الافتقار إلى الله تعالى معناه وفضله
عبدالرحمن سليمان المصري
الافتقار إلى الله تعالى
الخطبة الأولى
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾ ، وأشهدُ أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ مُحمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا ، أما بعد :
أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى فهي وصية الله للأولين والآخرين ، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ النساء : 131 .
عباد الله :
خلق الله الخلق بقدرته، وكتب آجالهم وأرزاقهم بحكمته ، شهدت له بالربوبية جميع مخلوقاته ، وأقرت له بالألوهية جميع مصنوعاته ، والله جلّ جلاله غني عن خلقه وأعمالِهم ، فلم يخلقِ الخلقَ من قلةٍ ليستكثر بهم ، ولا من ضعفٍ ليستقوي بهم ، ولا من ذلةٍ ليستعزّ بهم ، ولا من فقرٍ ليستغني بهم ، فهو سبحانه الغنيُّ وحده ، والمالكُ وحده ، والمدبرُ وحده ، والرازقُ وحده ، وهو المستحقُ للعبادةِ وحده ، هو المعطيْ المانع ، المعزِّ المذل ، الخافضِ الرافع ، والناس كلُّهُم مؤمنهم وكافرهم ، برهم وفاجرهم ، إنسهم وجنُّهم ، لا غنى لهم عن ربهم طرفة عين .
عباد الله :
والغني اسم من أسمائه سبحانه ، وهو الغني بذاته ، الذي له الغنى التام المطلق من جميع الوجوه ؛ لكماله وكمال صفاته ، لا يتطرق إليه نقصٌ بوجه من الوجوه ،﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ فاطر:15.
ومن كمال غناه أنه لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً ، ولا شريكاً في الملك ، ولا ولياً من الذل .
ومن كمال غناه أنّه يأمر عباده بدعائه، ويعدهم بإجابة دعواتهم ، وإسعافهم بجميع مُراداتهم ، ويؤتيهم من فضله ما سألوه وما لم يسألوه.
ومن كمال غناه أنه لو اجتمع أول الخلق وآخِرِهِم في صعيدٍ واحد فسألوه ، فأعطى كل واحد منهم ما سأله ، وما بلغت أمانيه ، ما نقص من ملكه مثقال ذرّة ، فعطاؤُهُ سبحانه لا يمتنع ، ومَددُهُ لا ينقطع، وخزائنه ملآى لا تنفَد ، قال صلى الله عليه وسلم " أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ مَا فِي يَمِينِهِ " رواه البخاري.
عباد الله
: والمخلوقاتُ مُفتَقِرةٌ إلى الله سبحانه في وجودها، وفي قيامِها ومعاشها ، وفي حركتها وسكونها ، فلا قُوام لشيءٍ في الكونِ إلا به سبحانه ، أما ما دونه من المخلوقات والمعبودات ، فلا يملكون لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا ، وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا ، قال تعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام :﴿ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ﴾ الشعراء:75-82 .
عباد الله :
وحقيقة الافتقار هو : دوامُ الحاجة إلى الله على جميع الأحوال ، وملازمةِ السُّنّةِ في جميع الأفعال، وطلبِ القُوتِ من وجهٍ حلالٍ ، مع التذلل والاستسلام لأمر الله ونهيه ، قال تعالى:﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾الأنعام:161 .
عباد الله :
إن المتأمل في جميع أنواع العباداتِ القلبيةِ والعملية ، يرى أن الافتقارَ إلى اللهِ هي الصفةُ الجامعةُ لها ، فبقدر افتقار العبد فيها إلى الله يكون أثرها في قلبه، ونفعها له في الدنيا والآخرة ، وأكمل الخلق عبودية: هو أعظمهم ذلاًّ لله وطاعةً ، مع كمالِ المحبةِ لهُ سبحانه .
عباد الله :
وقد يظهر الذلُ لدى المسلم في عبادة أعظم منه في عبادة أخرى , وأجلُّ العباداتِ التي فيها عظيمَ الذلِّ والخضوعِ لله ، هو في الصلاة المفروضة , وأشرفُ ما يظهرُ فيه ذلُّ العبدِ في حالِ السجود ، لذا جاء في الحديث " أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ " رواه مسلم .
عباد الله :
ومن مقاماتِ العبوديةِ التي يظهرُ فيها الافتقارُ إلى اللهِ تعالى : الدعاء ، وخاصةً بوصف حال الداعي وأنه محتاج ومضطر إلى الله تعالى ، كما قال موسى عليه السلام : ﴿ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾ النمل: 24 .
وكما قال تعالى عن أيوب عليه السلام : ﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ الأنبياء: 83
ونبينا صلى الله عليه وسلم بعد وفاة عمه أبو طالب ، ازداد أذى قريش له ، فخرج من مكة يعرض دين الإسلام على القرى القريبة ، فلم يجبه أحد ، حتى عاد كئيبا محزونا كسير القلب ، فروي أنه قال : " اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي ، إلى من تكلني ، إلى بعيد يتجهمني ، أم إلى عدو ملكته أمري ، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، من أن تُنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك "
فلما بلغ قرن المنازل بعث الله إليه جبريل عليه السلام ومعه ملك الجبال ، يستأمره أن يطبق الأخشبين على أهل مكة -وهما الجبلان المحيطان بمكة- ، فقال صلى الله عليه وسلم : بل أرجو أن يُخرج اللهُ من أصلابهم ، من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا ".
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا : أما بعد :
عباد الله :
إن إظهار الافتقار والاحتياج لله تعالى ، من أخص خصوصيات العبودية ، يُظهر المخلوقُ عجزه وحاجته إلى ربه ، والافتقار الاضطراري ، كل الخلائق تلوذُ وتفزع إلى خالقها ؛ إذا وقعوا في الكُرب والمهالك ، مهما بلغ به من الكِبْرِ ووهمِ الاستغناء .
وأما الافتقار الاختياري، فهذا محمودٌ صاحبُهُ ومُوفَّقٌ فاعِلُهُ ، فيُحدِّث نفسه ويذكِّرها دومًا ، بافتقارها لمولاها، والله يُحب أن يَسأَلَهُ العبادُ جميع مصالح دينهم ودنياهم ، من الطعام والشراب والكسوة وغير ذلك ، كما يسألونه الهداية والمغفرة ، قال صلى الله عليه وسلم :فيما يرويه عن ربه: " يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي " رواه مسلم.
عباد الله :
وكان بعض السلف يسأل الله في صلاته كل حوائجه حتى ملح عجينه وعلف شاته أ.هـ، فإنَّ كلَّ ما يحتاجُ إليه العبدُ ، إذا سألَهُ من الله فقد أظهرَ حاجتَهُ وافتقارَهُ إليه ، وذاك يحبُهُ اللهُ ، فاعرفوا لله تعالى حقَّهُ ، وأقرّوا بفضله ، وتبرئوا من كل حول وقوة إلا بالله تعالى ؛ فإن ذلك التبرؤ كنز من كنوز الجنة ؛ لأن فيه اعترافا بالفقر الدائم إلى الله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم يا عبد الله بن قيس، أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَةٍ ، هِيَ كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ " رواه البخاري.
فليتأمل المسلم في نفسِهِ وحالِهِ ، فسَيَجدُ عظيمَ فقرهِ لربهِ ، وإنْ سَتَرَ ذلك ما سَتَر ، منْ نِعَمِ اللهِ تعالى التي توالتْ عليهِ ، فظنَّ أنهُ قد استغنى واكتفى ، وقد أوجده الله من العدم ، قال تعالى : ﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ﴾الإنسان :1 .
هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه ، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ ،
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .