الاهتمام بالشأن العام للأمة (عمر بن الخطاب رضي الله عنه أُنْمُوذجًا )

الشيخ السيد مراد سلامة
1441/03/24 - 2019/11/21 18:40PM

Smiley face

 

الاهتمام بالشأن العام للأمة (عمر بن الخطاب رضي الله عنه أُنْمُوذجًا )
الشيخ السيد مراد سلامة
الخطبة الأولى

أما بعد

أولا: من هو عمر بن الخطاب وما هي منزلته ؟

أمة الحبيب الأعظم محمد صلى الله عليه و سلم- حديثنا اليوم عن الاهتمام بالشأن العام و حمايته و ذلك من خلال سيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه 

عمر بن الخطاب و ما أدراك ما عمر ؟

فاروق الأمة من فرق الله به بين الحق و الباطل

الملهم المحدث الذي أجرى الله الحكمة و الحق على لسانه

إنَّه مرقع القميص، وبين يديه الغالي والنفيس، إنَّه من يسلك الشيطان فجًا غير فجه، إنَّه الوقَّاف عند كتاب الله، المجاهد في سبيل الله، إنَّه القِيَم والمُثُل بعينها، وما أروع المثل يوم تكون رجالاً فتكون الأخلاق فِعالاً!

إنَّه العادل إنْ ذكر العادلون، هو من سهر لينام الناس، وجاع ليشبع الناس، هو من جعل كبير المسلمين أبًا، وأوسطهم أخًا وأصغرهم ولدًا

عمر الذي لا يجهله أحد، وفي نفس اللحظة قلَّ أن يعرفه أحد في هذا العصر.

قال ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني عن عمر رضي الله عنه : مُهاجري أوليّ بدريّ .

يعني أن عمر رضي الله عنه من أوائل المهاجِرين .

وهو بَدري أي أنه شهِد بَدر .

قال عمر : وافقت ربي في ثلاث : فقلت : يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى فنزلت : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) ، وآية الحجاب قلت : يا رسول الله لو أمَرْتَ نساءك أن يحتجبن ، فإنه يُكلّمهن البر والفاجر ، فَنَزَلَتْ آية الحجاب ، واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه فقلت لهن : (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ) ، فَنَزَلَتْ هذه الآية . رواه البخاري

وهذا من الإلهام الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله :

قد كان يكون في الأمم قبلكم مُحَدَّثُون ، فإن يكن في أمتي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم . رواه البخاري ومسلم .

قال ابن وهب : تفسير مُحَدَّثُون مُلْهَمُون .

وشهِد له النبي صلى الله عليه وسلم بالعِلم .

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِقَدَحٍ مِنْ لَبَنٍ، فَشَرِبْتُ مِنْهُ، ثُمَّ أَعْطَيْتُ فَضْلِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ» قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «الْعِلْمُ».([1]).

وشهِد له بصواب الرأي .

عَنِ الْأَزْرَقِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْعَصْرَ فَقَامَ رَجُلٌ يُصَلِّي، فَرَآهُ عُمَرُ فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِصَلَاتِهِمْ فَصْلٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَحْسَنَ ابْنُ الْخَطَّابِ " ([2])

إنه مبشر بالجنة

عَنْ نَافِعِ بْنِ عَبْدِ الْحَارِثِ الْخُزَاعِيِّ، قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَائِطًا مِنْ حَوَائِطِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ لِبِلَالٍ: «أَمْسِكْ عَلَيَّ الْبَابَ» قَالَ: فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ، فَأَدْلَى رِجْلَيْهِ، فَجَاءَ بِلَالٌ فَقَالَ: هَذَا أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ فَقَالَ: «ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ» قَالَ: فَجَاءَ فَجَلَسَ مَعَهُ عَلَى الْقُفِّ، وَدَلَّى رِجْلَيْهِ قَالَ: ثُمَّ ضُرِبَ الْبَابُ، فَجَاءَ بِلَالٌ فَقَالَ: هَذَا عُمَرُ يَسْتَأْذِنُ فَقَالَ: «ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ» قَالَ: فَجَاءَ فَجَلَسَ، وَدَلَّى رِجْلَيْهِ عَلَى الْقُفِّ مَعَهُ، ثُمَّ ضُرِبَ الْبَابُ فَجَاءَ بِلَالٌ فَقَالَ: هَذَا عُثْمَانُ يَسْتَأْذِنُ فَقَالَ: «ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ وَمَعَهَا بَلَاءٌ».([3])

ورأى له النبي صلى الله عليه وسلم قصراً في الجنة .

