الانصاف - مع رمضانَ والانتصافْ

خالد علي أبا الخيل
1439/09/20 - 2018/06/04 18:28PM

الانصاف - مع رمضانَ والانتصافْ

التاريخ: الجمعة:16-رمضان-1439 هـ

لَكَ الحَمدُ يا ذا الجودِ والمَجدِ وَالعُلا

 

تَبارَكتَ تُعطي مَن تَشاءَ وَتَمنَعُ

إِلَهي وَخَلّاقي وَحِرزي وَمَوئِلي

 

إِلَيكَ لَدى الإِعسارِ وَاليُسـرِ أَفزَعُ

وأشهد أن لا إله إلا الله جلَّ في عُلاه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ومصطفاه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداه.

 أما بعد....

فاتقوا الله عباد الله، فأبواب الجنة مفتوحة، وأبواب النار مغلقة، والشياطين مُصفَّدة، فهي فرصةٌ سانحة، وتجارةٌ رابحة.

أيها الصائمون: كنتم بالأمس تتطلَّعون إلى شهركم، وتنتظرون رسائل جوالاتكم، بالأمس تترقبون وعلى أحرٍ من الجمر تنتظرون، وشعاركم وأنتم تدعون، وبسماتكم وأنتم تستبشـرون دخل رمضان ونزل في الميدان، مضت الأيام وقام وصام الصيام، وفي لحظةٍ سريعة ولمحةٍ بديعة وإذا شهرنا قد انتصف، وسارع للنقص وحتف.

انظروا إلى سرعة مرور الليالي والأيام، وانقضاء الشهور والأعوام، وكأننا صمنا يومًا من الأيام.

أحلام نومٍ أو كظلٍّ زائلٍ

 

إن اللبيب بمثلها لا يُخدعُ

وصدق المصطفى (في آخر الزمان تكون السنة كالشهر، والشهر كالأسبوع، والأسبوع كاليوم، واليوم كالساعة، والساعة كإحراق السعفة بالنار) رواه أحمد والترمذي.

فسرعتها في زماننا من العجائب، وانقضاؤها من الغرائب.

أيها الصائمون: إن شهر رمضان قد انتصف، فمن منكم حاسب نفسه فيه لله وانتصف؟ مَن منكم قام في هذا الشهر بحقه الذي عُرِف؟ مَن منكم عزم قبل غلق أبواب الجنة أن يبني فيها غرفًا من فوقها غرف؟

ألا إن شهركم قد أخذ في النقص، فزيدوا أنتم في العمل، فكأنكم به وقد انصـرف، فكل شهرٍ عسى أن يكون منه خلف، وأما شهر رمضان فمن أين يكون الخلف؟

أيها الصائمون: تقبل الله صيامكم، وزادكم وأعطاكم، بادروا شهركم قبل فواته وبادروا ساعاته ولحظاته قبل أن تبدو مظاهر ذهابه وتعتصـر أيامه، بادروا قبل فوات الأوان، وتمني الإنسان، وتقلص أيام رمضان فها هو أخذ بالنقصان.

لِـكُلِّ شَـيءٍ إِذا مـا تَمّ نُقصانُ

 

فَـلا يُـغَرَّ بِـهذا العَيشِ إِنسانُ

فيا عباد الله: تذكروا بالأمس، نقول: أهلًا ومرحبًا بالصيام، واليوم نقول: مهلًا يا شهر الصيام، ما أسرع خطاك يا رمضان! تأتي على شوقٍ وتمضي على عجلٍ وسرعان.

