الاعتزاز بالإسلام 1

أحمد بن عبدالله الحزيمي
1438/02/18 - 2016/11/18 06:16AM
خطبة الاعتزاز بالإسلام (1)
الْحَمْدُ لِلَّهِ؛ مَالِكِ الْمُلْكِ، وَخَالِقِ الْخَلْقِ، وَمُدَبِّرِ الْأَمْرِ، يَرْفَعُ مَنْ يَشَاءُ بِفَضْلِهِ، وَيَضَعُ مَنْ يَشَاءُ بِعَدْلِهِ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، نَحْمَدُهُ عَلَى نِعْمَةِ الْإِسْلامِ، وَنَشْكُرُهُ إِذْ جَعَلَنَا مِنْ أُمَّةِ خَيْرِ الْأَنَامِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، رَفَعَ بِدِينِهِ أَقْوَامًا وَوَضَعَ آخَرِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ اعْتَزَّ بِاللهِ تَعَالَى رَبًّا، وَفَاخَرَ بِالْإِسْلامِ دِينًا، وَعَلَّمَ أَصْحَابَهُ الْفَخْرَ بِهِ عَلانِيَةً وَجَهْرًا، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. أَمَّا بَعْدُ:
فَأُوصِيكُمْ -أَيُّهَا النَّاسُ- وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالاِسْتِغَاثَةِ بِهِ، وَالاِعْتِمَادِ عَلَيْهِ، وَالتَّذَلُّلِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَبِذَلِكَ تَكُونُ الرِّفْعَةُ، وَتَحْصُلُ الْمِنَّةُ، وَتُنَالُ الدَّرَجَةُ، وَتَكُونُ الْعَاقِبَةُ الْمَحْمُودَةُ فِي الْأُوْلَى وَالْأُخْرَى {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}.
عِبَادَ اللَّهِ... خَرَجَ عُمَرُ الْفَارُوقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِلَى الشَّامِ وَمَعَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ فَأَتَوْا عَلَى مَخَاضَةٍ، وَعُمَرُ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ، فَنَزَلَ عُمَرُ وَخَلَعَ خُفَّيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَلَى عَاتِقِهِ، وَأَخَذَ بِزِمَامِ نَاقَتِهِ فَخَاضَ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْتَ تَفْعَلُ هَذَا، تَخْلَعُ خُفَّيْكَ وَتَضَعُهُمَا عَلَى عَاتِقِكَ، وَتَأْخُذُ بِزِمَامِ نَاقَتِكَ، وَتَخُوضُ بِهَا الْمَخَاضَةَ؟ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ أَهْلَ الْبَلَدِ اسْتَشْرَفُوكَ" –أَيْ: رَأَوْكَ- فَقَالَ عُمَرُ: "أَوَّهْ! لَو يَقُلْ هَذَا غَيْرُكَ أَبَا عُبَيْدَةَ؛ جَعَلْتُهُ نَكَالاً لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّا كُنَّا أَذَلَّ قَوْمٍ فَأَعَزَّنَا اللَّهُ بِالإِسْلاَمِ، فَمَهْمَا نَطْلُبُ الْعِزَّةَ بِغَيْرِ مَا أَعَزَّنَا اللَّهُ بِهِ أَذَلَّنَا اللَّهُ" رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ -أَخْرَجَهَا ابْنُ الْمُبَارَكِ- قَالَ عُمَرُ: "إِنَّكُمْ كُنْتُمْ أَذَلَّ النَّاسِ، وَأَقَلَّ النَّاسِ، وَأَحْقَرَ النَّاسِ، فَأَعَزَّكُمُ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ، فَمَهْمَا تَطْلُبُوا الْعِزَّ بِغَيْرِهِ يُذِلَّكُمُ اللَّهُ".
