الاكتفاء بالقرآن الكريم

الاكتفاء بالقرآن الكريم
15/4/1438
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا﴾ [الكهف: 1 - 3]، نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ دَلَّ عِبَادَهُ عَلَيْهِ، وَهَدَاهُمْ إِلَيْهِ، وَعَرَّفَهُمْ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ رَبُّهُمْ وَخَالِقُهُمْ، وَنَصَبَ الْأَدِلَّةَ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ، وَعَلَّمَهُمْ أَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ، فَلَا يَكْفُرُ بِهِ سُبْحَانَهُ إِلَّا جَاهِلٌ أَخْرَقُ، أَوْ مُعْرِضٌ مُسْتَكْبِرٌ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَرْسَلَهُ رَبُّهُ بِالْآيَاتِ، وَأَيَّدَهُ بِالْمُعْجِزَاتِ، وَجَعَلَ الْقُرْآنَ آيَتَهُ الْبَاقِيَةَ، وَمُعْجِزَتَهُ الْخَالِدَةَ، فَكَانَ كَذَلِكَ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا وَإِلَى مَا شَاءَ اللهُ تَعَالَى، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَأُوصِي نَفْسِي وَإِيَّاكُمْ بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى، وَصُحْبَةِ كِتَابِهِ الْكَرِيمِ؛ فَإِنَّهُ خَيْرُ صَاحِبٍ وَأَنِيسٍ؛ إِذْ هُوَ رَبِيعُ الْقُلُوبِ، وَشَارِحُ الصُّدُورِ، وَمُسْتَوْدَعُ الْعُلُومِ. غَرَفَ الْعُلَمَاءُ مِنْ عُلُومِهِ وَمَعَارِفِهِ وَلَا يَزَالُونَ يَغْرِفُونَ، بِشَتَّى اتِّجَاهَاتِهِمْ وَتَخَصُّصَاتِهِمْ، وَمُخْتَلَفِ أَزْمَانِهِمْ وَبِقَاعِهِمْ، فَمَا انْتَهَتْ عُلُومُهُ وَمَعَارِفُهُ، وَلَمْ يَخْلَقْ مِنْ كَثْرَةِ قِرَاءَتِهِ، وَلَمْ يَنْقُصْ أَعْدَادُ حُفَّاظِهِ وَقُرَّائِهِ، بَلْ يَزِيدُونَ وَيَزِيدُونَ؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ ﴿فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ﴾ [الطارق: 13- 14] ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت: 41- 42].
أَيُّهَا النَّاسُ: مِنْ أَعْظَمِ الْفَلَاحِ وَالنَّجَاحِ أَنْ يُوَفَّقَ الْعَبْدُ إِلَى مَا يَنْفَعُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَلَا نَفْعَ أَعْظَمَ مِنْ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى قِرَاءَةً وَحِفْظًا وَتَدَبُّرًا، وَعَمَلًا بِهِ، فَهُوَ يَكْفِي عَنْ غَيْرِهِ وَلَا يَكْفِي غَيْرُهُ عَنْهُ؛ إِذْ هُوَ كَلَامُ الْخَالِقِ الْبَارِئِ الْمُصَوِّرِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِعِبَادِهِ وَبِمَا يُصْلِحُهُمْ فِي حَيَاتِهِمْ وَبَعْدَ مَمَاتِهِمْ؛ وَلِذَا كَانَ الْقُرْآنُ الْآيَةَ الظَّاهِرَةَ، وَالْمُعْجِزَةَ الْخَالِدَةَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ تَحَدَّاهُمُ اللهُ تَعَالَى بِهِ مُنْذُ تَنَزُّلِهِ، وَلَا يَزَالُ التَّحْدِّي قَائِمًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَعَجَزَ الْبَشَرُ وَانْقَطَعُوا عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ.
طَلَبَ مُشْرِكُو مَكَّةَ الْآيَاتِ ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ ﴾ [العنكبوت: 50] ثُمَّ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ الِاكْتِفَاءَ بِالْقُرْآنِ عَنْ أَيِّ مُعْجِزَةٍ سِوَاهُ ﴿ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [العنكبوت: 51]. وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: ﴿ وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى﴾ [طه: 133].
وَفِي آيَةِ الِاكْتِفَاءِ بِالْقُرْآنِ عَجَائِبُ مِنَ الْإِعْجَازِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى عَظَمَةِ الْقُرْآنِ وَخُلُودِهِ، وَفِيهَا اسْتِفْهَامُ تَعَجُّبٍ وَإِنْكَارٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى أَنْ يَسْأَلَ أَهْلُ مَكَّةَ آيَةً مُعْجِزَةً، وَالْقُرْآنُ الَّذِي يُتْلَى عَلَيْهِمْ كُلُّهُ مُعْجِزٌ، وَكُلُّ سُورَةٍ مِنْهُ مُعْجِزَةٌ، وَآيَاتُهُ تَنْضَحُ بِالْإِعْجَازِ، فَهُوَ كَافِيهِمْ لَوْ عَقَلُوا.
وَكَوْنُ الْقُرْآنِ يُتْلَى عَلَى النَّاسِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى انْتِشَارِ إِعْجَازِهِ وَعُمُومِهِ فِي الْمَجَامِعِ وَالْآفَاقِ وَالْأَزْمَانِ الْمُخْتَلِفَةِ بِحَيْثُ لَا يَخْتَصُّ بِإِدْرَاكِ إِعْجَازِهِ فَرِيقٌ خَاصٌّ فِي زَمَنٍ خَاصٍّ، شَأْنَ الْمُعْجِزَاتِ الْمَشْهُودَةِ، مِثْلِ عَصَا مُوسَى وَنَاقَةِ صَالِحٍ، وَبُرْءِ الْأَكْمَهِ. فَهُوَ يُتْلَى، وَمِنْ ضِمْنِ تِلَاوَتِهِ الْآيَاتُ الَّتِي فِيهَا تَحَدٍّ أَنْ يَأْتِي أَحَدٌ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، فَهُوَ مُعْجِزَةٌ بَاقِيَةٌ وَالْمُعْجِزَاتُ الْأُخْرَى مُعْجِزَاتٌ زَائِلَةٌ. وَفِي هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا قَدْ أُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَى اللهُ إِلَيَّ..» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَلِأَنَّهُ يُتْلَى فِي الصَّلَوَاتِ الْجَهْرِيَّةِ فَإِنَّ هَذَا مِنَ الْإِعْجَازِ فِي بَقَائِهِ بِضَرُورَةِ حِفْظِهِ؛ إِذْ لَا صَلَاةَ إِلَّا بِآيَاتِهِ. وَكَذَلِكَ لَا يَسْتَطِيعُ مُبَدِّلٌ أَنْ يُبَدِّلَ كَلِمَةً مَكَانَ أُخْرَى أَوْ حَرْفًا بِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ يُتْلَىُ جَهْرًا يَجْعَلُ مَنْ يَسْمَعُ تَبْدِيلًا أَوْ تَحْرِيفًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يُصَحِّحُهُ فَوْرًا؛ لِأَنَّهُ كِتَابُ الْمُؤْمِنِينَ وَيَعْرِفُونَهُ، بَيْنَمَا كَانَ أَهْلُ الْكُتُبِ الْأُخْرَى لَا يَعْرِفُ كُتُبَهُمْ إِلَّا خَاصَّتُهُمْ فَسَهُلَ الْإِدْخَالُ فِيهَا وَتَحْرِيفُهَا.
وَلَا يُعْلَمُ فِي الدُّنْيَا كَلَامٌ يَكْتَسِبُ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْقَطْعِيَّةِ فِي نَقْلِهِ كَالْقُرْآنِ؛ فَإِنَّ حُفَّاظَ الْقُرْآنِ وَنُسَّاخَهُ -وَهُمْ بِالْمَلَايِينِ- يَتَنَاقَلُونَهُ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ نَسْخًا وَحِفْظًا. وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْإِعْجَازِ أَنْ تَتَوَاطَأَ أُمَّةٌ مِنْ مُخْتَلَفِ الْأَعْرَاقِ وَالْأَجْنَاسِ وَالْأَلْسُنِ وَالْبُلْدَانِ عَلَى كِتَاب وَاحِدٍ فَتَتَنَاقَلُهُ عَبْرَ الْأَجْيَالِ.
