البحــر جندي من جنودِ الله
أحمد عبدالله صالح
خطبــة جمعــة بعنــوان
البحــر جنديٌ مـن جنــود الله
أمّـــا بعــد أيهـا الأحباب الكــرام :
اليوم نحن على موعدٍ بإذن الله جل وعلا مع مخلوقٍ عجيب من مخلوقاتِ الله سبحانه وتعالى ..!
مخلوقٌ عظيمٌ جليل ..! خلقه الله جل وعلا عبرةً لمن يعتبر وعظةً لمن يتعظ !!
هذا المخلوقُ العجيب وجدناه مع بعضٍ من أنبياءِ الله حامياً وحافظاً وقراراً وسكناً وأمنا..
ووجدناه مع أنبياء آخرين هـلاكاً لأقوامهم ونكالاً وعذاباً ..
هذا المخلوقُ العجيب يملأُ ثلاثةَ أرباع سطح الأرض ولولا أنّ الله جل وعلا يُمسكُهُ بقدرته ومشيئته لطفحَ على الأرض فأغرقها ودمرها وجعل عاليها سافلها..
إنّهُ البحر بأمواجه العظيمة ..
البحر بأمواجه المتلاطمة مترامية الأطراف ..
البحر بأتساعه الهـائل ..
البحرُ آيةٌ من آياتِ اللهِ الدالة على عظمته وجبروته .
ففي الجنّةِ رحمته وفي النّارِ سطوته وعذابه وفي البحرِ عظمته.
البحر يا عباد الله :
خلقٌ من خلقِ الله يعبدُ الله، يوحدُ الله، يسبحُ لله،
ومن عجائبه أنّهُ يرى ابن آدمَ يعصي الله تعالى مع حلمهِ تعالى عليه فيتألم لذلك ..
ولولا أنّ الله منعهُ إغراقهم لأغرقهم يخبرنا بهذا نبينا صلى الله عليه وسلم كما في مسند الأمام أحمد من حديث عمر قال النبي صلى الله عليه وسلم :
" ليس من ليلةٍ إلاّ والبحرُ يُشرف فيها ثلاث مرات يستأذنُ الله أن يطفح على العصاةِ من بني أدم فيكفُهُ الله ".
فسبحان الله !!.
البحرُ يغضب عندما تُنتهك محارمُ الله .!
وكم من بشرٍ لا يُحرِّكون ساكناً ..!
كم من أُناسٍ لا يهتزون وهم يرون الفواحش تنتشر والمنكرات تسري ولا ينكرون منكراً ولا يأمرون معروفاً.
فالبحر يا كرام جنديٌ من جنودِ الله يُهلكُ اللهُ به من يشاء من أعدائه ويُنجي به من يشاء من عبادة المؤمنون.
فنجدهُ جندياً من جنودِ الله بارزاً مع نبي الله يونس عليه السلام الذي كان هو وقومه في بقعةٍ قريبةٍ من البحر وقد ضاق صدراً بتكذيب قومه فأنذرهم بعذابٍ قريب وغادرهم مُغضباً آبقاً فقاده الغضب إلى شاطئ البحر حيث ركبَ سفينةً مشحونةً وفي وسط الأمواج والرياح ..!
وكانت هذه علامة عند القوم بأنّ من بين الركاب راكباً مغضوباً عليه لأنه ارتكب خطيئة وأنه لا بد أن يلقى في الماء لتنجو السفينة من الغرق فاقترعوا على من يلقونه من السفينة.
فخرج سهم يونس وكان معروفاً بصلاحه ولكن سهمه خرج بشكل أكيد فألقوه في البحر وقيل هو ألقى بنفسه إليه، فأرسل الله له حوتاً فابتلعه وأمره أن لا يكسر له عظماً ولا يخدش له لحماً وطاف به البحار وغاص به إلى الأعماق وبقي في بطن الحوت أياماً يسمع الحيتان وتسبيحها، ولولا أنه استغفر الله وسبحه لبقي في بطنِ الحوت في قعرِ البحر إلى يوم القيامة قال سبحانه :
( وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَــانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ • فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ) الانبياء87 / 88
لقد سمع الله دعاءه واستجاب له ونجاه من الغم. فلفظه الحوت وخرج من بطنه سقيماً عارياً على الشاطئ محفوظاً بحفظ الله جل وعلا ..
كما نجد هذا المخلوق العجيب والجندي بارزاً مع نبي الله نوح عليه السلام حين كذبه قومه ..
وحينها جاء الامر من الله الذي لا مرد له بإهلاكهم
فأمر نبيه نوحاً عليه السلام أن يصنع سفينة فصنعها ..
ولما بدأ الطوفان أمره الله بالركوب فيها مع من آمن معه ..
فعمّ الطوفان الدنيا حتى بلغ قمم الجبال العالية، فنجاه الله تعالى ومن معه من المؤمنين، وأغرق من كفر بالله رب العالمين قال تعالى :
﴿ فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ ﴾ [الأعراف: 64].
وقال تعالى :
﴿ فَأَخَذَهُمْ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 14].
وهكذا فإن عاقبة الظلم وخيمة في الدنيا قبل الآخرة.
ولا إله إلا الله، ما أهون الخلق على الله تعالى إذا عصوه سبحانه ..
وما اسرعهم لطلب نجدته وعونه ومدده حينما يقعون في الشدائد والمصائب والملمّات ..
( وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ ) لقمان (32)
قال رجل لأحد الصالحين أخبرني عن الله؟
فقال : ألم تركب البحر ؟! قال : بلى؟
قال : هل حدث لك مرة أن حلّت بكم عاصفة؟
قال : نعم ..
قال: وانقطعت الحيل عن الملاّحين ووسائل النجاة قال : نعم ..
قال : فهل خطر ببالك وظهر في نفسك أنّ هناك من يستطيع أن ينجيك إن شاء ؟
قال ؛ نعم .
قال : فذاك هو الله لا إله إلا هو وسع كل شيء علماً.
جنديٌ عجيب
﴿ قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ﴾ [الكهف: 109].
ما أعظم الله جل وعلا .!
فلو أنّ جميع ما في الأرض من شجرٍ تحوّلت أقلام وجميع ما في الأرض من بحارٍ تحولت إلى مداد وهذا البحر يمده من بعده سبعة أبحر وجلس الكُتّاب يكتبون ويسجلون كلمات الله المتجددة الدالة على عظمته وعلى علمه وقدرته ورحمته والدالة على مشيئته....
فإنّ الأقلام ستنفد والمداد سينفد ..
( الأشجار والبحار والأقلام ستنتهي وتنفذ..)
وكلمات الله باقية لا تنفد ولا تنتهي ..
لأن علم الله لا يحد .! ولأن إرادته لا تكفِ ..!
ولأن مشيئته سبحانه ماضية ليس لها حدود
ولا قيود.
تتوارى الأشجار والبحار وتنزوي الأحياء والأشياء وتتوارى الأشكال والأحوال ويقف القلب البشري خاشعا أمام جلال الخالق الباقي الذي لا يتحول ولا يتبدل ولا يغيب.
﴿ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [لقمان: 27].
بارك الله لي ولكم بالقـران العظيم ونفعني وإياكم بما فيه مـن الآيـات والـذكـر الحكيم واستغفروا الله لـي ولكم مـن كل ذنـب ويا فوز المستغفـرين ..
الخطبة الثانية :
امابعد احبتي الكــرام :
البحر الجندي والمخلوق العجيب كما وجدناه مع نبي الله نوح ونبي الله يونس عليهما السلام نجدهُ كذلك جندياً من جنود الله بارزاً في قصةِ موسى علية السلام عندما خافت علية أمه من بطش فرعون، فأوحى الله إليها وحي الهام :
﴿ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 7]
سبحان الله..
يا أم موسى أرضعيه فإذا خفت عليه وهو في حضنك وهو في رعايتك ..!
إذا خفت عليه وفي فمّه ثديُك وهو تحت عينيك فالقيه في اليم.
الله أكبر..
طفلٌ في الأشهرِ الأولى من حياته يُلقى في اليم في تابوتٍ صغير لا من يحميه ولا من يرعاه.
لكنّ الله بعنايته وحفظة يحرسُهُ ويرعاه.
