الاقتصاد نصف المعيشة

1437/03/20 - 2015/12/31 20:19PM
هذه خطبة جمعتها من عندة خطب نسأل الله أن ينفع بها

الخطبة الأولى :

أيها المسلمون .. حين نريد أن نصف أمة بقوتها وفضلها .. فبدون شك لن نتحدث عن أصناف الأطعمة التي تشتهر بها ولا عن المراكب والملابس .. والقوة ليست في ما تملكة من كماليات .
الفضل بعد الإيمان بالله وتوحيده أن يكون في البلاد رجال سليمة ابدانهم ، مضيئة أبصارهم ، مضاءة عزائمهم .
والقوة بعد الإيمان بالله وتوحيده يكونُ باقتصاد قوي ، ولا يكونُ الاتقتصاد قويا إلا حين يكونُ ما توفره أكثرَ مما يُصرف ويستهلك ؛ وما توفره الأمة وتحافظ عليه من قُوتِها وإنتاجِها هو قوةٌ لها ولأجيالِها.
ونبينا عليه الصلاة والسلام وأصحابُه رضوان الله عنهم كان طعامُهم في أغلَب أيامِهم الأسودَيْن : التمر والماء، وهم الذين فتَحوا الفُتوحات ومصَّروا الأمصار، وإدارةُ تموين جيوشِهم لا تُقدِّم لهم في أغلب أيامِهم سوى جِرابٍ من تمرٍ وقليلٍ من الماء .
نعم .. تعظُم الأمة دولةً وشعبًا، وترقَى في سماء العزَّة والمنَعة جماعاتٍ وأفرادًا بِخصالٍ من أكبرها: الاقتصادُ في الإنفاق، والترشيدُ في الاستِهلاك .
أما الإسرافُ والتبذيرُ والإفراطُ في الاستِهلاك فما هو إلا استِسلامٌ للشهوات والملذَّات، وانقِيادٌ للأهواء والرَّغبَات، من غير مُراعاةٍ للمصالح، ولا تقديرٍ للعواقِب، ولا حفظٍ للمُروءات، ولا مُراعاةٍ للحُقوق.
الإسرافُ عدوُّ حفظِ الأموال والموارِد، وهو طريقُ الفقر والإفلاس. حفظُ المال حفظٌ للدين والعِرض والشَّرَف، وقد قالت الحُكماء : من حفِظَ مالَه فقد حفِظَ الأكرَمَيْن : الدينَ والعِرض .
وخاطبَ حكيمٌ بعضَ أقربائِه قائلاً : لأن تبيتُوا جِياعًا لكم مالُ خيرٌ من أن تبيتُوا شِباعًا لا مالَ لكم .
وعمرُ الفاروقُ رضي الله عنه يقول : الخرَقُ في المعيشة أخوفُ عندي عليكم من العوَز، ولا يقلُّ شيءٌ مع الإصلاح، ولا يبقَى شيءٌ مع الفساد، وحُسنُ التدبير في المعيشة أفضلُ من نصفِ الكسْبِ .
الغنى والثراء ووفرة المال لا يكون بكثرة الموارد فقط بل بضبط الاقتصاد وحفظ الثروات والكف عن العبث والإسراف .
الإسرافُ: جهلٌ بمقادِر الحقوق، وجهلٌ بمواضِعِها ومواقِعِها. والإسرافُ: صرفٌ فيما لا ينبَغي، وصرفُ ما ينبغي زائدًا على ما لا ينبغي.
وحين أباحَ لنا دينُنا الطيبات، وامتنَّ علينا ربُّنا بالزينة نهانا عن الإسراف، فقال عزَّ شأنُه (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) .
يقول وهبُ بن مُنبِّه : من السَّرَف: أن يلبَسَ الإنسانُ ويأكل ويشرَب مما ليس عنده، وما جاوزَ الكفافَ فهو تبذير .
عباد الله .. تأمَّلوا هذا الحديث : أضافَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كافرًا، فأمرَ له بشاةٍ فحُلِبَت، فشرِبَ حِلابَها، ثم أخرى فشرِبَ حِلابَها، حتى شرِبَ حِلابَ سبع شِياه، ثم أصبحَ فأسلمَ، فأمرَ له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بشاةٍ فشرِبَ حِلابَها، ثم أخرى فلم يستتِمَّه، فقال رسولُ الله «إن المؤمن ليشرَبُ في معِيٍّ واحد، والكافر يشرَبُ في سبعة أمعاء» .
يقول الحافظُ ابن رجب رحمه الله: "إن المؤمن يأكل بأدب الشّرع، فيأكلُ في معِيٍّ واحدٍ، والكافرُ يأكل بمُقتضى الشهوة والشَّرَهِ والنَّهَم، فيأكلُ في سبعة أمعاءٍ".
تأمَّلوا -رحمكم الله- هذه السبعةَ الأمعاء وما عليه أهل هذا العصر حين سادَت المادَّة وحبُّ المادة من الصَّرف الباذِخ والإحصائيَّات الآثِمة في الاستِهلاك، مما يُلقَى في صناديق القِمامة ومُلقَى النِّفايات، لم يكن لها سببٌ إلا الإسرافُ والتبذير، ومنهجُ السبعة الأمعاء .
وللإسف أن من الملفت استِرسالَ الناس في الإسراف، فترَى الواجِدَ يُسرِف، والذي لا يجِدُ يقترِضُ من أجل أن يُسرِف، ويصرِف على ما لا يحتاجُه .
البعض يشتكي من زيادة عشرة ريالات في الوقود أو الكهرباء أو الماء وهو يشتري وجبة عشاء بثلاثين ريـالا يأكل ربعها ويرمي الباقي .