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: " بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ رَأَيْتُنِي فِي الْجَنَّةِ، فَإِذَا امْرَأَةٌ تَوَضَّأُ إِلَى جَانِبِ قَصْرٍ، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَذَكَرْتُ غَيْرَةَ عُمَرَ، فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا " قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَبَكَى عُمَرُ، وَنَحْنُ جَمِيعًا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ أَعَلَيْكَ أَغَارُ؟ ([4])

                                         ثانيا  اهتمام عمر بالشأن العام للرعية       
ذكر ابن الجوزي عن الشعبي قال: "سمع الناس قول عمر رضي الله عنه ورأوا عمله، وكان يمشي في الأسواق ويطوف في الطرقات، ويقضي بين الناس في قبائلهم، ويعلمهم في أماكنهم، ويخلف الغزاة في أهليهم، ذكروا أبا بكر والنبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: "كان النبي صلى الله عليه وسلم أعلم بأبي بكر رضي الله عنه، وأبو بكر أعلم بعمر، فكان أبو بكر مع لينه أقواهم فيما لانوا عنه، وألينهم فيما ينبغي، وكان عمر ألينهم فيما ينبغي، وأقواهم على أمرهم"([5])

اهتمام عمر بن الخطاب بالرعية ضرب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أروع الأمثلة في مراقبة الله تعالى، والخشية منه، وهذا ما جعله يقوم بحقّ الرعية، ويهتم بأمر المسلمين على أكمل وجه، حتى روي عنه أنّه كان يقول: (إنّي والله لأكون كالسراج، يحرق نفسه ويضيء للناس)([6])

أول ما وُلِّيَ عمر بن الخطاب أمر المسلمين، قال في خطبته: (أيّها الناس قد وليت عليكم، ولولا رجاء أن أكون خيركم لكم، وأقواكم عليكم، وأشدّكم استطلاعاً بما ينوب من مهم أموركم، ما توليت ذلك منكم)، وقال أيضاً: (إنّ الله ابتلاكم بي، وابتلاني بكم، وأبقاني فيكم بعد صاحبي، فوالله لا يحضرني شيء من أمركم فيليه أحدٌ دوني، ولا يتغيّب عني فآلوا عن الجزء والأمانة، ولئن أحسنوا لأحسنن إليهم، ولئن أساؤوا لأنكّلنّ بهم).([7])

قدم معاوية بن حديج رضي الله عنه على عمر رضي الله عنه بفتح الاسكندرية، وأناخ راحلته، فخرجت جارية لعمر رضي الله عنه فرأته وعليه أثر السفر، فأدخلته، فقربت إليه خبزاً وزيتاً وتمراً، فأكل، فقال عمر لمعاوية رضي الله عنهما: ماذا قلت يا معاوية حين أتيت المسجد؟ قال: قلت: إن أمير المؤمنين قائل، قال عمر: بئس ما قلت أو بئس ما ظننت، لئن نمت النهار لأضيعن الرعية، ولئن نمت الليل لأضيعن نفسي، فكيف بالنوم مع هذين يا معاوية؟!([8])

 وقبل وفاته بأيام قلائل يقول : “لئن أبقاني الله لأعملن رأيًا للمسلمين لا تحتاج فيه بعدي أَيِّمٌ -وهي المرأة التي لا زوج لها- إلى رجل”. لكنه مات قبل أن يتم ما عزم عليه.

