدق يكثر نفع المَبِيع, وبالكذب تُمحق بركةُ البيع, فيُعامَل التاجرُ بنقيض ما يقصده من الزيادة والنماء.
       2- كثرة الاستغفار: وهو موجب للبركة, ويُحقق النماء والرخاء؛ لذا قال نوح  - عليه السلام - لقومه: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10-12], فهذا من بركات كثرة الاستغفار.
       3- صِلة الأرحام, وحُسن الخُلق: وهما من أعظم أسباب البركة في العمر, والسعة في الرزق؛ لقولِ النبي صلى الله عليه وسلم: «صِلَةُ الرَّحِمِ, وَحُسْنُ الْخُلُقِ, وَحُسْنُ الْجِوَارِ: يَعْمُرَانِ الدِّيَارَ, وَيَزِيدَانِ فِي الأَعْمَارِ» صحيح - رواه أحمد في "المسند". وقولِه عليه الصلاة والسلام: «صِلَةُ الْقَرَابَةِ: مَثْرَاةٌ في المَال, مَحَبَّةٌ فِي الأَهْلِ, مَنْسَأَةٌ فِي الأَجَلِ» صحيح - رواه الطبراني في "الأوسط".
       4- التَّبْكير في مزاولة الأعمال: مَنْ أراد البركةَ والنجاحَ والتوفيقَ في عمله وَرِزقه؛ فعليه بالتبكير والمُبادرة في مزاولة سائر الأعمال؛ كطلب العلم, والتجارة, والصناعة, والزراعة, رجاءً لبركة البكور, واغتناماً للوقت الثمين, وعملاً بوصية النبي صلى الله عليه وسلم القائل: «بُورِكَ لأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا» صحيح - رواه الطبراني في "الأوسط". ودعا لأُمَّته فقال: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا» صحيح - رواه أبو داود والترمذي.
       وقد أثبتت الدراساتُ الحديثة أنَّ هناك غازاً خاصًّا تكون نسبته عالياً في وقت الفجر, وتقِلُّ تدريجيًّا حتى تَضْمَحِلَّ عند طلوع الشمس, ودلَّت التجارب العِلمية أنَّ لهذا الغاز تأثيراتِ رائعةً على الجهاز العصبي, والمشاعرِ النفسية العميقة, والنشاطِ العقلي والفِكري.
       5- إكثار حَمْدِ الله تعالى وشُكرِه: قال الله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]. فهذا وعد مُنجز من الله تعالى للشاكرين, فحَمْدُ الله تعالى وشكرُه يُحقق البركةَ, والزيادةَ العددية والمعنوية والحسية فيه؛ لأن الله تعالى وَعَدَ الشاكرين بأحسن الجزاء, وجعله سبباً للمزيد من فضله.
       6- الالتزام بآداب الطعام لنيل بركته:  ومن ذلك: الاجتماع على الطعام؛ فعن وَحْشِيِّ بْنٍ حَرْبٍ - رضي الله عنه؛ أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا نَأْكُلُ وَلاَ نَشْبَعُ. قَالَ: «فَلَعَلَّكُمْ تَفْتَرِقُونَ». قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: «فَاجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ, وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ» حسن - رواه أبو داود. ولقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «طَعَامُ الْوَاحِدِ يَكْفِي الاِثْنَيْنِ, وَطَعَامُ الاِثْنَيْنِ يَكْفِي الأَرْبَعَةَ, وَطَعَامُ الأَرْبَعَةِ يَكْفِي الثَّمَانِيَةَ» رواه مسلم.
     قال ابن حجر -  رحمه الله: (فيؤخذ منه أنَّ الكفاية تنشأ عن بركة الاجتماع, وأنَّ الجَمْعَ كُلَّما كَثُرَ ازدادت البركة)[4].
     ومن ذلك: التسمية على الطعام؛ لِحِرمان الشيطان منه. ومنه: الأكل من جوانب الإناء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْبَرَكَةَ تَنْزِلُ وَسَطَ الطَّعَامِ, فَكُلُوا مِنْ حَافَتَيْهِ, وَلاَ تَأْكُلُوا مِنْ وَسَطِهِ» صحيح - رواه الترمذي. ومن البركة لَعْقُ الأصابع بعد الأكل, ولَعْقُ إناء الطعام, وأكْلُ اللُّقمةِ الساقطة, وقد علَّل ذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله: «فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْرُونَ فِي أَيِّ طَعَامِكُمُ الْبَرَكَةُ» رواه مسلم. 
       7- الوفاء بالمِكيال والميزان: وفي ذلك بركةٌ عظيمة؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «كِيلُوا طَعَامَكُمْ؛ يُبَارَكْ لَكُمْ» رواه البخاري.   
       8- سخاء النفس في طلب المال: لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرٌ حُلْوٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ» رواه البخاري.
       عباد الله .. إنَّ سخاءَ النفس, وزُهدَها في اقتناء المال, وقناعةَ صاحبِها بِمَا يتيسَّر؛ يؤدِّي إلى حصول البركة في المال, كما أنَّ طلب المال عن طريق تطلُّع النفس, وإلحاح صاحبها وحرصه؛ يمنع البركةَ عنه, فلا ينتفع به صاحبه, ولو كان المالُ كثيراً.
                                                                            الخطبة الثانية
    الحمد لله ... أيها المسلمون .. هناك أمور تُذهِب البركةَ, وتَمحق بركة الرزق, ومن أهمها[5]:
