الاعتراف يهدم الاقتراف
حسام بن عبدالعزيز الجبرين
28 / 7 / 1442 الاعتراف يهدم الاقتراف
الحمد للهِ الَّذِي شرعَ الشرائعَ رحمةً وحِكْمةً ليبلونا أينا أحسن عملا، أمرناَ بطاعتِه لا لحَاجتِهِ بلْ لنفعنا ، يغفرُ الذنوبَ لكلِّ مَنْ تاب إلى ربه ودنا ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له يجزل العطايَا لمنْ كان مُحسناً ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولهُ رفَعَه فوقَ السموات فدَنَا، صَلَّى الله وسلم عليه وعلى آلِهِ وأصحابه الكرام الأمَنَاء أما بعد : فأوصيكم ونفسي بتقوى الله ، واسمعوا رحمني الله وإياكم إلى قول بلال بن سعد رحمه الله : " اعلموا أنكم تعملون في أيامٍ قصارٍ لأيامٍ طوالٍ ، في دار زوالٍ لدارِ مُقامٍ ، ودارِ حزنٍ ونَصَب لدارِ نعيمٍ وخُلْد "
إخوة الإيمان : سؤالٌ عظيم طَرَحَه أفضل الأمّة ! على أفضل الرسل ! ، سؤال يتعلق بمخ العبادة ؛ يريد أن يدعو به في أفضل العبادات العملية ! فتعالوا إلى هذا الخبر .. أخرج الشيخان عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما : عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : عَلِّمْنِي دُعَاءً أدْعُو به في صَلَاتِي، قالَ: قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، ولَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أنْتَ، فَاغْفِرْ لي مَغْفِرَةً مِن عِندِكَ، وارْحَمْنِي، إنَّكَ أنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ " . وفي رواية لمسلم : عَلِّمْنِي يا رَسولَ اللهِ، دُعَاءً أَدْعُو به في صَلَاتِي، وفي بَيْتِي ..
الله أكبر .. صدّيقُ الأمةِ المبشرُ بالجنةِ أرشده الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذا الدعاء العظيم ، فتعالوا نتأمل جملَه ..
" عَلِّمْنِي دُعَاءً أدْعُو به في صَلَاتِي " ؛ لأن في الصلاة أعظم العبادات العملية ، وفي سجودها أقربُ ما يكون العبد من ربه !
" قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا " فالصدّيق على منزلته العالية ليس معصوماً ، وليس بين المخلوقين وبين الخالق سبحانه نسب ؛ إنما محض العبودية والافتقار من العبد ،ومحض الجود والإحسان من الرب عز وجل.
وفي هذا الاعتراف افتقار لله وانكسار وهذا لبّ العبودية ! وفيه هضم للنفس مع ربها العظيم ! الذي لا يزال العبد يتقلّب في نعمه وآلائه ، ولو قضى العبد عمره في طاعة ما جزى نعمة نَفَسِه الدائم في يقظته ومنامه ! ولا جزى نعمة القلب الذي ينبض من قبل ولادته لم يتوقف ! فكيف بالنعم الأخرى الكثيرة !
فحق الله سبحانه كبير ولا يستطيع العبدُ أن يلحقَ له جزاءً فكيف مع قلة طاعتنا وكثرة ذنوبنا !
وهذا الاعتراف بالتقصير ينفعُ ويرفعُ العبد عند ربه جل وعز .
وجاء في الدعاء العظيم : " ولَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أنْتَ " وهذا إقرار بالوحدانية واستجلاب للمغفرة ، ففي الإسلام العلاقة بين العبد وربه لا تحتاج إلى وسطاء ، بل تضرعٌ وانكسارٌ وطلبٌ من الرب سبحانه بلا واسطة ! بخلافِ دياناتٍ أخرى ينكسرون لمخلوقين طلباً لغفران ذنوبهم ، فالحمد لله على نعمة الهداية للإسلام.
" ولَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أنْتَ، فَاغْفِرْ لي مَغْفِرَةً مِن عِندِكَ " جملة تضمنت التوحيد والاستغفار ، وقوام الدين بهما ؛ فقد قرن الله بين التوحيد والاستغفار في مواضع قال سبحانه : {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ }محمد19 وفي موضع آخر : {أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ . وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ }هود2،3
وفي قوله " فَاغْفِرْ لي مَغْفِرَةً مِن عِندِكَ " تنكيرٌ يفيدُ أن المطلوبَ غفرانٌ عظيمٌ ، مغفرة يتفضل بها سبحانه على عبده المقصرِ الظالمِ لنفسه .
"وكلما ازداد العبدُ تواضعاً لله وعبوديةً ازداد إلى الله قرباً ورفعةً ومن ذلك توبته واستغفاره "
" فَاغْفِرْ لي مَغْفِرَةً مِن عِندِكَ، وارْحَمْنِي، إنَّكَ أنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ " وفي هذا توسل بأسماء الله سبحانه قال جل وعز {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا }الأعراف180 وقد اقترن الغفور والرحيم في القرآن الكريم أكثر من سبعين مرة ! ولعله من أسرار ذلك أنه غفور للعباد لأنه سبحانه رحيم .
قال ابن حجر " هذا الدعاء من الجوامع لأن فيه الاعتراف بغاية التقصير وطلب غاية الإنعام ؛ فالمغفرة ستر الذنوب ومحوها ، والرحمة إيصال الخيرات " اهـ
إخوة الإيمان : ونجد أن هذا الدعاء وافق سيد الاستغفار في ثلاثة أمور : وافَقَهُ في التوحيد وافقه في الاعتراف لله بالذنب ووافقه في طلب المغفرة .
اللَّهُمَّ إنِّا ظَلَمْنا أنفسنا ظُلْمًا كَثِيرًا، ولَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أنْتَ، فَاغْفِرْ لنا مَغْفِرَةً مِن عِندِكَ، وارْحَمْنِا، إنَّكَ أنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ
الحمد للهِ العفوِ الغفّار ، وأشهد إلا إله إلا الله الواحدُ القهّار ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى المختار ، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه الأخيار والتابعين ومن تبعهم بإحسان أما بعد إخوة الإيمان : فإن التوبة ليست نقصاً بل هي من أفضل الكمالات وهي واجبة على جميع الخلق ، وهي الغاية وبها كمال القرب من الله عز وجل ، قال سبحانه {لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ }التوبة117 وقال عز وجل {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }الأحزاب73
وبالمغفرة نال النبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة يوم القيامة ؛ ففي الصحيحين في حديث الشفاعة " ائْتُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، عَبْدًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبهِ وما تَأَخَّرَ " .
عباد الرحمن :وقد أخبرنا سبحانه عن دعواتٍ غفر لأهلها ، فيها اعتراف بالاقتراف وهم سادات البشر !
فهذا أبونا آدم عليه السلام و أُمّنا حواء {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ }الأعراف23 ، وهذا يونس بن متّى { فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ . فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ }الأنبياء87 ، 88
وهذا خبر موسى عليه السلام قبل النبوة لما قتل خطأ { قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} القصص 16 وستجد في دعوات أفضل الأنبياء عليه الصلاة والسلام استغفارا كثيرا ودعواتِ مغفرةٍ متنوعةٍ كثيرةٍ عامةٍ وخاصة ، مجملةٍ ومفصلة . يقول إسحاق الموصلي :" الاعتراف يهدم الاقتراف " ، ومصداقها في التنزيل {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }التوبة102 ختاما : احرص على ملازمة هذا الدعاء الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر في صلواتك واجعله ضمن دعواتك ..
المرفقات
1616011605_الاعتراف يهدم الاقتراف.docx