الانقياد والتسليم

عبدالرحمن اللهيبي
1439/05/16 - 2018/02/02 03:35AM

من منقولي لا من قولي مع التصرف 

الللهم انفع بها واجعلها لوجهك خالصة

عباد الله، إن المسلم الحق هو الذي الذي يستجيب لأمر الله دون تردد وهو الذي ينتهي عما حرم الله دون تلكؤ فلا يجادل ولا يعترض  فربك هو الذي يعلم ما يضرّك وما ينفعك، وما يشقيك وما يسعدك أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ والله ما أمرك الحكيم إلا بما ينفعك ولا نهاك العليم إلا عما يضرك فلا تتبرم من شرعه ولا تجادل في حكمه؟!

لقد ضرب لنا الله لنا في كتابه مثلاً عظيما في التسليم لأمره وتفويض الأمر إليه دون اعتراض أو جدال أو منازعة، بل بقلوب ملؤها الاستجابة والامتثال والطمأنينة والرضا ، ولنذكر مثلاً واحدا فيه القدوة والعبرة والأسوة لمن بصره الله وفتح على قلبه، إنه أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام.

فتأملوا يا مسلمون عظيم امتثال براهيم عليه السلام لربه في ترك ترك زوجه هاجر وابنه إسماعيلَ بمكة ، وكانت واد غير ذي زرع.. قفراءُ موحشة مخيفة لا ماء فيها ولا نبات ولا مساكن ولا أحد هناك من البشر جاء بزوجه هاجر وابنِها إسماعيل من بلاد الشام ليضعهم في هذا المكان

تركهم في العراء وتولى مرتحلا حيث الوحوش والسباع والجوع والفقر والضمأ .. نادته زوجه هاجر يا إبراهيم إلى من تتركنا إلى من تكلنا وهو لا يجيب إلى أن قالت آلله أمرك بهذا فقال اللهم نعم فقالت إذن لن يضعنا الله فلا تدري من أيهما تعجب من تنفيذ الأب لأمر ربه أو امتثال الزوجة لأمر ربها وكلهم راضون بأمر الله

نجح نبي الله إبراهيم وأهله في هذا البلاء مستجيبين لأمر الله .. وكان بانتظار إبراهيم عليه السلام بلاء أشد منه وأعظم فحينما كبر ابنه إسماعيل وأصبح غلاما نجيبا رأى إبراهيم عليه الصلاة والسلام في منامه أن الله يأمره بذبح ولده إسماعيل..

فعزم إبراهيمُ على تنفيذ أمر الله، وسلم وانقاد واستجاب ولم يعترض أو يجادل أو يتردد.. فاسمع ما قصه الله علينا في كتابه: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ  [الصافات: 99-112].

يا لله ما أعظمه من إيمان! ويا لله ما أعظمها من طاعة وتسليم!

وأُمرت بذبْحك يا ولدي       فانظر في الأمر وعقباه

ويُجيب العبد بـلا فزع:        افعل مـا تؤمـر أبتاه

لـن أعصـي لإلَهي أمرا             من يعصـي يوما مولاه

واستلّ الوالـد سكّينـا       و استسلم ابـن لرداه

ألقـاه برفـق لِجبيـن      كي لا تتلاقى عينـاه

أرأيـتـم قلبـا أبويـا     يتلقـى أمـرا يأبـاه

أرأيـتـم ابنـا يتلقـى    أمـرا بالذبح ويرضاه

فعجبا لنبي الله إبراهيم عليه السلام شيخ كبير مقطوع من الأهل والقرابة والولد، فيرزق في كبره بغلام طالما تطلع إليه، ولطالما دعا ربه وألح عليه أن يهبه ابنا من الصالحين، فلما جاءه بعد سنين من الأمل جاءه غلام يشهد له ربه بأنه حليم. حتى إذا ما أنس به وبلغ معه السعي ورافقه في الحياة، فيرى في منامه أنه يذبحه، ويدرك أنها إشارة من ربه بالتضحية، فماذا صنع؟ هل تردد هل خالجه شعور بالعصيان لا والله ما خطر له إلا خاطر الامتثال والتسليم. مع أنها رؤية، مجرد إشارة، ليست وحيًا صريحًا، ولا أمرًا مباشرًا، ولكنها إشارة من ربه في المنام، وهذا يكفي ليلبي إبراهيم ويستجيب، ودون أن يعترض، ودون أن يناقش، ولم يلبي في انزعاج، ولم يستسلم في جزع، ولا يطيع في اضطراب. كلا، إنما هو تمام القبول والاستجابة والرضا ، والله إن الأمر شاق، إي وربي إنه لشاقّ، وما في ذلك من شكّ، وأشق من ذلك وأعظم أن إبراهيم عليه السلام هو المكلف بتولى الذبح بيده، لقد استجاب إبراهيم ولقد امثلت زوجه هاجر من قبل حين ابقاها في هذا البلد الموحش آنذاك وجاء الآن دور الابن ليستجيب ويمتثل إنها أسرة مؤمنة طيبة فيعرض إبراهيم عليه السلام على ابنه الذبح، لأنه يريد من ابنه أن يأخذ الأمر طاعة وإسلامًا، لا قهرًا واضطرارًا؛ لينال هو الآخر أجرَ الطاعة، وليتذوّق بذلك حلاوة الامتثال والتسليم.

فماذا كان رد الغلام الذي عرض عليه الذبح تصديقًا لرؤيا رآها أبوه؟ يا لله العجب قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ

افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ هكذا استجاب إسماعيل وهو صبي صغير من غير لجلجة ولا اعتراض ولا ارتياب. فيا لروعة الإيمان! ويا لعظمة الامتثال والتسليم! فاللهم اجعلنا لشرعك من المسلمين ولأمرك من المستجيبين وعن نهيك من الممتثلين

أقول قولي هذا...

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

عباد الله، وينتقل بنا السياق إلى الساعة الحاسمة، إلى تنفيذ أمر الله بالذبح، فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ. فيكب ابنه على جبينه استعدادًا لنحره، والغلام يستسلم فلا يتحرك امتناعًا، وقد وصل الأمر إلى نهايته، لقد أسلما ..هذا هو الإسلام في حقيقته، وهل الإسلام إلا الاستسلام والاستجابة والطاعة والرضا والتسليم

وهنا كان إبراهيم وإسماعيل قد أسلما، قد استجابا للأمر والتكليف، ولم يكن باقيًا إلا أن يذبح إسماعيل، ويُسيل دمه، ويزهق روحه. وبهذا كان الابتلاء قد تم، فقد حققوا التكليف، وقد جازوا الامتحان بنجاح. وعرف الله من إبراهيم وإسماعيل صدقهما فالله لا يريد أن يعذب عباده بالابتلاء، ولا يريد دماءهم وأجسادهم في شيء  وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ.

ولقد ابتلانا الله بما هو دون ذلك من طاعات يسيرة مقدور عليها لا مشقة فيها ولا عنت وابتلانا بمحرمات لا يعجزنا تركها وليس في فعلها إلا المضرة بنا فهل نستجيب وهل نمتثل وهل نحقق الإسلام بمعناه الحقيقي هل نقول لربنا سمعنا وأطعنا أم نقول سمعنا وعصينا .. فهنيئا لأهل الامتثال والطاعة النجاح في الابتلاء وهنيئا لهم الجنان والرضوان وويل للعصاة من ربهم إن لم يتوبوا إليه وينبوا ويسلموا..

هذا وصلوا وسلموا...

المشاهدات 915 | التعليقات 0