وَكَوْنُ الْقُرْآنِ مِمَّا يُتْلَى فَإِنَّهُ أَعْظَمُ إَعْجَازًا مِمَّا يُرَى؛ لِأَنَّ إِدْرَاكَ الْمَتْلُوِّ إِدْرَاكٌ عَقْلِيٌّ فِكْرِيٌّ وَهُوَ أَعْلَى مِنَ الْمُدْرَكَاتِ الْحِسِّيَّةِ، فَكَانَتْ مُعْجِزَةُ الْقُرْآنِ أَلْيَقَ بِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنْ عُصُورِ الْعِلْمِ الَّتِي تَهَيَّأَتْ إِلَيْهَا الْإِنْسَانِيَّةُ.
والْقُرْآنُ مَعَ كَوْنِهِ مُعْجِزَةً دَالَّةً عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُرْشِدَةً إِلَى تَصْدِيقِهِ فَهُوَ أَيْضًا وَسِيلَةُ عِلْمٍ وَتَشْرِيعٍ وَآدَابٍ لِلْمَتْلُوِّ عَلَيْهِمْ، وَبِذَلِكَ فَضَلَ غَيْرَهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ.
والْقُرْآنُ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَوَاعِظَ وَنُذُرٍ وَتَعْرِيفٍ بِعَوَاقِبِ الْأَعْمَالِ، وَإِعْدَادٍ إِلَى الْحَيَاةِ الثَّانِيَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ تَذْكِيرٌ بِمَا فِي تَذَكُّرِهِ خَيْرُ الدَّارَيْنِ؛ وَلِذَا نَوَّهَ فِي الْآيَةِ بِكَوْنِهِ ذِكْرَى ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [العنكبوت: 51].
وَكَوْنُ الْقُرْآنِ كِتَابًا مَتْلُوًّا فَإِنَّهُ يَسْتَطِيعُ إِدْرَاكَ خَصَائِصِهِ كُلُّ عَرَبِيٍّ، وَكُلُّ مَنْ حَذَقَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْ غَيْرِ الْعَرَبِ؛ فَلَيْسَ طَلَاسِمَ لَا تُعْرَفُ، وَلَا تَمْتَمَاتٍ لَا تَبِينُ، وَلَا جُمَلًا لَا تُفْهَمُ، كَكُتُبِ الدِّيَانَاتِ الْوَثَنِيَّةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ؛ وَلِذَا يُخْفُونَهَا عَنْ عَوَامِّهِمْ. وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَمَتْلُوٌّ فِي مُكَبِّرَاتِ الصَّوْتِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَفِي الْإِذَاعَاتِ وَالْفَضَائِيَّاتِ، وَيُرْفَعُ الصَّوْتُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مُعْجِزٌ فِي ذَاتِهِ وَجُمَلِهِ وَآيَاتِهِ، وَهُوَ شَرَفٌ يُفَاخِرُ بِهِ قَارِئُهُ وَلَا يَسْتَحِيي مِنْ إِظْهَارِهِ وَبَيَانِهِ ﴿وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ [النحل: 103].
يَا لِعَظَمَةِ الْقُرْآنِ حِينَ تَتَعَاقَبُ الْأَجْيَالُ عَلَى تَرْتِيلِهِ بِصَوْتٍ مَسْمُوعٍ عَبْرَ أَرْبَعَةَ عَشْرَ قَرْنًا، وَكُلُّ أَصْحَابِ الدِّيَانَاتِ الْمُخْتَرَعَةِ وَالْمُحَرَّفَةِ، وَالْفِرَقِ الْبَاطِنِيَّةِ الْمُنْحَرِفَةِ يَجْتَهِدُونَ فِي نَقْدِهِ فَلَا يَجِدُونَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُنْقَدَ بِهِ، وَفِيهِمْ فُحُولٌ فِي اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، وَعُلَمَاءُ فِي دِرَاسَةِ الْأَدْيَانِ وَمُقَارَنَتِهَا.
وَحِينَ أَخْرَجَ النَّصَارَى كُتُبَهُمْ ظَهَرَ مَا فِيهَا مِنَ التَّنَاقُضِ وَالتَّهَافُتِ الَّذِي عُيِّرُوا بِهِ فَلَمْ يُحِيرُوا جَوَابًا.
