الاعتبار بمرور الأعوام وانقضاء الأعمار / وفي الخطبة تذكير بفضل الصيام بشهر محرم
عبدالرحمن اللهيبي
أمَّا بعد: فيا أيّها المسلمون: اتَّقوا الله فإنَّ تقواه عليها المعوَّل، وعليكم بما كان عليه سلَف الأمّة والصَّدرُ الأول، واشكرُوه على ما أولاكم من الإنعام وطوَّل، وقصِّروا الأمَل، واستعدّوا لبغْتةِ الأجل، فما أطال عبدٌ الأمَلَ إلا أساءَ العمل، (ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) .
أيّها المسلمون: إنَّ الشهورَ والأعوامَ واللياليَ والأيام مواقيتُ الأعمال ومقاديرُ الآجال، تنقضِي جميعًا وتمضِي سريعًا، فالسعيدُ لا يركَن إلى الدنيا، ولا يغتَرُّ بالسراب، فكم من مستقبِل يومًا لا يستكمِلُه، وكم مِن مؤَمِّلٍ لغدٍ لا يدركه، (وَلَن يُؤَخّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).
أيَّها المسلِمون: إن مُضيَ الأعوام وسرعةَ انقضاء الأعمار، لهو دليل على أن هذه الدنيا ليست بدار قرار، وأنه ليس بعدَها دارٌ إلا الجنّةُ أو النار، فاحذروا الدنيا ومكائِدَها، فكم غرَّت من معمر فيها، وصرعت من مكِبّ عليها، وفجأت مؤملا فيها ، وخانت من اعتمد عليها, فعن ابن عمرَ رضي الله عنهما قال: أخَذَ رسول الله بمنكبي فقال: "كُن في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابر سبيل" وكان ابن عمر يقول: "إذا أمسيتَ فلا تنتظرِ الصباح وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتِك لموتك"
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ كُلَّ يَومٍ يَمضِي أو عامٍ ينقَضِي ، فَإِنَّمَا هُوَ نَقصٌ مِنَ الأَعمَارِ وَدُنُوٌّ مِنَ الآجَالِ ، وَالعَجَبُ ممَّن يَفرَحُ بِعَجَلَةِ مُرُورِ الأَيَّامِ وسُرعَة انقِضَاء الأعوام ؛ لِيَنَالَ زِيَادَةً في رَاتِبٍ أَو يَعلُوَ دَرَجَةً في وَظِيفَةٍ ، أو يحظى بتقاعد عن العمل, وَمَا اعتبر لاقتِرَابِهِ مِن مَصِيرِهِ ودنو ساعته ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " القَبرُ أَوَّلُ مَنزِلٍ مِن مَنَازِلِ الآخِرَةِ ، فَإِن نجا مِنهُ فَمَا بَعدَهُ أَيسَرُ ، وَإِن لم يَنجُ مِنهُ فَمَا بَعدَهُ أَشَدُّ "
أيها المسلمون: هذه أعوامكم تمضي وأعماركم تنقضي ، فاستكثِروا في أعمارِكم من الحسنات، وتدارَكوا ما مضَى من الهفَوات، قبلَ أن يفجَأكم هادم اللّذات، فعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت النبيَّ وهو يَعِظ رجلاً ويقول له: "اغتنم خمسًا قبلَ خمسٍ: شبابَك قبل هرَمِك، وصحَّتَك قبل سقمك، وغِناك قبل فقرك، وفراغك قبلَ شغلك، وحياتَك قبل مَوتِك"
فيا مسلم يا عبدالله يا من أثقلته الخطايا والآثام, قلي بربك كم ضيّعتَ من أيام وأعوام، وقضيتَها في اللّهوِ والعبث والحرام، كم أغلقتَ بابًا على ذنب قبيح، كم صَلاةٍ أخرتها، وكم نظرةٍ حرام أصبتها، وكم حقوقٍ أضعتها، وكم مظالم بالضعفاء أوقعتها, وكم غيبة نشَرتها، وكم رحم قطعتها, أنَسيتَ ساعةَ الاحتضار، حين يثقُل منك اللِّسان، وترتخي اليّدان، وتَشخصُ العينان، ويبكي عليكَ الأهل والخلان؟!