وهذه السـرعة هي من أعمالنا ودنو آجالنا، فالرحيل لرمضان يعود في سائر الأزمان، والرحيل لنا لا عودة ولا رجوع في سائر الأزمان، فحينما يأخذ رمضان بالنقص والانتصاف؛ لنتذكر ماذا أخذنا من الزاد والاستعداد والإسعاف، فالعمل الصالح أنت سترحل عنه لا أنه هو سيرحل عنك فما هي عدتك؟

سَبِيلك فِي الدُّنْيَا سَبِيل مُسَافرٍ

 

وَلَا بُد من زَاد لكل مُسَافرِ

وَلَا بُد للْإنْسَان من حمل عدَّةٍ

 

وَلَا سِيمَا إِن خاف صولة قاهرِ

رمضان مواسمٌ أخروية، ودوراتٌ سنوية، سوف يأتي فيه وأنت فيه بين أطباقٍ ثلاثة:

إما موجود أو مفقود أو موجودٌ مفقود، فإن أدركته فتلك نعمة، وإن فقدته فخذ الآن منه العُدة، وإن كنت موجودًا مفقودًا فخذ من الصحة والعافية الأُهبة قبل حلول مرضٍ أو عارضٍ أو صدمة.

تنصَّف الشهر والهفاه وانهدم

 

واختص بالفوز بالجنات من رُحِمَ

وأصبح الغافل المسكين منكسـرًا

 

مثلي فيا ويحه يا عُظم ما حُرِمَ

من فاته الزرع وقت البدار فما

 

تراه يحصد إلا الهم والندمَ

طوبى لمن كانت التقوى بضاعته

 

في شهره وبحبل الله معتصمَ

من حِكم الصيام: أن الدنيا سريعة الذهاب، وأنها معدودة الزمان، فلفت الرحيم الرحمن تذكيرًا للإنسان فقال في محكم القرآن: (أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ) (البقرة: 184) إشارة إلى سرعة ذهابها وانقضائها، وإشارةً إلى ملئها واستثمارها، فهي أيامٌ معدودة، فلا تفوت وتذهب بدون أعمالٍ محسوبة وقُرباتٍ مرصودة.

تعالوا أيها الصائمون الموفقون نستعرض كشف حسابٍ فيما مضى من الأيام، وحالنا مع الصيام والقيام، ما حالنا مع القرآن والصدقة، والمحافظة على الصلوات المكتوبة، وصلاة التراويح مع الإمام، والبر وصلة الأرحام؟ وهكذا في سلسلة العبادات ومجال الطاعات.

فإذا كانت الأعمال والاستثمار، والمحافظة على الليل والنهار، فعند الصباح يحمد القوم السُّـرى، فسِر على بركة المولى، وإن كانت الحالة الإهمال والكسل والتثابط وسوء العمل، فبادر أيامك القادمة قبل أن تُغادرك، وتدارك وقتك قبل أن تذهب عنك، فالموفق من بادر أوقاته ولازم أنفاسه.

فالبدار البدار قبل زوال الليل والنهار، ما دام في العمر فسحة وفي الوقت لحظة وأنت في أمنٍ وعافيةٍ وصحة، رمضان انتصف فهل من مُشمرٍ لما بقي واعترف؟ وهل من تائبٍ لما جنى واقترف؟

رَمَضَانُ يَا قَوْمُ انْتَصَفْ

 

فَتَدَارَكُوا مَا قَدْ سَلَفْ

وَتَـزَوَّدُوا لِمِـــعَادِكُمْ

 

قَبْلَ النَّدَامَةِ وَالأَسَـفْ

وَتَذَلَّلُــــوْا لِإلهكُمْ

 

فَالذُّلُّ لِلمَـــوْلَى شَرَفْ

مضى نصف شهرنا، فماذا أودعنا أيامه من أعمالنا؟

والعجيب أن البعض كلما أخذ رمضان بالنقص أخذ هو في النقص، كلما أخذ في التحويل أخذ في التقصير والتسويف والنوم الكثير، فتجد البعض في أوائل الشهر نشيطًا قارئًا، ثم يبدأ النقص فتقل القراءة، وينقص الجلوس في المسجد وانتظار الفريضة، وتضعف العبادة.

وهذا له أسباب: كضعف الإيمان، وكثرة العصيان، وعدم إشعار النفس بفضل الزمان، ومتابعة خطوات الشيطان، وكثرة الشواغل ومتطلبات الولدان، وضعف الصدق مع الرحيم الرحمان، وتَذكُر ثواب رمضان.

