الافتقار إلى الله (خطبة استسقاء)
عبدالمحسن بن محمد العامر
الحمد لله الحكيمِ بعطاه، العادلِ فيما قضاه، الكريمِ فيما أولاه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له؛ شهادةً نرجو بها رضاه، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله ومصطفاه، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وصحبه ومن والاه، إلى يوم يبلغ الأمر منتهاه أما بعد:
فيا عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فالمتقون موعودون بخيرٍ من كلِّ زينةِ الدنيا ومتاعِها (قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد)
معاشر المؤمنين: الاستسقاء افتقار إلى الله وانطراح بين يديه، واعتراف بالذنب، وإذعانٌ بالحاجة المطلقة، والفقر التام إلى صاحب القوّة المطلقة والغنى التام.
الاستسقاء: تبرؤ من الحول والقوة، وإيمان تامٌ بصاحب الحول والقوة.
الاستسقاء: استغناء بالغني عمن سواه، واستكفاء بالكافي، واستقواء بالقوي، واسترحام بالرحيم، واستغفارُ الغفورِ الغفّار، والتجاء إلى من لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه
الاستسقاء: توكّل على الوكيل، وحسن ظنٍّ بالكريم، وترقب للفرج من الرب اللطيف.
يخرجُ العبادُ يستسقون ربهم وهم مقرّون مذعنون معترفون؛ بأن ذنوبهم حالت بينهم وبين رزق ربهم.
يخرج العباد لصلاة الاستسقاء؛ دافعهم التقوى وحاديهم الاستقامة، منتظرين الفرج من الله، متعبدين إلى الله بهذا الانتظارِ والترقُّبِ، متحيّنينَ ساعةَ رحمةٍ ومغفرةٍ، لا تُؤيّسهم القُحُوط ، ولا يُبلِّسُهم القنوط.
معاشر المؤمنين: لا يكون الاستسقاء إلا بعبادة الذلّ والافتقار إلى الله، وبالقلوب المنكسرة، والنفوس الخاضعة، والأرواح المستكينة، قال ابن القيم رحمه الله: (من أخص خصائص العبودية: الافتقار المطلق لله تعالى، فهو: "حقيقة العبودية ولبُّها) وقال: (الفقر الحقيقي: دوام الافتقار إلى الله في كل حال، وأن يشهدَ العبدُ في كلِّ ذرةٍ من ذرّاته الظاهرةِ والباطنةِ؛ فاقةً تامةً إلى الله تعالى من كل وجه)
عباد الله: مقتضى الافتقارِ إلى الله: ألا يركنَ العبدُ إلى نفسه، ولا يطمئنَ إلى حوله وقوته، ولا يثقَ بماله وجاهه وصحته، ولهذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه: (اللهم لا تَكِلْهُمْ إليَّ فأضْعُف، ولا تَكِلْهُمْ إلى أنفسهم فيعجزوا عنها، ولا تَكِلْهُمْ إلى الناس فيستأثروا عليهم) رواه الإمام أحمد وأبو داود وصححه الألباني، وقال صلى الله عليه وسلم: (دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو؛ فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، أصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت) رواه الإمام أحمد وأبو داود وحسنه الألباني،
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها: (ما يمنعك أن تسمعي ما أوصيك به؟! أن تقولي إذا أصبحتِ وإذا أمسيتِ: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً) رواه ابن السني في عمل اليوم والله وحسنه الألباني.
ومتى ما شعر العبد بغناه، وضَعُفَ افتقارُه إلى الله، واستقوى بحوله وقوّته؛ فهو إلى الطغيان أقرب، وبالعقوبة أجدر، ففرعون قال: (يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَ هَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) وصاحب الجنتين قاده سوءُ تفكيرِه وتقديرِه إلى الطغيان (وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَاْلَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىْ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا) وهكذا أنسى الشعورُ بالاستغناءِ قارونَ كلَّ حوادثِ التاريخ وسُنَنَ الحياة وتجارِبَ الأمم، وجرّه ذلك إلى أن قال (إنما أوتيته على علم عندي) إنّه شعور زائف كاذب يجرّ إلى الطغيان والكفران ( كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى) ....
اللهم إنا نسألك لذّةَ الذلّ بين يديك ويقينَ الافتقار إليك يا ذا الجلال والإكرام..
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا ..
اللهم اسقِنا، اللهم اسقِنا، اللهم اسقِنا ..
للهم اسقِ عبادَك وبهائمك، وانشُرْ رحمتَك، وأحيِ بلدَك الميت ..
اللهم اسقِنا غيثًا مغيثًا، هنيئًا مريئًا، مريعًا غدَقًا، مجلِّلاً عامًّا، طبقًا سحًّا دائمًا، اللهم اسقِنا الغيث، ولا تجعَلْنا من القانطين، اللهم إن بالعباد والبلاد والبهائم والخَلْق من اللأواءِ والجَهد والضنك ما لا نشكو إلا إليك، اللهم أنبِتْ لنا الزرع، وأدِرَّ لنا الضرع، واسقِنا من بركات السماء، وأنبِتْ لنا من بركات الأرض، اللهم ارفع عنا الجَهدَ والجوع والعُرْيَ، واكشف عنا مِن البلاء ما لا يكشفه غيرُك، اللهم إنا نستغفِرُك إنك كنتَ غفارًا؛ فأرسلِ السماءَ علينا مِدرارًا ..
اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمرنا ووفقهم لما تحب وترضى ياذا الجلال والإكرام.
اللهم احفظ بلادنا وولاة أمرنا وأنزل علينا من رحماتك وبركاتك يا أرحم الراحمين.
اللهم صل على نبينا وعلى آله وصحبه أجمعين