الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس د. : رمضان فوزي بديني
الفريق العلمي
بعد أن تحدثنا في الحلقة الأولى من هذه السلسلة عن الانفصام الدعوي وأشرنا إلى مكانة الدعوة والاستحقاقات والواجبات التي تقع على من شرفهم الله -تعالى- بأن يسلكوا طريق الدعوة إليه، نبدأ في هذه الحلقة الحديث عن أول مجال من مجالات هذا الانفصام، وهو الانفصام الدعوي مع النفس. الانفصام مع النفس.
لا شك أن اهتمام الداعية يجب أن ينصرف أول ما ينصرف إلى نفسه؛ فهي رصيده وهي أول ما يحاسب عليه أمام الله -تعالى-؛ بل إن عليه أن يرتقي في درجات الطاعة والعبادة والاستقامة؛ فيكون متقدما على من يدعوهم؛ ولذا عُني القرآن الكريم عناية كبيرة بنفس الداعية وتربيتها وتقويمها وترقيتها في مدارج السالكين إلى الله -رب العالمين-.
فنجد –على سبيل المثال- سورة المزمل تنزل في بدايات الدعوة لترسم الطريق الإيماني الذي يجب على الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلاً * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً * إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلاً * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً * رَبِّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً * وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً)[المزمل: 1-10].
وبالإضافة إلى الجانب الإيماني والتعبدي على الداعية أن يراقب قلبه ويخلص نيته لله تعالى؛ فتكون دعوته خالصة ومتجردة لله تعالى، لا ينتظر مغنما من أحد أو جزاء أو شكورا إلا من الله -تعالى-، كما عليه أن يرتقي في سلم الأخلاق والسلوك؛ بحيث يطابق فعله قوله؛ بحيث يكون قدوة للناس؛ فيجمع بين الدعوة بالحال قبل الدعوة بالمقال.
مظاهر الانفصام مع النفس
لكن كما ذكرنا في المقال السابق فإن الدعاة ليسوا ملائكة لا يعصون الله ما أمرهم؛ فهم بشر ليسوا معصومين، وهم معرضون للخطأ والنسيان؛ ولذا قد يندُّ بعض الدعاة عن جادة الصواب؛ فيقعون في بعض الأخطاء، التي قد تمثل نوعا من أنواع الاضطراب أو الانفصام السلوكي الذي يناقض ما يدعون إليه، وإن لم ينتبهوا لهذه المظاهر ويعالجوها سريعا فهنا يخشى عليهم الخطر، وقد يكونون فتنة للناس من حيث لا يشعرون.
وفيما يلي بعض مظاهر هذا الانفصام الدعوي مع النفس:
أولا- ما يصيب قلب الداعية من الإعجاب والكبر والغرور لما يراه من إقبال الناس عليه وقوة بيانه وتأثيره فيهم والتفافهم حوله وحرصهم على حضور دروسه وحلقاته؛ فعلى الداعية أن يراقب قلبه ويعتقد أن هذا الإقبال عليه يستدعي منه مزيدا من القرب لله تعالى والإخلاص له؛ فهو الذي جمع له هذه القلوب؛ لتكون له سبيلا لتعدد الأجور على قدر هداية كل منهم، وليحرص على هذا الدعاء “اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئا أعلمه وأستغفرك لما لا أعلمه”.
وليحذر من أن يكون ممن تسعر بهم النار يوم القيامة، كما أخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الحديث النبوي: “إن أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه رجلٌ استشهد فأُتيَ به فعرَّفه نعمَه فعرفها، قال فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال هو جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسُحبَ على وجهه حتى ألقي في النار، ورجلٌ تعلَّم العلم وعلَّمه وقرأ القرآن فأتي به فعرَّفه نعمَه فعرفها، قال فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال كذبت، ولكنك تعلمت ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ، فقد قيل ثم أمر به فسُحبَ على وجهه حتى ألقي في النار، ورجلٌ وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال كذبت، ولكنك فعلت ليقال هو جواد، فقد قيل ثم أمر به فسُحبَ على وجهه ثم ألقي في النار”(رواه مسلم).
