الاعْتِبَارُ بِقِصَّةِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ
راشد بن عبد الرحمن البداح
2 ربيع الأول 1441 هـ. الحمد لله ربِّنا، ما أعلمَه وأرحمَه وأحكمَه وأحلمَه وأكرمَه وأمجدَه وأجودَه، وما أعلاهُ وأقربَه وأقدرَه وأقهرَه وأوسعَه، وألطفَه وأشكرَه. أشهدُ أن لا إلَهَ إلا هو، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه؛ (أَعْلَمُ الْخَلْقِ بِرَبِّهِ، وَأَنْصَحُهُمْ لِخَلْقِهِ، وَأَحْسَنُهُمْ بَيَانًا؛ وَأَعْظَمُهُمْ بَلَاغًا)([1])، صلى اللهُ وسلمَ عليهِ وعلى الصحبِ والآلِ، أما بعدُ: فتزودوا من خيرِ زادٍ؛ التقوى التقوى.
معاشرَ المسلمين: أتدرونَ ما أكثرُ قصةٍ تَكَرَّرَ ذِكرُها في القرآنِ؟!
أليستْ قصةَ نبيِّ اللهِ موسى –عليه السلامُ – مع الطاغيةِ فرعونَ؟!
فلماذا يا تُرى تكررتْ، وكثرتْ؟!
الجواب: لأنها أكثرُ الأحوالِ دَوَرانًا في الأممِ، وكثرةُ التَّكرارِ لحاجةِ الأمةِ للاعتبارِ.
قال ابنُ تيميةَ: (قِصَّةُ مُوسَى وَمَا جَرَى لَهُ مَعَ فِرْعَوْنَ وَغَيْرِهِ أَعْظَمُ وَأَشْرَفُ مِنْ قِصَّةِ يُوسُفَ بِكَثِيرِ كَثِيرٍ، وَلِهَذَا هِيَ أَعْظَمُ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي تُذْكَرُ فِي الْقُرْآنِ.. وَلِهَذَا ثَنَّى اللَّهُ تِلْكَ الْقَصَصَ فِي الْقُرْآنِ، وَلَمْ يُثَنِّ قِصَّةَ يُوسُفَ..)([2]).
معاشرَ المصلينَ المهجرينَ: ما دامتِ القصةُ الموسويةُ بهذه المثابةِ؛ فلنتدبرِ الآنَ شيئًا من أحداثِها، ولنتفكرْ في بعضِ عجائبِها
- أحبَّ اللهُ في عليائه نبيَّه موسى محبةً خاصةَ عالية، حيث قال اللهُ عن موسی: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} ومع ذلكَ فموسى أبغضُ الناسِ عند فرعونَ وأتباعِه. فلا يَلزمُ من محبةِ اللِه لأحدٍ حُبُ كلِ الناسِ له، وإنما يحبُّه أهلُ الفِطَرِ الصحيحةِ.
- لما سَقى موسى للمرأتينِ: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} اقتربتْ منه واحدةٌ فقطْ؛ لأن اقترابَ أختِها الأخرى لا حاجةَ إليه، فابتعدتْ حياءً وحشمةً. والمرأةُ الصالحةُ تَمتثلُ في كلامِها مع الرجالِ قولَ ربِّها: {وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} أي: لا غليظًا ولا خاضعًا.
- أمرَ اللهُ بإصلاحِ دنيا الناسِ، حتى العنايةِ بمساكنِهم، وهيَ على كلِ ذي قُدرةٍ تولَى أمرَهم: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}؛ لأن الأمةَ التي لا تُصلِحُ دُنیاها لن تَقوى بدينِها، ولذا أَمرَ اللهُ موسى وهارونَ باتخاذِ المساكنِ مع المساجدِ.
- ضِيقُ الصَدرِ من أذيةِ المخالِفينَ أمرٌ فِطريٌ. قال موسى: {وَيَضِيقُ صَدْرِي} وقال اللهُ عن محمدٍ: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} وعلاجُ ذلك خمس أمورٍ أَرشدَنا ربُّنا لها: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}. {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}.
- اللينُ والشدةُ كلٌ له مُناسبتُه. قال اللهُ لموسى وهارونَ: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} فلما أظهرَ فرعونُ عِنادَه وتكبرَه شَدَّدَ عليه: {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا}.