 كان  رضي الله عنه- يرعى الكبير و الصغير الذكر و الأنثى المسلم و غير المسلم عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: "خرجت مع عمر رضي الله عنه إلى السوق، فلحقته امرأة شابة، فقالت: "يا أمير المؤمنين هلك زوجي وترك صبية صغاراً، ما يُنضِجون كراعاً([9])، ولا لهم زرع ولا ضرع، وخشيت عليهم الضيع، وأنا ابن خفاف بن إيماء الغفاري، وقد شهد أبي الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف معها ولم يمضِ، وقال: "مرحباً بنسب قريب"، ثم انصرف إلى بعير ظهيرٍ كان مربوطاً في الدار، فحمل عليه غرارتين ملأهما طعاماً، وجعل بينها نفقة وثياباً، ثم ناولها خطاماً، قال: "اقتاديه فلن يفنى هذا حتى يأتيكم الله بخير". فقال رجل: (يا أمير المؤمنين أكثرت لها؟ " فقال عمر: "ثكلتك أمّك، والله إني رأيت أبا هذه وأخاها قد حاصرا حصناً زماناً فافتتحناه5 ثم أصبحنا نستقي سُهْمَانَهُما فيه".

ومن الآثار المروية عن عمر رضي الله عنه في اهتمامه بأمر و شان الرعية ، ما روي من أن عمر رضي الله عنه خرج في سواد الليل، فرآه طلحة، فذهب عمر، فدخل بيتاً، ثم دخل بيتاً آخر، فلما أصبح طلحة ذهب إلى ذلك البيت، فإذا عجوز عمياء مقعدة، فقال لها: ما بال هذا الرجل ببابك؟ قالت: إنه يتعاهدني منذ كذا وكذا، يأتيني بما يصلحني، ويخرج عني الأذى، فقال طلحة: ثكلتك أمك يا طلحة، أعثرات عمر تتبع؟ ([10])

عمر رضي الله عنه و اهتمامه حتى بالدواب

 إخوة الاسلام حتى الدواب كان لها نصيبا من اهتمام عمر رضي الله عنه – لانه يعلم ان الله تعالى سائله كما في الحديث عَنِ الحَسَنِ، قَالَ: أَتَيْنَا مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ نَعُودُهُ، فَدَخَلَ عَلَيْنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ مَعْقِلٌ: أُحَدِّثُكَ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «مَا مِنْ وَالٍ يَلِي رَعِيَّةً مِنَ المُسْلِمِينَ، فَيَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لَهُمْ، إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ» ([11]) كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- شديد الخشية من الله تعالى، حتى إنّه كان يقوم على علاج البعير بنفسه؛ فيدخل يده في قرحتها، ويقول: (إنّي أخاف أن أسأل عمّا بك).([12])

قال عمر رضي الله عنه: لو مات جمل من عملي ضياعاً، خشيت أن يسألني الله عنه([13])

وروي أن عمر رضي الله عنه كان في سفر، فسمع صوت راع في جبل، فعدل إليه، فلما دنا منه صاح: يا راعي الغنم، فأجاب، فقال له عمر: إني مررت بمكان هو أخصب من مكانك، وإن كل راع مسؤول عن رعيته، ثم عدل صدور الركاب([14])

تحذيره رضي الله عنه للولاة من ظلم الرعية

 و لقد كان رضي الله عنه  شديد الحرص على رعيته و على سلامتهم من الظلم و الجور  الذي يصدر كثيرا من الولاة فكان - رضي الله عنه - إذا استعمل العمال خرج معهم يشيعهم فيقول: "إني لم أستعملكم على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - على أشعارهم ولا على أبشارهم، إنما استعملتكم عليهم لتقيموا بهم الصلاة، وتقضوا بينهم بالحق وتقسموا بينهم بالعدل،.... " ([15]).

روي أنّ رجلاً من أهل مصر تسابق مع ابن عمرو بن العاص رضي الله عنه، فلمّا سبق المصري، ضربه ابن عمرو بن العاص بالسوط، وقال أنا ابنُ الأكرمِينَ، فذهب ذلك المصري إلى عمر بن الخطاب، واشتكى له الأمر، فأرسل عمر كتاباً إلى عمراً يأمره بالقدوم إليه، وإحضار ابنه معه، فلمّا وصلوا إليه قال أمر المصري بأخذ السوط، وضرب ابن الأكرمين، فأخذ المصري السوط، وضربه ضرباً موجعاً، ثمّ قال له ضع السوط على صلعة عمرو، فقال المصريّ يا أمير المؤمنين إنّما ابنه الذي ضربني وقد استقدت منه، فقال عمر لعمرو: (منذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً)، فقال عمرو: (يا أمير المؤمنين لم أعلم ولم يأتني ([16])

