الانتكاسة

سليمان بن خالد الحربي
1441/02/18 - 2019/10/17 18:16PM

الانتكاسة

الخطبة الأولى:

إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه وَنستَعِينُه ونسْتغْفِرُه، ونعوذُ باللهِ من شُرُورِ أنفُسِنا وسَيِّئاتِ أعمالِنا، مَن يَهْدِه اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، ومَن سَار على نهجِه، واقْتَفَى أثرَه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أمَّا بَعْدُ:

فاتقوا اللهَ -عِبادَ اللهِ- حق التقوى، {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].

مَعْشَرَ الإِخْوةِ: أتدرون مِمَّ كَان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يَحْذَرُ ويَخافُ، قد يجول بخاطِرنا أمورٌ، لكنك قدْ لا تتصوَّر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يخشى الانتكاسةَ، ويخافُ الضَّلَالَ.

روى الإمامُ أحمدُ في مسندِه بإسنادٍ صحيحٍ، مِن حديثِ أنسٍ رضي الله عنه، قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُكثر أنْ يقولَ: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ»، قَال: فقلنا: يا رسول الله! آمنَّا بِك وبما جئتَ بِه، فهل تخافُ علينَا، قال: فقال: «نَعَمْ؛ إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ إِصْبِعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- يُقَلَّبُها»([1]).

وقدْ كانَ أكثرُ قَسَمِه -صلى الله عليه وسلم- كَما فِي صحيحِ البُخارِيِّ: «لَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ»([2])؛ مِن أجلِ أن يُذَكِّر نفسَه بفقرِه وحاجتِه إلى مولاه، وأنَّه مهما بلغَ العبدُ فإِنَّه مُعَرَّضٌ للبلاءِ والفتنةِ، مهما بلَغَ علْمُه، وارتفَعَتْ مكانَتُه.

رُحمَاك يا الله! لَئِنْ كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُشفِقُ على نفسِه وهو أَمينُ الله على وحيِه ومُصْطفاه، فماذا نقول؟ ولِمَ لا نخافُ كخوفِه.

كان رسولُكم -صلى الله عليه وسلم- كَما في صحيح مسلمٍ يقول في دعائِه: «اللهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ»([3]).

واسْمَعوا إلى دُعائِه -صلى الله عليه وسلم- مَع أنَّه أتْقَى الخلقِ، وأَبَرُّ الخلق، وأخشعُ الخلق، فقد روى مسلمٌ عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- أن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقولُ: «أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَنْ تُضِلَّنِي»([4]).

إذا كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يدْعُو بهذا الدُّعاءِ، فكيف بحالِنا نُحن الضعفاءَ؟!

أخبرَ الله -جل وعلا- أنَّ أُناسًا عاصروا رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وجالَسُوه، وسَمِعوا الوحيَ، وأسْلَمُوا، وصدَّقُوا، وبلَغوا مرتبةَ الصحبةِ، لكنَّهم كَفَرُوا بعدَ ذلك، وفيهم نزَلَتْ هذه الآيةُ: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 86 - 89].

وفي صحيح مسلمٍ مِن حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ الزَّمَنَ الطَّوِيلَ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ يُخْتَمُ لَهُ عَمَلُهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ الزَّمَنَ الطَّوِيلَ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، ثُمَّ يُخْتَمُ لُهُ عَمَلُهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ»([5])؛ وَلهذا لَـمَّا كانَ هذا الأمرُ في نفسِ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- وهو بهذه المكانةِ أصبح يستَشْعِرُه في كُلِّ وقتٍ.

وتأمَّلْ حالَه لـمَّا مرَّ -صلى الله عليه وسلم- بِدِيَار ثَمُودَ وقومِ صالحٍ، تَذَكَّرَ أليمَ بطشِه، وشِدَّةَ مكرِه، وهَالَه وأفْزَعَه، وخافَ على نفسِه، فقد روى الشيخان من حديث ابنِ عمرَ
-رضي الله عنهما- قال: لـمَّا مرَّ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بالحِجْرِ، قال: «لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ»، ثم قنَّع رأسَه وأسرع السيرَ حتى أجاز الوادي([6]).

ووجهُ هذه الخشيةِ أنَّ البكاءَ يبْعَثُه على التفكُّر والاعتبارِ، فكأنَّه أمرَهُمْ بالتفكُّرِ في أحوالٍ تُوجِبُ البكاءَ مِن تقدير اللهِ تعالى على أُولَئِك بالْكُفْرِ مع تمكينه لهم في الأرض، وإمهالِهم مدةً طويلةً، ثمَّ إيقاعِ نقمتِه بهم، وشِدَّةِ عذابِه، وهو سُبحانَه مُقَلِّبُ الْقُلوبِ، فلا يَأْمَنُ المؤمِنُ أن تَكونَ عاقِبَتُه إلى مِثْلِ ذلك.

ومِنْ أعظمِ أحوالِه في خَوْفِه -صلى الله عليه وسلم- أنَّه لما كان السَّفَرُ وتغيُّرُ المكانِ عاملًا قويًّا للتَّحوُّلِ والتغيُّر والانتكاسِ، كما هو ظَاهِرٌ في واقعِ بعضِ الناسِ اليومَ عندَ سفرهم إلى بلاد الكُفَّار ونحوهِم، كان رسولُنا -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح مسلمٍ مِن حديثِ
عبد الله بن سَرْجِس، عند سفرِه يستعيذُ بالله من الْحَوْرِ بعد الْكَوْنِ -أو الْكَوْرِ-([7])، وهو الرجوعُ من الإيمانِ إلى الكفرِ، أو مِن الطاعةِ إلى المعصيةِ، وأعمُّ من ذلك: الرجوعُ من شيءٍ من الخيرِ إلى شيءٍ من الشرِّ، والعياذُ بالله.

وكلُّنا يعلم أسفارَ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لأجْلِ ماذا، فهو إِمَّا في هجرةٍ، أو غزوةٍ، أو حجٍّ، أو عمرةٍ، أو دعوةٍ، ومع هذا يُردِّدُ هذا الدعاءَ العظيمَ عند سفرِه، وهذا غايةٌ في الخوف.

وهذا من شدَّةِ خوفِه -صلى الله عليه وسلم- وتوقيرِه لربِّه.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} [هود: 63].

بَاركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونَفَعني وإياكُم بما فيه من الآياتِ والذِّكر الحكيم، أقولُ ما سَمِعْتُم، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائِرِ المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشُّكْرُ على توفيقِه وامتنانِه، وأشهدُ أنَّ لَا إله إلا اللهُ؛ تعظيمًا لشانِه، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، الدَّاعِي إلى جنَّتِه ورضوانِه، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وأعوانِه.

أمَّا بَعْدُ:

مَعْشَرَ الإِخْوةِ: إنَّ من أعظم أسباب الانتكاسةِ وغلبةِ الشهوةِ هو التهاونُ بحدودِ اللهِ، واقترافُ الذُّنوب دونما خوفٍ أوْ وَجَلٍ أو تأنيبِ ضميرٍ، تأمَّلُوا ذلك في قولِه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24]، فمَنْ لم يستَجِبْ لأوامِرِ الله بقلبِه وجوارِحِهِ فهو مُعَرَّضٌ لأن يحولَ الله -جل وعلا- بينَه وبينَ الإيمانِ، فهو مُقَلّبُ القلوب، يُقَلِّبُها حيث شاءَ، ويُصَرَّفُها حيث شاء، فالعبد بين الرغبةِ والرهبةِ، والرَّجاءِ والخوف، لا يَأْمَنُ فتنةً، ولا يعلم خَاتِمةً وعاقبةً.

ومِنْ أعظمِها: تتبُّع المتشابهاتِ، وجعلُها مِن المُحْكَمَات، وتَرْكُ المُحْكَمَاتِ وعدمُ الرد إليها، وهذا شامِلٌ لباب العقائِدِ والمعاملات والأحوال الشخصية، فمَنْ تتبَّع المتشابِهَ لأنَّه يُوافِقُ هواه، ويتَشَهَّى بالأخذِ في الأحكامِ، سواءً مِنْ زلَّات أهلِ الْعِلْمِ، أَوْ مِمَّنْ لا يُعرَفُ بالفقْهِ، فهو على خطرٍ عظيمٍ من الانتكاسةِ.

لنتأمَّلْ قولَ الله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7].

قال السعدي -رحمه الله-: «{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} أي: ميلٌ عن الاستقامةِ، بأن فَسَدَتْ مقاصِدُهم، وصارَ قصدُهم الغيَّ والضلالَ، وانحرفت قلوبُهم عن طريق الْهُدَى والرَّشاد، {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} أي: يتركون المُحْكَمَ الواضح ويذهبون إلى المتشَابِه، ويعكسون الأمرَ فيحملون المحْكَمَ على المتشابِهِ، {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} لمن يدْعُونَهم لقولِهم، فإن المتشابِهَ تحصُل به الفتنةُ بسبب الاشتباهِ الواقع فيه، وإلا فالمُحْكَمُ الصَّريحُ ليس مَحِلَّا للفتنةِ، لوضوح الحقِّ فيه لمن قصد اتِّبَاعَه»([8]).

ولهذا تأمَّل كيف ختَم اللهُ هذه القضيةَ في قولِه: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8] ، أي أنَّ هذا مِن أعظم الأسبابِ التي تُؤَدِّي إلى الزَّيْغ، والعياذُ بالله.

وعن  أبي هريرةَ -رضي الله عنه- أن رَسُول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «سَيَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي أُنَاسٌ يُحَدِّثُونَكُمْ مَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ، فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ لاَ يُضِلُّوكُمْ، وَلاَ يَفْتِنُوكُمْ». رواه مسلم([9]).

 

([1]) أخرجه أحمد (3/112، رقم 12128)، والترمذى (4/448، رقم 2140) وقال : حسن. والحاكم (1/707، رقم 1927) وقال : صحيح.

([2]) أخرجه البخاري (6/2445، رقم 6253).

([3]) أخرجه مسلم (4/2045، رقم 2654).

([4]) أخرجه مسلم (4/2086، رقم 2717).

([5]) أخرجه مسلم (4/2042، رقم 2651).

([6]) أخرجه البخاري (4/1737، رقم 4425)، ومسلم (4/2286، رقم 2980).

([7]) أخرجه مسلم (2/979، رقم 1343).

([8]) تفسير السعدي (ص 122).

([9]) أخرجه مسلم (1/12، رقم 6).

المرفقات

348931

348931

المشاهدات 802 | التعليقات 0