أنسيتَ ما يحصل للمحتَضَر حالَ نزعِ روحه، حين يشتدُّ كربه، ويعلوا أنينه، ويتغيّر لونه، ويعرق جبينُه
هذا رسول الله ﷺ، وليس أكرَم على الله من رسولِه، حين حضرته الوفاةُ كان بين يديه رَكوةٌ فيها ماء، فجعل يُدخل يدَه في الماء فيمسَح بها وجهه ويقول: "لا إله إلا الله، إنَّ للموتِ سكرات"
فَاتَّقُوا اللهَ وَقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم خيرا مَا دُمتُم في زَمَنِ الإِمهَالِ ، مَن قَبلِ " أَن تَقُولَ نَفسٌ يَا حَسرَتَا عَلَى مَا فَرَّطتُ في جَنبِ اللهِ وَإِنْ كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ . أَو تَقُولَ لَو أَنَّ اللهَ هَدَاني لَكُنتُ مِنَ المُتَّقِينَ .
أقول ما تَسمَعون، وأستغفر الله لي ولَكم ولسائرِ المسلمين من كلِّ ذنب
الحمد لله على إِحسَانه، والشّكر له على توفيقِه وامتنانِه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريكَ له تعظيمًا لشأنه، وأشهَد أنّ نبيَّنا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، تَنتَشِرُ في مِثلِ هَذِهِ الأَيَّامِ مِن كُلِّ عَامٍ رَسَائِلُ عَبرَ الجَوَّالاتِ ووسائل التواصل ، مَضمُونُهَا أَنَّ صَفحَةَ العَامِ تُطوَى ، أَو أَنَّ الأَعمَالَ تُرفَعُ ، وَمَن ثَمَّ يَحُثُّ مُرسِلُهَا القَارِئَ عَلَى خَتمِ عَامِهِ بِاستِغفَارٍ أَو صِيَامٍ أَو دُعَاءٍ أَو غَيرِ ذَلِكَ ، و هَذَا عَمَلٌ غَيرُ مَشرُوعٍ ؛ إِذْ هُوَ تَخصِيصٌ لِلعِبَادَةِ بِوَقتٍ وَزَمَنٍ لم يَرِدْ في الشَّرعِ تَخصِيصُهُ بِعِبَادَةٍ مُعَيَّنَةٍ ، وَلا يَخفَى أَنَّ العِبَادَاتِ مَبنَاهَا عَلَى الدَّلِيلِ الصَّحِيحِ ، لا عَلَى الاستِحسَانِ وَالرَّأيِ . وهذا إنما هو ناشئ من ظن البعض بأن الأعمال ترفع نهاية كل عام وليس هذا بصحيح فإن ابتِدَاء العَامِ الهِجرِيِّ بِشَهرِ المُحَرَّمِ وَانتِهَاؤُهُ بِشَهرِ ذِي الحِجَّةِ ، إِنَّمَا وَضَعَهُ الخَلِيفَةُ الرَّاشِدُ المُلهَمُ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ ، وَأَقَرَّهُ عَلَيهِ الصَّحَابَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُم أَجمَعِينَ ـ وَإِنَّمَا وَضَعُوا ذَلِكَ تَرتِيبًا لِلمَصَالحِ الدُّنيَوِيَّةِ وَحِسَابًا لِلسِّنِينَ
وَأَمَّا عَرضُ الأَعمَالِ عَلَى اللهِ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى ـ فَصَحَّتِ الأَحَادِيثُ أَنَّهُ يَكُونُ في كُلِّ أُسُبوعٍ في يَومِ الاثنِينِ وَالخَمِيسِ ، وَأمَّا الرَّفعُ النِّهَائِيُّ لِلعَمَلِ فَيَكُونُ بَعدَ انقِضَاءِ الأَجَلِ وَمَا أَعجَلَهُ ! أَلا فَلْنُحَاسِبْ أَنفُسَنَا في كُلِّ وَقتٍ وَحِينٍ ، وَلْنَحرِصْ عَلَى مَا يَنفَعُنَا في كُلِّ زَمَانٍ وَآنٍ
أيّها المسلمون: الصوم في شهر الله المحرَّم عبادةٌ جليلة وقربة وفضيلة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: "أفضل الصلاة بعد المكتوبة الصلاة في جوف الليل، وأفضل الصيام بعد شهر رمضان صيام شهر الله المحرم" أخرجه مسلم.
فأكثر من الصيام في شهر الله المحرم اغتناما لفضله وإدراكا لعظيم ثوابه وأجره
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» رَوَاهُ مُسْلِم.
اللهم صل وسلم على النبي المصطفى المختار...
المرفقات
1658973101_نهاية العام منقحة ١.docx