كيف حارب الفاروق الفساد؟

كان الفاروق العظيم عمر بن الخطاب إذا سن قانونا أو حظر أمرا أو أراد أن يلزم الناس بشىء من الخير جمع أهله وأقاربه أولا فعن ابن عمر، قال: "كان عمر رضي الله عنه إذا نهى الناس عن شيء دخل على أهله، وقال: "إني قد نهيت الناس عن كذا وكذا، وإن الناس ينظرون إليكم كما ينظر الطير إلى اللحم، فإن وقعتهم وقعوا، وإن هبتم هابوا، وإني والله لا أُوتَى برجل وقع فيما نهيت الناس عنه إلاّ أضعفت له العذاب، لمكانه مني، فمن شاء منكم أن يتقدم، ومن شاء منكم فليتأخر" ».([17])

لقد اشتد عمر - رضي الله عنه - على أهل الريب والتهم وهو أول من عس في عمله بالمدينة وحمل الدرة وأدب بها، ولقد قيل بعده لدرة عمر أهيب من سيفكم ([18]). وكان عمر - رضي الله عنه - يعس ذات ليلة بغية الاطمئنان على أحوال رعيته، فسمع امرأة تقول: هل من سبيل إلى خمر فأشربها، أم هل سبيل إلى نصر بن حجاج؟ فلما أصبح سأل عنه، فإذا هو من بني سليم فأرسل إليه فأتاه فإذا هو من أحسن الناس شعراً وأصبحهم وجهاً، فأمره عمر أن يحلق شعره ففعل، فخرجت جبهته فازداد حسناً، فأمره عمر أن يعتم ففعل، فازداد حسناً، فقال عمر: لا والذي نفسي بيده لا تجامعني بأرض أنا بها! فأمر له بما يصلحه وسيره إلى البصرة([19])

عمر بن الخطاب سيضاعف العذاب لمن يقع فى الفساد أو يستلب أموال الدولة أو حتى يقترب منها حتى لو كان من أهله وأسرته أو أقاربه.

ذكر ابن الجوزي عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "اشتريت إبلاً وارتجعتُها إلى الحمِى، فلما سمنت قدمت بها، قال: فدخل عمر رضي الله عنه السوق فرأى إبلاً سماناً، فقال: "لمن هذه الإبل؟ "، فقيل: "لعبد الله بن عمر"، فجعل يقول: "يا عبدَ الله بن عمر! بخٍ بخٍ، ابنُ أمير المؤمنين"، قال: "فجئته أسعى، فقلت: ما لك يا أمير المؤمنين؟ "، قال: "ما هذه الإبل؟ "، قال: قلت : "إبل اشتريتها وبعثت بها إلى الحمى أبتغي ما يبتغي المسلمون"، قال: "يقال: ارْعوا إبل ابن أمير المؤمنين، اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين، يا عبد الله بن عمر، اغد ابن عمر اغد على رأس مالك واجعل باقيه في بيت مال المسلمين"([20]).

وعن جُميع بن عُمير التيم، قال: "سمعت عبد الله بن عمر يقول: "شهدت جلولاء فاتبعت من الغنائم بأربعين ألفاً، فقال: "يا عبد الله ابن عمر لو  انطلق بيَ إلى النار، كنت مفتدي؟ "، قلت: "نعم. بكل شيء أملك". قال: "فإني مخاصمٌ، وكأني بك تبايع بجلواء ويقولون: [هذا] عبد الله بن عمر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن أمير المؤمنين وأكرم أهله عليه، وأن يرخصوا عليك كذا وكذا درهماً أحبَّ إليهم من أن يغلوا عليك بدرهم، وسأعطيك من الربح أفضل ما ربح رجل من قريش".

ثم أتى باب صفية بنت أبي عبيد، فقال: يا صفية بنت أبي عبيد أقسمت عليك أن تُخرجي من بيتك شيئاً، أو تخرجين منه وإن كان عنق طَبِيَّةٌ ([21])، قالت: "يا لأمير المؤمنين ذلك لك"، ثم تركني سبعة أيام، ثم استدعى التجار، ثم قال: "يا عبد الله بن عمر إني مسؤولٌ"، فباع من التجار متاعاً بأربع مئة ألف، فأعطاني ثمانين ألفاً وأرسل بثلاث مئة وعشرين ألفاً إلى سعد، فقال: "أقسم هذا المال فيمن شهد الوقعة، فإن كان أحد منهم مات فابعث بنصيبه إلى ورثته"([22])