فلهذا الموفق كلما أخذ رمضان في النقص أخذ هو في الجد والحزم والقنص، يحافظ على وقته وتزداد ختماته، وتتضاعف جهوده وتكثر صدقاته.

الموفق من إذا أخذ رمضان في النقص سارع وسابق الفرسان، وحافظ على الفرائض والنوافل وقراءة القرآن، وهذا هو هدي السلف تتضاعف جهودهم، وتتكاثف أعمالهم؛ فلهذا من كان يختم في ثلاث يختم في يومين، ومن كان في يومين يختم في يومٍ، وتزداد ركعاتهم وسجداتهم، وبرهم وصدقاتهم.

إن بعض الناس يزداد كسله، وتضعف همته، ويقل خيره، وتنقص قراءته وصلاته، ويزداد نومه، بل ربما نام عن فرضه يسهر الليالي بدون فائدةٍ وعملٍ باقي.

ومن هدي المصطفى أنه في آخر الشهر تختلف حاله وتكثر عبادته وتتضاعف جهوده، كما وصفته عائشة إذا دخل العشـر شد مئزره، وأيقظ أهله وأحيا ليله، وعبد ربه واجتهد، وزاد في الأعمال والتعبد، كيف لا وآخر الشهر فيه فضائل: كليلة القدر، والاعتكاف، وإجابة الدعوات وتنزل الرحمات وبسط الخيرات.

إن الشواغل تتكاثر في آخر الشهر، وتتضاعف في السفر والحضـر، فلا بُد من وقفةٍ صادقة، ونيةٍ خالصة، وترتيب وقتٍ، وتنظيم حياة، وإشعار النفس بفرصة الزمان ومنحة الرحيم المنان على بلوغ رمضان، فربما المرء عباد الله لا يدرك آخره، ويصبح فيه من أهل الآخرة، وربما صامه وأكمله لكن آخر صومٍ يُدركه.

أيها الصائمون: نافسوا وسابقوا، وبادروا وسارعوا، فالباب مفتوح والخير ممنوح والوقت يغدوا ويروح.

أيها الصائمون الفائزون: لا إرث يدوم، ولا خير يقوم سوى الأعمال الصالحة لاسيما في زمن وقت المرابحة هي الميراث الحقيقي والكنز الباقي.

وإذا افتَقَرْتَ إلى الذَّخائِرِ، لمْ تجدْ

 

ذُخرًا يكونُ كصالحِ الأعمالِ

بادروا أوقاتكم فالأيام معدودة، والليالي معلومة، فالوقت ثروةٌ كبيرة، ونعمةٌ جليلة، ورمضان درةٌ ثمينة، وساعاته فرصةٌ عظمة.

والوقتُ أنفسُ ما عُنِيتَ بحفظِه

 

وأراهُ أسهلَ ما عَلَيْكَ يَضيعُ

من عرف الوقت صان الوقت، من عرف رمضان زاد في العمل والإحسان، انظروا إلى سلفنا الصالح لما عرفوا قيمة الوقت صنعوا في حفظه ورعايته أمثلةً مدهشة، وأحوالًا مذهلة يُعدها الغافلون الجاهلون نوعًا من الأساطير والهذيان، لكنها عند العقلاء النابهين حقائق وأخبارٌ وميدان، فهم في رمضان على قدمٍ وساق، وإذا تدانت شمسه للغيوم، ووقته للأفول رأيت المنافسة واللاحق، وهجروا الوساد والسباق.

واحذر أيها الصائم والأخ القائم أن تتأسف في اليوم القادم على التفريط والكسل الهائم، فاحرص على النفس والهمة والعزائم.

وما مَرَّ يومٌ أرتجي فيهِ راحَةً

 

فأذكُرُه إلا بكيت على أمسِ

إذا تصرَّمت الأيام بان الفائز بجده واجتهاده، وندم المسيء على تفريطه وإهماله.

أهل المحبّة قومٌ شأنهم عجبُ

 

سرورهم أبدٌ وعيشهم طرَبُ

العيش عيشهمُ والمُلك ملكُهمُ

 

ما الناسُ إلا هُم بانوا أو اقتربوا

قلت ما سمعتم وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي منَّ بمواسم الخيرات، أحمده سبحانه على توالي نعمه والمسرات.