- ومن الدروسِ الموسويةِ: أنه كلما زادَ إيمانُكَ بالآخرةِ زادَ تواضعُكَ، ولا يَتكبرُ إلا ضعيفُ اليقينِ بلقاءِ ربِه: {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ}.
- لا يفوِّضُ أحدٌ أمرَه إلى اللهِ مُوقِنًا إلا كفاهُ اللهُ ووقاهُ. قال مؤمنُ آلِ فرعونَ: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ} فكفاهُ اللهُ، قال: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا}.
- الظالمُ يَحتقِرُ الحقَ ويَستصغِرُه حتى يُهلِکَه: {إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} أتدري كم هؤلاءِ الذين يزعُمُهم شرذمةً؟! قال ابنُ عباسٍ: كان مع موسی ستُمائةِ ألفٍ!
- كلٌ يَستعمِلُ نفسَ الألفاظِ لتأييدِ رسالتِه، ولكنَّ العِبرةَ بالحقائقِ. قالَ فرعونُ: {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} وقالَ مؤمنُ آلِ فرعونَ: {اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ}.
- جَمَعَ فرعونُ السحرةَ بنفسِه وكافأَهم إن غَلبوا موسى، فلما آمنُوا بموسى وتركُوه، قال: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ}. فالمُستبِدُّونَ يَنسبونَ حتى فشَلَهم لخصومِهم.
- حذَّرَ فرعونُ من السحرةِ ثم استعانَ بهم، بل ما كان تهمةً عنده بالأمسِ صارَ مَفخرةً في ميزانِه اليومَ: اتهَمَ فرعونُ موسى بالسحرِ، ثم استعملَه ضدَه: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ}.
- ومن الدروسِ الموسويةِ:
أن هذا البحرَ الذي نَجَّى اللهُ منه موسى وهو رضيعٌ هو الذي أَغرقَ فيه فرعونَ وهو وضيعٌ: قال عن موسى: {فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ} وعن فرعونَ: {فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ}. كلاهما (يَمٌّ) لكنْ لنُوقنْ أنَّ الأسبابَ لا تُنجيْ إلا باللِه مسبِّبِ الأسبابِ. وأنَّ المؤمنَ لا يَجزعُ إذا حرَمَه اللهُ ما يُحبُ، وأعطاهُ ما يَكرهُ، فقد يَتمنى ما فيه شرٌ عليه، ويَكرهُ ما فيه خيرٌ له. فقد نَجَّى موسى ببحرٍ يَخافُه. وأما عادٌ فقد هَلَكَتْ بسحابٍ تتمناهُ.
- ولْنعتبرْ كيف فرِحَ فرعونُ بانفلاقِ البحرِ، حيثُ يظنُه طريقَه للوصولِ إلى موسى، واللهُ يَستدرِجُه ليُهلکَه فيه. يُصوِّرُ اللهُ طريقَ الهلاكِ للظالمِ في صورةِ نجاةٍ؛ ليَسيرَ لحَتفِه بنفسِه.
- (عبدٌ مأمورٌ) كلمةٌ يقولهُا من يَمتثِلُ الباطلَ، ولنْ تُنجيَه؛ لأنه عبدٌ للهِ قبلَ أن يكونَ لغيرِه. أمرَ فرعونُ جنودَه فأطاعُوه، والنتيجةُ: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ}. فاللهم لا تَقتُلْنا بعذابِك، وعافِنا قبلَ ذلك.
اللهم احفظْ علينا دينَنا وأعراضَنا ومقدساتِنا، وارزقْ نساءَنا مزيدَ الحشمة، ومزيدَ التبصر بكيدِ متبعي الشهواتِ، الذين يريدون أن نميلَ ميلاً عظيمًا.
اللهم احفظْ ولاةَ أمرِنا وارزقهم بطانةَ الصلاحِ، واكفنا وإياهم وبلادَنا شرَّ الأشرارِ وكيدَ الفجار، والحاسدين.
اللهم وارزقنا جميعًا الفردوسَ بعد عمُر طويل على عمل صالح. اللهم لا تجعلْ بينَنا وبينَك في رزقِنا أحدًا سواكَ، واجعلنا أغنى خلقِك بك، وأفقرَ عبادِك إليكَ. اللهم وأصلح من أخلاقِنا، وبارك في أرزاقِنا، واقضْ ديونَنا، وأصلح شؤوننا.
المرفقات
بقصة-موسى-وفرعون
بقصة-موسى-وفرعون
بقصة-موسى-وفرعون-2
بقصة-موسى-وفرعون-2