عباد الله .. إن من جالِبات الهُموم والغُموم للبيوت: التفاخُرَ في الإنفاق، والمُباهاة في الصَّرف، في تنافُسٍ مُشين، وإسرافٍ ظاهرٍ، مما يقودُ إلى تراكُم الديون، وإثقال الكواهِل، وفساد الأمزِجة؛ بل قد يقودُ إلى أكل الحرام، وفساد الذِّمَم، والتقصير في جنبِ الله. يستَدينُ ليُسافِر، ويقترِض ليُقيمَ حفلاتٍ باذِخة، ما قادَه إلى ذلك إلا المُباهاة أو العاداتُ السيِّئة، مما أثقَلَ كواهِلَ أرباب الأُسَر ونغَّصَ عيشَهم لسنواتٍ وسنواتٍ؛ بل إن لم يكن مدَى الحياة. وما كان ذلك إلا بسبب الإسراف والتبذير وعدم الترشِيد.
إن البيوت التي تُمعِنُ في التشبُّع والامتِلاء، وتبتكِرُ من وسائل الطَّهي وأنواع المآكِل وضُروب التجديد والتطوير في المُستهلَكات لا تصلحُ لأعمالٍ جليلة، ولا تُرشَّحُ هِمَمهم لبذلٍ أو تضحية.
يقول ابنُ هُبَيْرة: "لا ينبغي للمُسلم أن يتناوَل فوق حاجتِه؛ لأنه قُوتُه وقوتُ غيره، فالقسمةُ بينَه وبين غيرِه لم يُمكن تقديرُها إلا بالإشاعة بحسب الاحتِياج، فإذا أخذَ من شيءٍ هو مشاعٌ بينَه وبين غيره أكثرَ من حاجته فقد ظلمَ غيرَه بمقدار التفاوُت".
وهذا القاعدة العظيمة من الوزير الحكيم ابن هبيرة لا تقتصر على الطعام فقط بل تشمل كل شيء يشترك الناس فيه : في أرض أو خدمة أو هواء أو ماء .
وقيل لسمُرة بن جُندب : إن ابنَك باتَ البارِحة بشمًا.-أي اصابته التخمة من الطعام- قال: أما لو ماتَ لم أُصلِّ عليه. يقول شيخُ الإسلام ابن تيمية مُعلِّقًا: "يعني: أنه أعانَ على قتل نفسِه، فيكونُ كقاتِل نفسِه".
ويقول أبو إسحاق النظَّام: رآني جارِي المروَزي وقد مصَصتُ قصبَ سُكّر، فجمعتُ ما مصَصتُ ماءه لأرمِيَ به. فقال: إن كنت لا تنُّور لك ولا عِيال، فهَبْه لمن له تنُّورٌ وعِيال، وإياك أن تُعوِّد نفسَك هذه العادَة في أيام خِفَّة ظهرِك؛ فإنك لا تدرِي ما يأتيك من العِيال، وتضييعُ القليل يجرُّ إلى تضييع الكثير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ؛ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن وآلاه .
أما بعد عباد الله .. فاتقوا الله وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ ، الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ .
عباد الله .. تمر الأمم والدول والشركات والأفراد بمراحل اقتصادية بين زيادة ونقص وبين وفرة وقلة .. والعاقل من يديرها ويتعامل معها بحكمة في كلا الحالتين فلا يسرف في الوفرة ولا تقضي عليه الأزمة والنقص .
إن جل المشاكل الاقتصادية تكمن فيما اعتادة البعض من مستوى معيشة فيها زيادة ومبالغة في المأكل والمشرب والملبس والمراكب ، كثيرٌ منها لا يصل إلى مستوى الحاجات فضلاً عن الضرورات، وأكثرها من التحسينات ولكماليات وما هو دونها ، وكلها تستهلك من إيرادات الناس وأموالهم فتسمع الشكوى من قلة الدخل وإن كان كثيرا، ومن كثرة المصاريف ولو كان أكثرها ليس له حاجة .
إن جل الأزمة ليست أقتصادية بل هي أزمة أخلاقية وسوء تدبير وتبذير للأموال في التفاهات إن لم تكن في المحرامات وإن كان الإسراف منهي عنه فكذا البخل (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا) .
وقال عليه الصلاة والسلام ثلاث منجيات وذكر منها "والقصد في الغنى والفقر" .
وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : الإقتصاد في النفقة نصف المعيشة، وما عال من اقتصد .
ومن توجيهات الدين الاقتصاد في الإنفاق بل رتب على ذلك أجورا وثوابا عليه قال تعالى (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) فهذا أمر من الله تعالى بالإنفاق على قدر الرزق، ووعدٌ منه سبحانه للفقير باليُسر بعد العسر إذا أنفق على قدر رزقه .
وقال عليه الصلاة والسلام " إذا أنفقتِ المرأةُ من طعامِ بيتها ، غيرُ مُفْسِدَةٍ ، كان لها أجرُهَا بما أنفقتْ ، ولزوجها أجرُهُ بما كَسَبَ ، وللخازِنِ مثلُ ذلكَ ، لا يُنْقِصُ بعضَهُمْ أجْرَ بعضٍ شيئًا " .
فحاجة كثير من الناس إن لم يكن كلهم ليست لزيادة الموارد والدخل وكثرته بل يحتاجون إلى التدبير في المعيشة والاقتصاد فيها .. وقبل ذلك وبعده البركة من الله فيما يرزقهم .. نسأل الله أن يوسع لنا في أرزاقنا ويبارك لنا فيها .
المشاهدات 2711 | التعليقات 2

الله يفتح عليك


جزاك الله خيرا ونسأل الله أن ينفعنا بما نقول ونسمع