عِبَادَ اللَّهِ... إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْمِنَنِ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يُوَفَّقَ إِلَى دِينٍ عَظِيمٍ كَدِينِ الْإِسْلامِ، وَمِنْ حَقِّ شَخْصٍ يَدِينُ بِهَذَا الدِّينِ الْعَظِيمِ أَنْ يُفَاخِرَ بِهِ عَلَى غَيْرِه مِنَ الْأَدْيَانِ. فَمُجَرَّدُ أَنَّكَ مُسْلِمٌ هَذِهِ تَكْفِيكَ لِتُكْسِبَكَ الْعِزَّةَ، فَلَا اعْتِزَازَ بِجِنْسٍ، وَلَا اعْتِزازَ بِلَوْنٍ، وَلَا اعْتِزَازَ بِنَسَبٍ، وَلَا بِبَلَدٍ وَلَا اعْتِزَازَ بِلُغَةٍ، وَلاَ افْتِخَارَ بِمَالٍ أَوْ ثَرْوَةٍ، فَكُلُّهَا عِزَّةٌ جَوْفَاءُ، تَقُومُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ، تَقُومُ عَلَى تَصَوُّرَاتٍ خَاطِئَةٍ وَقِيَمٍ زَائِلَةٍ. أَمَّا الاعْتِزَازُ بِاللهِ فَبَاقٍ دَائِمًا لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ}.
وَقَدْ لَخَّصَ رِبْعِيُّ بْنُ عَامِرٍ هَذِهِ الْعِزَّةَ فِي مَعْرَكَةِ الْقَادِسِيَّةِ حِينَمَا دَخَلَ عَلَى رُسْتُمَ الْكَافِرِ بِفَرَسِهِ لِيُلَقِّنَهُ وَيُلَقِّنَ التَّارِيخَ دَرْسًا فِي الافْتِخَارِ بالدِّينِ، فَقَالَ لَهُ رُسْتُمُ: مَا جَاءَ بِكُمْ؟ فَقَالَ رِبْعِيُّ بْنُ عَامِرٍ بِعِزَّةِ الْمُسْلِمِ: "اللَّهُ ابْتَعَثْنَا لِنُخْرِجَ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، وَمِنْ ضِيقِ الدُّنْيَا إِلَى سِعَتِهَا، وَمِنْ جَوْرِ الْأَدْيَانِ إِلَى عَدْلِ الْإِسْلَامِ". ذَكَرَهَا ابْنُ كَثِيرٍ.
وَلَعَلَّنَا أيها الكرام نَذْكُرُ بَعْضًا مِمَّا تَمَيَّزَ بِهِ هَذَا الدِّينُ الْقَوِيمُ؛ لِيَعْرِفَ الْمُسْلِمُ قَدْرَ نِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِ، وَيَزْدَادَ رُسُوخًا بِهِ، وَيَعْتَزَّ بِدِينِهِ، وَيَشْعُرَ بِهَذِهِ الرِّفْعَةِ وَهَذِهِ الْعِزَّةِ فِي قَلْبِهِ، وَيُفَاخِرَ بِهَا عَلَى غَيْرِهِ.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِذَا كَانَ لِلْإِسْلامِ مَزِيَّةٌ تُعَدُّ مَصْدَرًا عَامًّا لِمَزَايَاهُ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ فَهِي مَزِيَّةُ الرَّبَّانِيَّةُ. الرَّبَّانِيَّةُ الَّتِي جَعَلَتْهُ تَشْرِيعًا صَادِرًا مِنَ اللهِ، وَوَحْيًا مِنْهُ سُبْحَانَهُ يَتَنَزَّهُ عَنْ صُنْعِ الْفِكْرِ الْبَشَرِيِّ الْقَاصِرِ، وَجُمُودِ الْعَقْلِ الْإِنْسَانِيِّ الْمَحْدُودِ. هَذِهِ السِّمَةُ الرَّبَّانِيَّةُ جَعَلَتْ مِنْ هَذَا الدِّينِ الْإِسْلامِيِّ تَشْرِيعًا يَسْتَمِدُّ عَقِيدَتَهُ وَأَحْكَامَهُ وَأخْلاقَهُ مِنْ رَبٍّ الْعَالَمِينَ، وَلِذَلِكَ فَهُوَ يَخْتَلِفُ عَنِ الْقَوَانِينِ الْمَوْضُوعَةِ، وَالتَّصَوُّرَاتِ الْإِنْسَانِيَّةِ، فَلَمْ تَكُنْ قَوَاعِدُهُ أَعْرَافًا سَابِقَةً فَتَبَنَّاهَا، أَوْ أُصُولًا لِمَبَادِئَ قَانُونِيَّةٍ فَجَمَعَهَا، أَوْ تَصَوُّرَاتٍ فَلْسَفِيَّةٍ قَدِيمَةٍ فَعَدَّلَهَا، وَإِنَّمَا هِي شَرِيعَةٌ سَمَاوِيَّةٌ فِي مَبْنَاهَا وَمَعْنَاهَا، لَمْ تُسْتَمَدَّ مِنْ غَيْرِهَا، وَلَمْ يَشُبْهَا عَيْبٌ كَالَّذِي شَابَ سِوَاهَا مِنَ الدِّيَانَاتِ، فَكَانَتِ الشَّرِيعَةُ الَّتِي لَامَسَتِ الْحَيَاةَ الْإِنْسَانِيَّةَ، وَتَفَاعَلَتْ بِقُوَّةٍ مَعَ الشُّعُورِ وَالْوِجْدَانِ، وَارْتَبَطَتْ بِوَاقِعِ النَّاسِ، وَاسْتَجَابَتْ لِمَطَالِبِهِمْ فِي حُدُودِ الْأَخْلاَقِ، وَالْتَقَتْ مَعَ الْفِطْرَةِ، وَسَمَتْ بِالْإِنْسَانِ وَكَرَامَتِهِ، وَأَقَامَتِ الْعَدْلَ، وَنَشَرَتِ الْأَمْنَ، وَصَحَّحَتِ الْأَوْضَاعَ الْفَاسِدَةَ.