      1- الذنوب والمعاصي: وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُحذِّر أصحابَه - رضي الله عنهم - من شؤم الذنوب والمعاصي, بقوله: «يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ! خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ - وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ - لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلاَّ فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلاَفِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا. وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلاَّ أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَؤُنَةِ, وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ. وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلاَّ مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ, وَلَوْلاَ الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا. وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ. وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلاَّ جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ» صحيح - رواه ابن ماجه. 
       2- التعامل بالربا: قال الله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276]. قال ابن كثير - رحمه الله: (يُخْبِرُ اللهُ تعالى أنه يمحق الربا، أي: يُذْهِبُه؛ إمَّا بأنْ يُذهبه بالكُلِّية من يد صاحبه، أو يَحْرمَه بركةَ مالِه فلا ينتفع به، بل يُعذِّبُه به في الدنيا, ويُعاقِبُه عليه يوم القيامة)[6].
       3- عدمُ الوفاءِ بالمكيال والميزان: قال الله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين: 1-3]. توعَّد اللهُ تعالى الذين يبخسون الناس في المكيال الميزان بمحق البركة, والإخسار والهلاك؛ فكيف بالذي يأخذ أموالهم قهرًا, أو سرقة؟! فهو أَولى بهذا الوعيد من المُطفِّفين[7]. وفي الحديث السابق: «وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلاَّ أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَؤُنَةِ, وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ» صحيح - رواه ابن ماجه.
       4- المال الحرام: وله صور مُختلفة, منها: السرقة, والغصب, والغلول, والرشوة, وأكل مال اليتيم, والبيوع المُحرَّمة, وهو نِقمة على صاحبه في الدنيا والآخرة, وتُنزع منه البركةُ والنماء, يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ[8] إِلاَّ كَانَتِ النَّارُ أَوْلَى بِهِ» صحيح - رواه الترمذي.
       5- ترك فريضة الزكاة: تُمحَقُّ البركةُ من قلوب أصحاب المال الذين لا يؤدون زكاةَ أموالهم, ويحل محلها حبُّ المال وعِبادتُه, فتصبح قلوبُهم قاسيةً متعلقة بالمال, يُغرَسُ فيها الشُّح والبُخل, وأصحابُها مُتَوَعَّدون بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة, يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلاَ فِضَّةٍ لاَ يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا؛ إِلاَّ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ, فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ, فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ, كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ, حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ فَيُرَى سَبِيلُهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ, وَإِمَّا إِلَى النَّارِ» رواه مسلم.
       6- التَّرَف والإسراف والتبذير: الترفُ من بَطَرِ النِّعمة, وهو التَّنعُّم والإسراف في ملذاتِ الدنيا, وشهواتِها المباحة بدون منفعةٍ مُعْتَبرة شرعاً, فعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا بَعَثَ بِهِ إِلَى الْيَمَنِ - قَالَ: «إِيَّاكَ وَالتَّنَعُّمَ؛ فَإِنَّ عِبَادَ اللَّهِ لَيْسُوا بِالْمُتَنَعِّمِينَ» صحيح - رواه أحمد في "المسند". عباد الله .. ولا يقتصر التَّبذيرُ والإسرافُ على المال؛ بل يمتد إلى كافَّة الأرزاق؛ ومنها الوقت, العلم, والجُهد, والموارِد البَشَرية والطبيعية.
       7- شُرب الخَمْر والمُسكرات: الخمر وما في حُكْمِها من الكبائر؛ لأنها مدعاة إلى الشرورِ والمعاصي, والفسادِ والهلاك, والدَّمارِ والضَّياع؛ فعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه - قال: أَوْصَانِي خَلِيلِي صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَشْرَبِ الْخَمْرَ؛ فَإِنَّهَا مِفْتَاحُ كُلِّ شَرٍّ» صحيح - رواه ابن ماجه. 
       والخَمْر من عمل الشيطان, وتَصُدُّ عن الصلاة, وتُوقِعُ العداوةَ بين الناس, وهي اعتداءٌ على أعظمِ نِعمةٍ مَنَحها اللهُ لعباده, ألا وهي نِعمةُ العقل, والعقلُ إذا فَتَر, أو اخْتَلَّ, أو غابَ؛ يفعل صاحِبُه أيَّ شيءٍ, فيه ضررٌ جسيم.
[1] انظر: النهاية, لابن الأثير, (1/20)؛ المعجم الوسيط, (ص 52)؛ شرح النووي على مسلم, (13/206)؛ التبرك أنواعه وأحكامه, د. ناصر الجديع (ص 37, 38).
[2] جلاء الأفهام, (ص 308).
[3] انظر: البركة: أسبابها, مكانتها, (ص 288).
[4] فتح الباري, 9/535).
[5] انظر: البركة: أسبابها, مكانتها, (ص 301).
 [6] تفسير ابن كثير, (2/490).
[7] انظر: تفسير ابن كثير, (8/346)؛ تفسير السعدي, (ص 905).
[8] سُحْتٍ: أي: حرام.
المرفقات

ما-يجلبها-وما-يمحقها

ما-يجلبها-وما-يمحقها

المشاهدات 984 | التعليقات 0