وَمِنْ دَلَائِلِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَالِاكْتِفَاءِ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ عِلْمُ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِهِ؛ لِأَنَّهُ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِهِمْ ﴿الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ﴾ [الأعراف: 157]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: ﴿أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الشعراء: 197] لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ كَتَمَهُ حَسَدًا، وَمِنْهُمْ مَنْ أَظْهَرَهُ وَآمَنَ بِهِ لَمَّا تُلِيَ عَلَيْهِ، وَفِي هَذا الصِّنْفِ قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا﴾ [القصص: 53].
إِنَّهُ الْقُرْآنُ الْكَافِي فِي كُلِّ شَيْءٍ، الْمُغْنِي فِي كُلِّ شَأْنٍ؛ فَهُوَ يَكْفِي فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ، وَأَخْبَارِ الْأُمَمِ الْغَابِرَةِ السَّحِيقَةِ، وَيَكْفِي فِي الدَّلَالَةِ عَلَى أَخْبَارِ الْغَيْبِ الْمَحْجُوبِ، وَالْمُسْتَقْبَلِ الْغَامِضِ الْمَخُوفِ؛ لِأَنَّ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ وَأَنْزَلَهُ هُوَ الَّذِي قَدَّرَ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ وَدَبَّرَهَا، فَهُوَ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِمَا وَقَعَ فِي الْمَاضِي، وَمَا يَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
وَالْقُرْآنُ يَكْفِي فِي التَّشْرِيعِ لِلْبَشَرِ؛ لِأَنَّهُ كَلَامُ اللهِ تَعَالَى الَّذِي خَلَقَ الْبَشَرَ، وَيُحِيطُ سُبْحَانَهُ بِهِمْ عِلْمًا، وَيَعْلَمُ مَا يَصْلُحُ لَهُمْ حُكْمًا وَشَرْعًا ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة: 50].
وَالْقُرْآنُ يَكْفِي فِي الْعَلَاقَاتِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْأُسَرِيَّةِ الَّتِي أُشْبِعَ الْحَدِيثُ عَنْهَا فِيهِ فِي سُوَرٍ كَثِيرَةٍ.
وَالْقُرْآنُ يَكْفِي فِي بَيَانِ حَقِيقَةِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ، وَكَيْفِيَّةِ التَّعَامُلِ مَعَهُمْ، وَلُزُومِ الْحَذَرِ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ كَشَفَ دَوَاخِلَ نُفُوسِهِمْ، وَأَظْهَرَ مَكْنُونَ قُلُوبِهِمْ، وَكُلُّ سِيَاسَةٍ مُخَالِفَةٍ لِلْقُرْآنِ فَعَاقِبَتُهَا خِذْلَانٌ وَخُسْرَانٌ.
وَالْقُرْآنُ يَكْفِي فِي بَيَانِ الْعَلَاقَاتِ التِّجَارِيَّةِ وَالِاقْتِصَادِيَّةِ، وَمَا يَحِلُّ مِنْهَا وَمَا يَحْرُمُ، وَالْحَيْدَةُ عَنْهُ خُرُوجٌ إِلَى الْمُحَرَّمِ الَّذِي لَنْ تَكُونَ عَاقِبَتُهُ إِلَّا إلِىَ كَسَادٍ وَقِلَّةٍ وَانْتِزَاعِ الْبَرَكَةِ مَهْمَا عَظُمَ الْمَالُ وَكَثُرَ.
وَالْقُرْآنُ دُسْتُورٌ فِي الْأَخْلَاقِ مَتِينٌ، وَدَلِيلٌ فِي الْفَضَائِلِ وَالرَّذَائِلِ دَقِيقٌ؛ لِأَنَّ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ وَأَنْزَلَهُ يَعْلَمُ مَا يُزَكِّي النَّفْسَ الْبَشَرِيَّةَ وَيَسْمُو بِهَا، وَمَا يُلَوِّثُهَا وَيُرْدِيهَا وَيَسْفُلُ بِهَا.