الخطبة الثانية

عمر رضي الله عنه يجوع كما تجوع رعيته

أيها الأحباب لم عمر رضي الله عنه بمعزل عن رعيته فلم يسكن القصور الشاهقة و لم يتلقب في الحرير و لم يكن يأكل أطايب الطعام و الرعية تقاسي  الجوع و الفقر بل كان يجوع كما يجوعون و يتألم لألمهم  "كان عمر رضي الله عنه يصوم الدهر، فكان عام الرمادة  إذا أمسى أتى بخبز قد ثرد بالزيت، إلى أن نحر يوماً من الأيام جزوراً، فأطعمها الناس، وغرفوا له طيبها، فَأُتِي به فإذا قدر من سنام ومن كبد، فقال: "أنى هذا؟ "، قالوا: "يا أمير المؤمنين من الجزور التي نحرنا اليوم"، قال: "بَخْ بَخْ، بئس الوالي أنا إن أكلت طيبها وأطعمت الناس كراديسها([23])، ارفع هذه الصحفة، هات لنا غير هذا الطعام"، فأتي بخبز وزيت، فجعل يكسره بيده ويثرد ذلك الزيت، ثم قال: "ويحك يا يرفأ! احمل هذه الجفنة حتى تأتي بها أهل بيت بثمغ([24])، فإني لم آتهم منذ ثلاثة أيام، وأحْسبهم مقفرين، فضعها بين أيديهم"

قال ابن سعد: "ونظر عمر عام الرمادة إلى بطيخة في يد بعض ولده فقال: "بَخْ بَخْ يا [ابن] أمير المؤمنين، تأكل الفاكهة وأمة محمّد هزلى؟ "، فخرج الصبي هارباً وبكى، فقالوا: "اشتراها بكفنوى"([25]).

قال ابن سعد: "قال عياض بن خليفة: "رأيت عمر عام الرمادة وهو أسود اللون، ولقد كان رجلاً عربياً يأكل السمن واللبن فلما أمحل الناس حرّمها فأكل الزيت حتى غير لونه وجاع فأكثر"

وعن أسلم قال: "كنا نقول: لو لم يرفع الله تعالى المحل عام الرمادة لظننا أن عمر يموت همّاً بأمر المسلمين".([26])

وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال عام الرمادة وكانت سنة شديدة ملحة، وبعدما اجتهد في إمداد الأعراب بالإبل والقمح والزيت من الأرياف كلها حتى محلت الأرياف كلها جهدها ذلك [فقام] عمر يدعو فقال: "اللهم ارزقهم على رؤوس الجبال"، فاستجاب الله له وللمسلمين، فقال حين نزلت الغيث: "الحمد لله، فوالله لو أن الله تعالى لم يفرجها ما تركت أهل بيت من المسلمين لهم سعة إلا أدخلت عليهم معهم عدادهم من الفقراء، فلم يكن اثنان يهلكان من الطعام على ما يقيم واحداً" ([27]).

وعن ابن طاووس عن أبيه، قال: "أجدب الناس على عهد عمر فما أكل سميناً ولا سمناً حتى أكل الناس" .([28])

وعن يحيى بن سعيد، قال: "اشترت امرأة عمر بن الخطاب لعمر فرْقاً من سمن بستين درهماً، فقال عمر: "ما هذا؟ "، فقالت امرأة: "هو من مالي ليس من نفقتك"، فقال عمر: "ما أنا بذائقه حتى يحيى الناس". .([29])

