الاعتذار خلق الكبار

أ.د. صالح بن فريح البهلال
1442/02/05 - 2020/09/22 16:38PM

 

الحمد لله الذي نصب الكائنات على ربوبيته دليلاً، وبيَّن الحق والهدى فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أولانا من فضله عطاءاً جزيلاً،  وأشهد أن نبينا محمداً عبدُ الله ورسوله أفضل الخلق هدياً، وأصدقهم قيلاً، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وما بدلوا تبديلاً، أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله، فمن اتقى الله أعزه وأعانه، وأسعده وأذهب أحزانه، وبوأه في الآخرة جنانه: [تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا].

عباد الله: إن الله ـ جل في علاه ـ خلق الإنسان، مدنياً بالطبع؛ يخالط بني جنسه؛ وإن من لازم هذه المخالطة أن يقع الجهل من الناس بعضهم على بعض، وإنه ليحسن بالعاقل إذا وقع منه الخطأ على الآخرين أن يبادر بالاعتذار منهم؛ فلكل شيء كفارة، وكفارة الخطأ هو الاعتذار:

قيل لي قد أسا إليك فلان ... ومقام الفتى على الضيم عارُ
قلت قد جاءنا فأحدث عذراً ... دية الذنب عندنا الاعتذارُ

 وإن من أشقِّ شيء على الإنسان أن يعترف بخطئه على الآخرين، فقد خلق الإنسان ظلوماً جهولاً، لا يخلو من الكِبْر والبغي والاستطالة إلا من رحم الله.

وإن اللبيب الموفق مَنْ إذا أخطأ على إنسان بادر واعترف، وتأسف واعتذر؛ وأظهر الندم الصادق، وآثر ذل الدنيا على عذاب الآخرة.

إن الاعتراف للآخرين بالخطأ يا عباد الله، والاعتذار إليهم يذهب الهموم، ويدفع الحقد، ويبعث على الطمأنينة، ويشدُّ حبل المودة.

وإنك ـ أيها المبارك ـ حين تعتذر؛ فإنه لا يعني بالضرورة أنك مخطئ، بل يعني أنك تنازلت عن حقك؛ مراعاة لقريبك الأكبر، أو أستاذك الأجل، أو صديقك الأعز.

وإن أكمل الاعتذار وأبلغه أن يقع الخطأ منك واضحاً على من هو أضعف منك من ولد وزوج وخادم وتلميذ، ثم تعلنها صريحة أمامه قائلاً: لقد أخطأت بحقك فسامحني.

فمن قالها فهو يملك شجاعة أدبية، وأخلاقاً رضية.

ومن استنكف عن قولها، وجمح إلى هواه، فلم يبذل اعتذاراً، ولم يطلب غفراناً، ففي نفسه لوثة كبر خفية.

وما أوقع الوحشة في نفوس بعض الناس حين يقع بينهم الخطأ إلا استنكاف الخاطئ عن الاعتراف بخطئه، وامتناعه من الاعتذار ممن جهل عليه، فيحُلُّ في القلوب السخيمة والشنآن، وتقع القطيعة والهجران.

إن ذلك الإنسان الذي يخطئ على الناس، ويصر على خطئه، ثم لا يَهُمُّ بالاعتذار، فضلاً أن يبادر به، فهذا إنما يكشف عن نفسه الموبوءة المريضة؛ ويجني عليها:

فمن هاب الرجال تهيبوه . . . ومن حقر الرجال فلن يهابا

وإن من أقبح شيء في ذلك أن يجهل أحدهم على الآخرين جهلاً بيناً، ثم يتمادى في جهله، فيرفع عقيرته بأنه صاحب الحق، ومن العجائب ظالمٌ يتظلمُ!

ومن أمثلة ذلك أن يقع بين مدير وأحد موظفيه موقف، يكون الموظف فيه صاحب الحق، ولكن تأبى نفس المدير الاعتراف بالخطأ، بل بعضهم يسعى بالوشاية به عند صاحب القرار، حتى توقع عليه العقوبة، ونسي هذا المدير بأن على الباغي تدور الدوائر. 

ومن أمثلة ذلك أيضاً أن تسير في سيارتك في المسار الصحيح، ثم يعترض عليك أحدهم بسيارته خطأ، فإذا جاوزته نظر إليك نظرة المكسور المظلوم، وتلفظ عليك كأنك المخطئ الظلوم!