فَهُوَ كِتَابٌ يَكْفِي مَنِ اسْتَكْفَى بِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَيَرْفَعُ شَأْنَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾ [النمل: 6].
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ...
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاكْتَفُوا بِكِتَابِهِ الْكَرِيمِ ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص: 29] .
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: ادَّعَى بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُمْ يَكْتَفُونَ بِالْقُرْآنِ عَنِ السُّنَّةِ بِنَاءً عَلَى آيَةِ الِاكْتِفَاءِ بِالْقُرْآنِ، وَهَذَا الصِّنْفُ مِنَ الْجَهَلَةِ لَمْ يَأْخُذُوا بِالْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ أَحَالَ عَلَى السُّنَّةِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: 7].
وَادَّعَى أُنَاسٌ أَنَّهُمْ يَكْتَفُونَ بِالْقُرْآنِ دُونَ الرُّجُوعِ لِلْعُلَمَاءِ. وَرَأَى بَعْضُهُمْ أَنَّ التَّقْنِيَةَ الْحَدِيثَةَ سَهَّلَتِ الْوُصُولَ لِلْمَعْلُومَةِ الشَّرْعِيَّةِ عَنْ طَرِيق مُحَرِّكَاتِ الْبَحْثِ دُونَ الْحَاجَةِ لِلْعُلَمَاءِ وَلِلتَّخَصُّصَاتِ الشَّرْعِيَّةِ. وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَأْخُذُوا بِالْقُرْآنِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ أَحَالَ عَلَى الْعُلَمَاءِ فِيمَا يُجْهَلُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43].
وَكَثِيرٌ مِمَّنْ يُعَارِضُونَ أَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ، وَيُحَاوِلُونَ إِلْغَاءَهَا؛ لِإِرْضَاءِ الْقُوَى الِاسْتِعْمَارِيَّةِ الْمُهَيْمِنَةِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكْتَفُوا بِالْقُرْآنِ، وَيُعَارِضُونَهُ بِشِدَّةٍ، وَقَدْ رَضُوا لِأَنْفُسِهِمْ أَنْ يَكُونُوا خُصُومَهُ، وَالْقُرْآنُ غَالِبُهُمْ لَا مَحَالَةَ، كَمَا غَلَبَ الْأُمَمَ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَهُمْ. وَلَنْ تُهْزَمَ أُمَّةٌ مَا دَامَ الْقُرْآنُ فِيهَا، يُلَقَّنُ أَطْفَالُهَا فَيَحْفَظُونَهُ، وَيَشِبُّ عَلَيْهِ شَبَابُهَا، وَيَهْرَمُ عَلَى قِرَاءَتِهِ شُيُوخُهَا، فَهِيَ أُمَّةٌ غَالِبَةٌ لِكُلِّ الْأُمَمِ؛ لِأَنَّ مَنِ اكْتَفَى بِالْقُرْآنِ عَنْ غَيْرِهِ نَالَ كِفَايَتَهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَمَنِ اسْتَبْدَلَ بِهِ غَيْرَهُ ضَل سَعْيُهُ، وَعَادَ أَمْرُهُ عَلَيْهِ وَبَالًا ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ [محمد: 38].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكم...
المرفقات

الاكتفاء بالقرآن الكريم-مشكولة.doc

الاكتفاء بالقرآن الكريم-مشكولة.doc

الاكتفاء بالقرآن الكريم.doc

الاكتفاء بالقرآن الكريم.doc

المشاهدات 2103 | التعليقات 3

جزاك الله خيرا


احسنت يا بطل


شكر الله تعالى لكما