ولا تخافي ولا تحزني إنّه هنا في اليم، في البحر العظيم بأمواجه في رعايةِ الله!
إنّه مع اليدُ التي لا خوف معها ...!
اليدُ التي تجعلُ النارَ برداً وسلاماً ..!
وتجعل البحر ملجأً وملاذاً ..!
اليدُ التي لا يجرؤ فرعونُ الطاغية ولا طغاةُ الأرض جميعاً أن يدنو من حِماها الآمن العزيز .
وإذا العنايةُ لاحظتكَ عيونها
فنم فالمخاوفُ كلهّنّ أمانُ
إنّ القدرة التي ترعاه تُدبرُ أمره وتَكيدُ به لفرعون وآله ..! فتجعلهم يلتقطونه ..! وتجعلهم يحبونه ..
بل وتجعلهم يبحثون له كذلك عن مرضعة..!
فيأبى أن يلتقمَ ثدياً او يرضعَ من كل المرضعات اللاتي تم استقدامهنّ من كل مكان ..!
حتى تبصره أختُهُ من بعيدٍ فتعرفه فتقول :
هل أدلكم على أهلِ بيتٍ يكفلونه لكم وهم له ناصحون ؟
ثمّ يعودُ الطفلُ الغائب إلى أمه الملهوفة معافى في بدنه ، مرموقاً في مكانته ، يحميه فرعون وترعاه امرأته :
﴿ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ﴾ [القصص: 13].
واستمرت المعركة بين موسى ولي الله وفرعون عدو الله ..استمرت المعركة بين الحق والباطل إلى حين خروج موسى ومعهُ بني إسرائيِل فتبعهُ فرعون وجنوده فإذا البحر من أمامِ موسى وقومه
وفرعون وجنوده من خلفهم.
دلائلُ الحال كلها تُشير بأن لا مفر لهم فالبحر أمامهم والعدو خلفهم، فإذا بنو إسرائيل يقولون :
« يا موسى إنا لمدركون » ..
ضعفت ثقتهم بالله ونسوا أنّ الله هو الحافظ والمعين ..!
لكنّ موسى لا يشك لحظة واحدة وملءُ قلبه الثقةُ بربه، واليقينُ بعونه والتأكد من النجاة ..!
فقال موسى بلسان الواثق بنصرِ الله :
﴿ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الشعراء: 62].
كلا لن نكون مدرَكين ..
كلا لن نكون ضائعين ..
كلا إنّ معي ربي سيهدين.
فجاء الفرج وأُزيلَ الكرب، هكذا مهما زاد الظلم ومهما بلغ الطغيان.
فأوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر ..!
بعصا يُضربُ البحر العظيم !!
بعصا يُضربُ المخلوق العجيب !!
نعم
بعصا وقعت المعجزة فالعصا سبب والله هو ربُّ الأسباب، فانفلق البحر فكان كلُ فِرق كالطودِ العظيم.
وقعت المعجزة، ووقف الماء على جانبِ الطريق كالطودِ العظيم، ووقف فرعون مع جنوده مشدوها بذلك المشهد الخارق وذلك الحدثَ العجيب .!!
وأطال فرعونُ الوقوف وهو يرى موسى وقومه يعبرون البحر في طريقٍ مكشوف وصار البحر المُغرِقُ لهم أماناً وسلاماً ويبسا ودخلوه بأهلهم وعتادهم لا تبتل لهم قدماً حتى خرجوا من الشاطئ الأخر وتم تدبير الله .!
فركب الغرور والكبرُ والعنجهية فرعون كما هي حاله واخذ يقترب هو وجنوده من مصيرهم المحتوم وتمادوا ودخلوا أجمعين ودخل آخر جندي من جنود فرعون وخرج آخِرُ رجل من قومِ موسى ..
فأمر الله البحر أن يغرق فرعون وجنوده :
﴿ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ﴾ [الشعراء: 65].
أسألُ الله لي ولكم حياةً سعيده واعواماً في طاعةِ الله مديده وسنوناً من القربِ من الله عديده ..
(( إنَّ اللّهَ وملائِكتَه يُصلونَ على النَّبي يا أيَّها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً ))....