قال أبو هريرة: يرحم الله ابن حنتمة، لقد رأيته عام الرمادة وإنه ليحمل على ظهره جرابين، وعكة زيت في يده وإنه ليعتقب -أي يتناوب- هو وأسلم فلما رآني قال: من أين يا أبا هريرة؟ قلت: قريبًا. قال: فأخذت أعقبه -أعاونه- فحملناه حتى انتهينا إلى ضرار فإذا صرم -جماعة- نحو من عشرين بيتًا من محارب فقال عمر: ما أقدمكم؟ قالوا: الجهد. قال: وأخرجوا لنا جلد ميتة مشوية كانوا يأكلونها، ورمة العظام مسحوقة كانوا يسفونها قال: فرأيت عمر طرح رداءه ثم نزل يطبخ لهم ويطعمهم حتى شبعوا، ثم أرسل أسلم إلى المدينة، فجاء بأبعرة فحملهم عليها حتى أنزلهم الجبانة، ثم كساهم، ثم لم يزل يختلف إليهم وإلى غيرهم حتى رفع الله ذلك. وكان  يصلي بالناس العشاء ثم يخرج إلى بيته فلا يزال يصلي حتى يكون آخر الليل، ثم يخرج فيأتي الأنقاب، فيطوف عليها وقد ذكر عبد الله بن عمر بأنه قال: وإني لأسمعه ليلة في السحر وهو يقول: اللهم لا تجعل هلاك أمة محمد على يدي. ويقول: اللهم لا تهلكنا بالسنين وارفع عنا البلاء. يردد هذه الكلمات.

 

 

[1] - أخرجه البخاري (7032) ، ومسلم (2391) ، والترمذي (2284) و (3687)

[2] - أخرجه أبو داود (1007) ، والطبراني في "الكبير" 22/ (728) ، وفي "الأوسط" (2109) ،

[3] - البخاري (3674) ، ومسلم (2403) (28) ، سيرد 4/393.

[4] - أخرجه البخاري "5225"

[5] - ابن الجوزي: مناقب ص 66، 67،

[6] - رواه ابن شبة / تاريخ المدنية 2/349،

[7] - رواه عبد الرزاق / المصنف 11/326. ابن سعد / الطبقات 3/274، ابن شبة / تاريخ المدينة 2/240،241،

[8] - رواه أحمد / الزهد ص 152، ابن عبد الحكيم / فتوح مصر ص 81،

[9] - والكراع: ما دون الكعب من الدواب. أو لا يكفون أنفسهم معالجة ما يأكلونه

[10] - رواه ابن قدامة / الرقة ص 84،

[11] - أخرجه أحمد 5/25، والبخاري (7151) ، ومسلم (142) .

[12] - رواه ابن سعد / الطبقات 3/286، البلاذري / أنساب الأشراف ص 217،

[13] - المطالب العالية لابن حجر ق 504/أ. ابن سعد / الطبقات 3/305، ابن أبي شيبة / المصنف 7/99،

[14] - رواه ابن سعد / الطبقات 3/291، 292، البلاذري / أنساب الأشراف ص 228

[15] - تاريخ الأمم والرسل والملوك للطبري (2/567).

[16] - ابن الجوزي: مناقب ص 98، 99، المتقي الهندي: كنْز العمال 12/660،

[17] - ابن شبه: تاريخ المدينة 3/751، وإسناده حسن. وابن الجوزي: مناقب ص 240، والطبري: التاريخ 4/207،

[18] - لطبقات الكبرى لابن سعد (3/282)

[19] - الطبقات الكبرى لابن سعد (3/285).

[20] - ابن الجوزي: مناقب ص 159، البيهقي: السنن: 6/147،

[21] - الطّبِيُ: حلمات الضّرع التي من خفٍ وظلفٍ وحافرٍ وسبع. (لسان العرب 15/64، القاموس ص 1684) .

[22] - أبو عبيد: الأموال ص 273، ابن زنجويه: الأموال: 2/592، البلاذري: أنساب الأشراف (الشيخان: أبو بكر وعمر) ص 171، 172،

[23] - عظِام مَحال البعير

[24] - موضع مال لعمر وقفه بالمدينة. (معجم معالم الحجاز 2/88) .

[25] - ابن سعد: الطبقات 3/315، وفيه الواقدي، ابن الجوزي: مناقب ص 70.

[26] - ابن سعد: الطبقات 3/315، وفيه الواقدي، ابن الجوزي: مناقب ص 71.

[27] - ابن سعد: الطبقات 3/316، وإسناده صحيح

[28] -6 ابن سعد: الطبقات 3/313، البلاذري: أنساب الأشراف (الشيخان: أبو بكر وعمر) ص 296، ابن الجوزي: مناقب ص 71،

[29] - ابن الجوزي: مناقب ص 72، محب الدين: الرياض النضرة 1/386،

المرفقات

بالشأن-العام

بالشأن-العام

المشاهدات 2356 | التعليقات 0