عجبتُ لهُ يجني ويصبحُ عاتباً          فواعجباً من ظالمٍ يتظلمُ

وإن اللبيب الموفق ـ عباد الله ـ من إذا ظن أنه جرح أحداً من الناس، بادره بالاعتذار، وبيان الأمر؛ وهكذا كان يفعل نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد أخرج البخاري ومسلم أن الصعب بن جثامة أهدى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حماراً وحشياً وهو بالأبواء، فرده عليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: فلما أن رأى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما في وجهه قال: (إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم).

وهذا من حذقه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قراءته للنفوس، فإنه لما رأى تغير وجه الصعب حين رد هديته، بادره وطيب خاطره ببيان العلة في ذلك، وهذا الحديث من الأحاديث الأصول في مراعاة مشاعر الناس.

والذي ينبغي للمسلم أن يكون صادقاً في عذره، فإن لم يكن هناك عذر واضح، فليعترف بزلته، ويطلب العفو، ولا يتكلف الأعذار، كما قيل:

إذا كان وجهُ العذر ليس ببيّنٍ ... فإنَّ اطّراحَ العذر خيرٌ من العذرِ

ويتأكد في حق من اعتُذر منه أن يقبل العذر، وينأى عن الملام؛ حتى ولو كان وجه العذر ليس ظاهراً؛ تأسياً بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ فإنه لما جاءه المخلفون عام تبوك، وطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له، قبل علانيتهم، ووكل سرائرهم إلى الله، وهو مع ذلك لا يصدق أحداً منهم؛ بدليل أنه لما جاءه كعب بن مالك، وأخبره بحقيقة أمره، قال: (أما هذا فقد صدق).

وقد قال الشافعي:

اقبل معاذير من يأتيك معتذرا     إن برَّ عندك فيما قال أو فجرا
فقد أطاعك من يرضيك ظاهره     وقد أجلَّك من يعصيك مستترا

بارك الله لي ولكم بهدي كتابه، وسنة نبيه ـ صلى الله عليه وسلم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فتوبوا إليه واستغفروه؛ إنه كان تواباً.

الخطبة الثانية

 الحمد لله حمداً لا ينفد، أفضلَ ما ينبغي أن يحمد، والصلاة والسلام على نبيه محمد وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن مما يزعج النفوس ـ عباد الله ـ وتضيق به الصدور، أن تسمع عن ضغينة بين أخوين، أو أختين، أو موظفين، أو جارين، ثم يبادر أحدهما الآخر بالاعتذار، ويطلب فتح  صفحة جديدة، والآخر يأبى ويصر!

أليس لهذا الذي رد الاعتذار قدوة بيوسف ـ عليه السلام ـ وقد قال له إخوته: [وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ]  فأجابهم مباشرة: [لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ] ولم يستعرض تاريخهم الأسود معه؛ بل عفا وصفح؛ وهذا غاية الكرم.

يقول الحسن بن علي: «لو أن رجلاً شتمني في أذني هذه، واعتذر في أذني الأخرى لقبلت عذره».

إن الحياة قصيرة، لا تستحق كل هذا الإصرار، والتعنت في قبول الاعتذار!

وإن مما يقوِّي المسلمَ في قبول عذر أخيه، استشعارُه أنه ربما احتاج لمثل هذا الموقف الذي وقفه أخوه أمامه، فهل يسرُّه حينَها أن يُردَّ خاسئاً وهو حسير؛ فكما تدين تدان.

فما أجمل ذلك الأب الذي لما أتاه ابنه يلقي معاذيره، قبل عذره، وبرأه من الملام، وأسبغ عليه عبارات الحب والقبول.

وأكرم بذاك الزوجِ الذي لما اعتذرت إليه زوجه من التقصير، نفض عنها غبار اللوم، ووجد لها في ذلك عذراً بيناً، ووارها بلباس الصفح والستر.

ولله در ذاك الصديق الذي لما أتاه صاحبه معتذراً إليه من هفوة فرطت، أو سقطة بدت ـ بادره وهوَّن عليه، بألَّا يخاف درَكاً ولا يخشى.

ولله ذاك المدير الذي لما جاءه أحد موظفيه معترفاً بزلته، معلناً توبته، ملقياً معذرته، قبل عذره، وعفا عنه، وأعانه على التوبة.

اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها، لا يصرف عنا سيئها إلا أنت...

المشاهدات 1870 | التعليقات 3

جزاك الله خيرا


خطبة رائعة ومثلها خطبة الأسبوع الماضي ( الورد القرآني) .

أقترح أن ترفق مع الخطبة ملف وورد ؛ ليسهل على الخطيب تنسيق الخطبة والاختيار منها بما يناسب جماعة مسجده.

نفع الله بكم


شكراً لكم، وجزاكم الله خيراً.