لَقَدِ اسْتَطَاعَ الدِّينُ الْإِسْلاَمِيُّ وَحْدَهُ أَنْ يَحْتَفِظَ بِرَبَّانِيَّتِهِ دُونَ سَائِرِ الدِّيَانَاتِ الْأُخْرَى الَّتِي دَخَلَهَا التَّحْرِيفُ فَبَدَّلَ جَوْهَرَهَا وَحَقِيقَتَهَا، وَأَلْبَسَ فِيهَا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، وَتَسَرَّبَ إِلَيْهَا مَا أَفْسَدَهَا مِنَ الْمُعْتَقَدَاتِ الْوَثَنِيَّةِ، وَمَا شَوَّهَهَا مِنَ التَّصَوُّرَاتِ الْخَاطِئَةِ الضَّالَّةِ. وَوِزْرُ ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى أَهْلِهَا الَّذِينَ أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ لكنهم َبَدَّلُوا وَغَيَّرُوا؛ قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ}.
وَقَدْ شَمِلَ هَذَا التَّحْرِيفُ الْمَقْصُودُ كُلَّ جَوَانِبِ الْحَيَاةِ فِي دِيَانَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ فَقَدْ تَنَاوَلَ التَّحْرِيفُ الْعَقِيدَةَ وَالتَّشْرِيعَ، وَالْحِكَمَ وَالأَخْلاقَ، وَالْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ، حَتَّى أَصْبَحَتِ التَّوْرَاةُ والْإِنْجِيلُ لَا تَمُتَّانِ بَصِلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ، وَأَصْبَحَتِ الْقَوَانِينُ الْإِلَهِيَّةُ مِنْ حَيْثُ التَّطْبِيقِ مُعَطَّلَةً مَهْجُورَةً، وَمِنْ صُنْعِ الْبَشَرِ أَنْفُسِهِمْ.
وَقَدْ صَوَّرَ لَنَا الْقُرْآنُ هَذَا الْعَمَلَ الْإِجْرَامِيَّ فِي حَقِّ شَرِيعَةِ اللهِ مِنْ طَرَفِ مَنْ بَاشَرُوا التَّحْرِيفَ مِنْ أهْلِ الْكِتَابِ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.
وَبَعْدَ هَذَا التَّحْرِيفِ وَالتَّشْوِيهِ، وَالتَّزْيِيفِ وَالتَّمْوِيهِ، وَبَعْدَ أَنْ عَاشَتِ الْبَشَرِيَّةُ رِدْحًا مِنَ الزَّمَنِ فِي هَذَا الْخَلْطِ وَالتَّخَبُّطِ، وَبَعْدَ أَنْ َشَقِيَ النَّاسُ بِهِ طَوِيلًا، وَلَمْ يَعُدْ بِإِمْكَانِهِمْ تَقَبُّلُ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ تُرَّهَاتٍ وَأبَاطِيلَ سَخِيفَةٍ، جَاءَ الْمُنْقِذُ، نعم جَاءَ الْإِسْلامُ بِوَحْيٍ مِنَ السَّمَاءِ لِيَعُودَ بِالنَّاسِ إِلَى الْفِطْرَةِ الَّتِي تُمَرَّدُوا عَلَيْهَا، وَلِيَهْدِيَهُمْ بَعْدَ ضَلالٍ، وَيُخَلِّصَهُمْ بَعْدَ سُوءِ مُنْقَلَبٍ. جَاءَ الْإِسْلامُ رَبَّانِيَّا فِيمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، مُحْكَمًا فِي آيَاتِهِ، سَمْحًا فِي تَكَالِيفِهِ، كَامِلاً فِي تَشْرِيعَاتِهِ، وللهِ الْفَضْلُ وَالْمِنَّةُ.
