الامتنان والشكر
د. منال محمد أبو العزائم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:
الامتنان شعور جميل وصفة طيبة، وهي مرتبط بالشكر. فمن أسدى لك معروفاً تشعر تجاهه بالشكر والامتنان. وهي صفة الكرماء والمؤمنين. قال صلى الله عليه وسلم: (من لا يشكر الناس لا يشكر الله)[1]. وقال تعالى عن شكره في وصايا لقمان لابنه: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ۚ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)[2]. ومن يجحد بالمعروف لا يُرجَى منه خير. لأن الجحود صفة لا تتماشى مع التواضع والإيمان.
وأول من نشكره ونقابله بالامتنان والعرفان بالجميل هو الله تعالى؛ الذي أنعم علينا بنعمة الإسلام دون أن نبحث عنه. فقد قدر لنا أن نولد من أبوين مسلمين. وهذه أول وأكبر نعمة أعطانا إياها. وثانيها أن هيأ وقدر لنا أن نشكره. فهذه أيضاً من نعمه الجليلة التي حُرِم منها كثير من الناس. ونسميها نعمة لأن الله كتبها وقدرها ... ولا نستطيع عليها إلا بتوفيقه. حتى وإن كنا شاكرين فهو المتفضل علينا بهذا الشكر. فله الحمد والمنة. وثالث نعمه علينا هو وجوده وكونه ربنا وإعلامنا إياه بهذا الوجود. فلولا وجوده لأظلمت الحياة وأصابنا اليأس. فهو النور الهادي البديع، الذي نور حياتنا بنوره وجعلنا في زمرة عباده الذين يعرفونه. فكم من إنسان حُرِم من معرفة الله أو حتى من علمه بأنه موجود. وهؤلاء يعيشون كالموتى ... لأنه لا حياة بدون معرفة الله وعبادته. قال تعالى في شأن الكفار الذين لا يعرفونه: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ ۖ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ)[3]. فشبههم الله تعالى بالموتى ... لأنهم لم يحيوا بنوره ولا معرفته. ولذا ماتت قلوبهم وأظلمت حياتهم وتاهوا في ظلامها. قال تعالى: (أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[4]. وشكر الله هو واجب ومن أصل الدين، وليس كشكر الناس المستحب. بدليل أن الله أمر به واختبر به عباده، حيث قال: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ)[5]. وقال: (قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ۖ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ)[6]. فقرن عدم الشكر بالكفر. وذلك لأن الجحود فيه كفرٌ بنعمة الله وتغطية لها ونكران. ومن لا يشكر الله فهو إما غافل وفي خطر كبير أو مُتكبِّر وفي خطر أكبر. فبعد كل ما أغدق الله تعالى به عباده من نعم كيف يتسَّنَّى للعبد الفقير أن يتجاهل هذه النعم والإكراميات من الله وينسى أن يشكره. وهذه فقط أمثلة لما يستوجب الشكر والامتنان لله تعالى، وما لم يذكر فلا يحصى ولا يعد من كثرته. وشكر الله يزيد من نعمه وأفضاله. قال تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)[7]. فلنستزيد من شكره ونتنعم بأفضاله وننعم بوجود؛ فله الحمد والمنة.
وشكر الناس أيضاً مرغوب في الإسلام. فمن أسدى لك معروفاً أقل ما تقدمه له أن تقول له "جزاك الله خيرا". وهو هدٌي نبويٌ، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (من صنع إليه معروف فقال لفاعله جزاك الله خيرا فقد أبلغ في الثناء وفي رواية من أولى معروفا أو أسدي إليه معروف فقال للذي أسداه جزاك الله خيرا فقد أبلغ في الثناء)[8]. والإنسان الذي يشكر الناس متواضع وطيب القلب وكريم الطبع ويعرف للناس أفضالهم وأقدارهم ولا ينسى المعروف. فكم من جاحد أحسنت إليه، ثم ما أن انقطعت عنه لظروف حتى سلخك بلسانه ونسي أن كل ما أعطيته إنما كان تفضلاً منك ولا يجب عليك. فبدل أن يحفظ لك المعروف ويشكرك عليه تجده صار عدواً لك. ومنهم من أعطيته بحسب قدرتك البسيطة فلم يعجبه قلتها وصار يلمزك ويأكل في لحمك بلسانه الحاد. ومثله من قال الله تعالى فيهم: (وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ)[9]. وقد قال الناس في المثل: "اتق شر من أحسنت إليه". وهذا المثل يثبت نفسه أحيانا وربما لم يأت من اعتباط ... أو فلمَ قاله الناس؟! فكم لمسنا الأذى والسموم من أناس كنا نعدهم أحباباً في الله. وهم في الحقيقة حيات مسومة الألسنة ... يلدغون بها ثم يتفرقون ليختبئوا في جحور الأرض. فهؤلاء قلوبهم سوداء ولا يعرفون معروفاً. وماذا إن قطعت عنهم العطايا ... إنما كان عطاءك نفل لله، وليس هم المقصود به. ولكن شاء الله أن يصل ذلك المعروف لهم ... فهل ذلك يعطيهم الحق في التذمر وطول اللسان. ووجود أمثال هؤلاء يجعلك تقدر الإنسان الشكور وتعرف أنه كريم طيب. وما أقلهم في هذا الزمان. قال تعالى: (وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)[10]. فأوصيكم ونفسي بشكر الله أولاً، ثم شكر الناس على معروفهم حتى ولو قل أو إنقطع. فجزاهم الله خيراً. وجزى عنا نبينا وعلمائنا وجميع المسلمين كبارهم وصغارهم ورجالهم ونساءهم وأطفالهم خير الجزاء. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[1] أخرجه أبو داود (4811)، والترمذي (1954) واللفظ له، وأحمد (7504).
[2] لقمان 12.
[3] فاطر 22.
[4] الأنعام 122.
[5] البقرة 152,
[6] النمل 40.
[7] إبراهيم 7.
[8] ذكره المنذري في الترغيب والترهيب (2/102)، وخلاصة حكمه: إسناده صحيح أو حسن أو ما قاربهما. وأخرجه الترمذي (2035)، والنسائي في (السنن الكبرى) (10008).
[9] التوبة 58.
[10] سبأ 13.