أيها الصائمون والصائمات: ها أنتم في نصف شهركم الأخير، فاعزموا على النشاط والتشمير، فالليالي القادمة فرصةٌ ذهبية، ومِنحةٌ إلهية، وأوقاتٌ إيمانية وحياةٌ روحانية.

فمما تزدان به البشـرى ويذكر للشكر والثناء: حرص الصائمين على إحياء هذه العشـر تأسيًا بسيد البشـر، فتكتظ بهم المساجد ما بين راكعٍ وقارئٍ وساجد، فهُم على قدمٍ وساق واجتهادٍ ولحاق.

فلهذا وصيتي المبذولة وكلماتي المسموعة لك -أيها الصائم وأيها الصائمة- اغتنام العشـر بالطاعات قدر الإمكان والساعات، اغتنم ليالي العشـر بطلب ليلة القدر، اغتنم ليالي العشـر بالقراءة والذِّكر، اغتنم أيام العشـر بالجلوس في المساجد طلبًا للأجر، اغتنم أيام العشـر بالاعتكاف إن تيسـر دون مفسدةٍ أو ضرر، اغتنم أيام العشـر بالدعاء والبكاء لاسيما أوقات السَّحر، اغتنم أيام العشر في تربية الأسرة على العبادة والأجر.

أيها الصائمون الغانمون: إن الفرس في السباق لا تعطي قوتها وتُخرج طاقتها إلا إذا قُربت على النهاية أخرجت طاقتها وقوتها؛ لنكون أول الفائزين، وأمام المسابقين، فها أنتم في منتصف شهركم الكريم، فاحذر أن يكون اجتهادك في أوله وطاقتك في بدايته وفي آخره من المتخلفين والكُسالى والغافلين.

فأوقات الرحمات قد دنت، وإقالة العثرات قرُبت، وإجابة الدعوات حلَّت، وسماع الشكايات والهموم نزلت، فاحذر الكسل والإهمال، والتهاون والتباطؤ في الأعمال.

أيها الصائم: الفتور وقلة النشاط أمرٌ يعتري الإنسان، فما من إنسان إلا وينتابه حالتان: حالة نشاط وحالة فتور، كالسنبلة فهي تميل أحيانا، وتقوم أحيانا؛ فإن انتابه حالة النشاط نفَر إلى الجِد والأعمال، وارتفعت همم الرجال، وإن انتابه حالة الفتور فليروِّح عن نفسه بالسـرور، وليحذر الفتور المستمر والضعف الدائم المنتشـر فليجاهد ويجتهد، ويتوكل على الله ويعتمد، ويشحذ همته، ويقوي عزيمته (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (العنكبوت: 69).

وليتذكر قول المولى المقتدر (وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (العنكبوت:6).

وقوله سبحانه: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) (الزلزلة:7).

وقوله سبحانه: (وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا) (البقرة:268).

وقوله تعالى في الحديث: (يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِـيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ).

وَخُذْ قَدْرَ طَوْقِ النَّفْسِ لا تَسْأَمَنَّهُ

 

وَقِلْ تَسْتَعِنْ بِالنَّوْمِ عِنْدَ التَّهجدِ

فَإِنْ لَمْ تُصَلِّ فَاذْكُرِ اللهِ جَاهِدًا

 

وَتُبْ وَاسْتَقِلْ مِمَّا جَنَيْتَ وَسَدِّدِ

فَلا خَيْرَ فِي عَبْدٍ نَؤُومٍ إِلَى الضُّحَى

 

أَمَا يَسْتَحِي مَوْلاً رَقِيبًا بِمَرْصَدِ

يُنَادِيهُ هَلْ مِنْ سَائِلٍ يُعْطَ سُؤْلَهُ

 

وَمُسْتَغْفِرٍ يُغْفَرْ لَهُ وَيُؤَيَّد

 

 

 

 

 

 

 

المشاهدات 783 | التعليقات 0