ثانيا- ربما يصيب قلب الداعية حب الدنيا والعمل لها حتى إنه يجعل من دعوته مطية لتحقيق مآرب دنيوية ومغانم شخصية. وهنا عليه أن يتجرد لله تعالى فيتجه بعمله ودعوته لله –تعالى-، وليعلم أن ما عند الله خير وأبقى، وليجعل شعاره دائما قول الأنبياء لأقوامهم: (يَا قَوْمِ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُون)[هود: 51].
ثالثا- من مظاهر الانفصام الدعوي مع النفس أيضا المعاصي الخفية التي لا يطلع عليها أحد إلا الله -عز وجل-؛ فالداعية بين الناس تقي ورع، وإذا اختلى بحرمات الله لم يتردد في انتهاكها.
وربما يكون هذا النوع من الانفصام متمثلا بصورة واضحة في شريحة الشباب والمراهقين من الدعاة؛ فهم يعيشون صراعا بين متطلبات الدعوة وخصائص واحتياجات المرحلة العمرية التي يعيشونها؛ فبعضهم يعاني من مشكلات العلاقة مع الجنس الآخر من اختلاط وميل قلبي وما إلى ذلك، وبعضهم يشكو من ممارسة العادة السرية… إلى غير ذلك من مشكلات واحتياجات هذه المرحلة.
ومن نعم الله –عز وجل– على البشرية في العصر الحديث هذه النهضة العلمية والتكنولوجية التي طالت كل مظاهر الحياة، والتي منها هذا التقدم الهائل في وسائل الاتصالات الحديثة المتمثلة في الفضائيات ومواقع الإنترنت.
لكن هذه الوسائل سلاح ذو حدين؛ فهي يمكن توظيفها توظيفا سيئا متمثلا في الانحلال الخلقي والقيمي؛ من خلال الفضائيات ومواقع الإنترنت التي تبث سمومها ليل نهار لتدخل كل بيت بكل سهولة ويسر. والحد الإيجابي للآخر لهذه الثورة التكنولوجية يتمثل في القنوات والمواقع الهادفة التي تغرس القيم النبيلة والأخلاق الرفيعة وتدفع كل رذيلة؛ وهو ما جعل منها وسائل دعوية راقية وسريعة المفعول في المجتمع.
ولأن الدعاة بشر كما ذكرنا، ولأنهم جزء من هذا المجتمع بكل حسناته وسيئاته؛ فطبيعي أن يتأثروا به وأن ينالهم ما ينال غيرهم منه؛ فنجد من الدعاة من ينالهم من سيئات هذه التكنولوجيا حتى ولو رذاذا؛ فتوفر لهم سبل المعصية بعيدا عن أعين الناس أو يتأثروا ببعض الأمراض الاجتماعية التي تبث من خلال هذه الوسائل.
ومن الدعاة من يوفقه الله -عز وجل- فيكون سره كعلانيته وخلوته كخلطته؛ فيأخذ من هذه التكنولوجيا حسنها ولا يغريه سيئها؛ فيطوعها لدعوته ويتخذها سبيلا لتبليغ رسالته؛ فيتعدى تأثيره الحدود والقارات حتى يكون كل ذلك في ميزان الحسنات.
رابعا- من أخطر مظاهر الانفصام أن يستغل الشيطان بعض الأخطاء التي قد يقع فيها الداعية والتي تناولنا بعضها في السطور السابقة؛ فيلقي في نفسه أنه ليس أهلا للدعوة، وأن عليه أن يتوارى عن طريقها حتى ينصلح حاله، ويكون مؤهلا لها، وفي هذه الحالة عليه أن يستشعر رحمة الله -تعالى- ومغفرته ويقدم الرجاء على الخوف، ويكون شعاره “أصلح نفسك وادع غيرك”، وليستحضر قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: “كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون” (رواه الترمذي)؛ فيسارع إلى التوبة والإقلاع عن الذنب ولا يجعل خطأه خطأين (خطأ الذنب وخطأ ترك الدعوة.