وَمِمَّا يُمَيِّزُ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ السَّمْحَةَ -أَيُّهَا الْإِخْوَةُ- أَنَّ الْإِسْلامَ أَرْشَدَ الْإِنْسَانَ إِلَى عَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ الصَّافِيَةِ الْغَالِيَةِ، السَّهْلَةِ السَّائِغَةِ، الْحَافِزَةِ لِلْهِمَمِ، الْبَاعِثَةِ لِلْحَيَاةِ، لَمْ تَنَلْ وَلَنْ تَنَالَ الْإِنْسَانِيَّةُ مِثْلَهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، هَذِهِ الْعَقِيدَةُ تَقُولُ: إِنَّ الْإِسْلامَ. اسْتِسْلاَمٌ وَانْقِيادٌ وَإِذْعَانٌ لِأَمْرِ اللهِ وَأَمْرِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يُوجِبُ إِفْرَادَ الْإلَهِ الْمَعْبُودِ سُبْحَانَهُ بِالْعِبَادَةِ، بِصَرْفِ جَمِيعِ أَنْوَاعِهَا لَهُ وَحْدَهُ، بِإِخْلاَصٍ لَهُ دُونَ مَا سِوَاهُ وَمُتَابَعَةٍ لِرَسُولِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْبَرَاءَةِ مِنَ الشِّرْكِ وَأهْلِهِ.
هَذِهِ الْعَقِيدَةُ تَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْعَالَمَ لَهُ مَلِكٌ وَاحِدٌ، هُوَ خَالِقُهُ، وَصَانِعُهُ، وَحَاكِمُهُ، وَمُدَبِّرُهُ، لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ كُلُّهُ، وَلَهُ الْحُكْمُ سُبْحَانَهُ جَلَّ شَأْنُهُ، يَقُولُ تَعَالَى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ * يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}.
فَإِذَا ذُكِرَتْ نِعَمُ اللَّهِ وَعُدَّتْ فَإنَّ أَجَلَّهَا وَأَفْضَلَهَا تَوْحِيدُ اللهِ وَإِفْرَادُهُ بِالْعِبَادَةِ؛ إِنَّهَا الْغَايَةُ مِنْ خَلْقِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ. بِهَذِهِ الْعَقِيدَةِ تَخَلَّصَ الْإِنْسَانُ مِنْ كُلِّ خَوْفٍ وَوَجَلٍ، وَصَارَ لَا يَخَافُ أحَدًا إلَّا اللهَ، وَعَلِمَ عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّ اللهَ وَحْدَهُ هُوَ الضَّارُّ وَالنَّافِعُ، وَالْمُعْطِي وَالْمَانِعُ، وَأَنَّهُ وَحَدَهُ الْكَفِيلُ لِحَاجَاتِ الْبَشَرِ، فَتَغَيَّرَ الْعَالَمُ كُلَّهُ فِي نَظَرِهِ بِهَذِهِ الْمَعْرِفَةِ الْجَدِيدَةِ وَالاكْتِشَافِ الْجَدِيدِ، وَصَارَ مَصُونًا عَنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ وَالرِّقِّ، وَعَنْ كُلِّ رَجَاءٍ وَخَوْفٍ مِنَ الْمَخْلُوقِ، فَاعْتَزَّ بِنَفْسِهِ وَفَرِحَ بِكَرَامَتِهِ وَعَرَفَ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مُكَرَّمٌ مِنْ خَالِقِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَعْبُدُ أحَدًا غَيْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.. نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَهْدِيَنَا سَواءَ السَّبِيلِ، وَأَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى هَذَا الدِّينِ الْقَوِيمِ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ إِمَامُ الأَوَّلِينَ والآخِرِينَ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.. أَمَّا بَعْدُ:
إِخْوَةَ الإِسْلامِ.. وَمِنْ مَزَايَا هَذَا الدِّينِ الْعَظِيمِ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ فِيهِ كِتَابٌ مُغْلَقٌ، أَوْ تَفْسِيرٌ بَاطِنِيٌ مُبْهَمٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا الْخَوَاصُّ مِنَ الْعُلَمَاءِ، ولاَ يُوجَدُ فيه خُطُوطٌ حَمْرَاءُ لَا يَحِقُّ لِأَحَدٍ تَجَاوزُهَا وَالسُّؤَالُ عَنْهَا، فَإِنْ أَصَرَّ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ أَوْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ آفَةٌ سَمَاوِيَّةٌ، كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي بَعْضِ الدِّيَانَاتِ الْأُخْرَى، أَوْ كَمَا هُوَ عِنْدَ بَعْضِ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ الْمُنْحَرِفَةِ الَّتِي تَدَّعِي الْإِسْلامَ؛ حَيْثُ أَنَّ الْعَالِمَ أَوْ رَجُلَ الدَّيْنِ هُوَ وَحْدَهُ الْمَرْجِعُ فِي تَفْسِيرِ الدِّينِ وَالتَّحَكُّمِ فِي أَمْرِهِ، وَهُمْ كَذَلِكَ مَعْصُومُونَ -عِنْدَهُمْ- وَمُتَّصِلُونَ بِالْخَالِقِ وَحْدَهُمْ فَقَطْ. وَنَحْنُ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ –وللهِ الْحَمْدُ- فَدِينُنَا وَاضِحٌ وَمُتَاحٌ لأَيِّ أَحَدٍ.
عَقِيدَةٌ وَاضِحَةٌ لَا غُمُوضٌ فِيهَا وَلَا تَعْقِيدٌ. لَيْسَ فِيهَا ألْغَازٌ وَلَا فَلْسَفَاتٌ، فَالْعَقِيدَةُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَعَلَى أَلْسِنَةِ أَكْثَرِ السَّلَفِ، سَهْلَةٌ مَيْسُورَةٌ يَفْهَمُهَا الْعَامِّيُّ بِقَدْرٍ، وَالْمُثَقَّفُ بِقَدْرٍ، وَطَالِبُ الْعِلْمِ بِقَدْرٍ، وَالْعَالِمُ الرَّاسِخُ بِقَدْرٍ، كلٌ يَفْهَمُهَا، لَيْسَ فِي ثَوَابِتِ الْعَقِيدَةِ مَا لَا يُفْهَمُ، لَيْسَ فِيهَا مَا هُوَ عَسِيرٌ بِعَكْسِ عَقَائِدِ أهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ، وَهَذَا أَمْرٌ عَجِيبٌ؛ فَكُلُّ الْأَدْيانِ الْأُخْرَى وَمَقَالَاتِ أهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ يُوجَدُ فِي أُصُولِهِمْ مَا لَا يَفْهَمُهُ إلَّا الْخَاصَّةُ مِنْهُمْ بِدُونِ اسْتِثْنَاءٍ، فَلَا يَفْهَمُهُ الْعَوَامُّ، بَلْ لاَ يَفْهَمُهُ من طُلاَّبِ عِلْمِهِمْ إلّا النَّذْرُ الْيَسِيرُ، مَا عَدَا الْعَقِيدَةَ الْإِسْلامِيَّةَ، عَقِيدَةَ أَهْلِّ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. فَالْعَقِيدَةُ الْحَقُّ تَتَمَيَّزُ بِالسُّهُولَةِ وَالْيُسْرِ وَالْإِحْكَامِ وَالْوُضُوحِ، وأَيضاً بِثُبُوتِ الْمُصْطَلَحَاتِ والأُصُولِ، فَأَصُولُ الْعَقِيدَةِ كُلِّهَا ومُصْطَلَحَاتِهَا الشَّرْعِيَّةِ ثَابِتَةٌ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، لَا تَخْتَلِفُ مِنْ وَقْتٍ إِلَى آخَرَ، فَلَّلِهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ أيها الأخوة نُقْطَةٌ فِي بَحْرٍ مِنْ بُحُورِ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ وَأَنْهَارِ فَضَائِلِهَا، لَكَنْ لِلْحَديثِ صِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.. أَلَا وَصَلُّوا يَا عِبَادَ اللَّهِ وَسَلِّمُوا .....
المشاهدات 898 | التعليقات 0