الاعتبار بشدة حر النهار
عبدالله بن رجا الروقي
1435/08/14 - 2014/06/12 14:45PM
الاعتبار بشدة حر النهار
أما بعد فإن من صفات أصحاب القلوب الحية التفكرَ في خلق الله بمايزيد الإيمان به تعالى وبجزائه وثوابه ، وقد امتدحهم الله بذلك في قوله تعالى ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ. * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾
وقال تعالى: {كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون * في الدنيا والآخرة} .
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: (يعني في زوال الدنيا وفنائها وإقبال الآخرة وبقائها)، وقال قتادة: (من تفكر في الدنيا والآخرة عرف فضل إحداهما على الأخرى، وعرف أن الدنيا دار بلاء ثم دار فناء، وأن الآخرة دار بقاء ثم دار جزاء).
وإن من التفكر التفكر فيما في الدنيا ممايذكر بعذاب الآخرة وآلامها لينظر في ذلك العبد الموفق نظر اعتبار واتعاظ فيكون ذلك سببًا في اجتنابه المعاصي وقيامه بالطاعات.
وقد جعل الله تعاقب الليل النهار في الدنيا عبرة للمعتبرين يقول تعالى
﴿ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ ﴾ .
" { يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ } من حر إلى برد، ومن برد إلى حر، من ليل إلى نهار، ومن نهار إلى ليل، ويديل الأيام بين عباده، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ } أي: لذوي البصائر، والعقول النافذة للأمور المطلوبة منها، كما تنفذ الأبصار إلى الأمور المشاهدة الحسية. فالبصير ينظر إلى هذه المخلوقات نظر اعتبار وتفكر وتدبر لما أريد بها ومنها، والمعرض الجاهل نظره إليها نظر غفلة، بمنزلة نظر البهائم " [ انتهى من تفسير ابن سعدي]
وقال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ﴾
فجعل الله الليل والنهار يخلف أحدهما الآخر ليتذكر بذلك العباد ويشكروه تعالى .
وإن مما يدعو للاعتبار والتفكر في آيات الله ما نعيشه هذه الأيام من شدة حرارة الجو ، فإن لله في ذلك حكماً وعبرا
فمن حكم شدة الحر : بيان ضعف هذا الإنسان المخلوق الذي ربما تكبَّر واحتقر غيره ، ونسي ضعفه وشدة ضرورته إلى الله عزوجل
قال تعالى : ﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى ﴾ وقال تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾
فالواحد منَّا قد لا يستطيع أن يقف الدقائق المعدودة عندما ترتفع الشمس ويشتد الحر حتى إنه ليبحث عن مكان يُكِنُّه، وظل يُظلُّه
وبعض الناس ربما تغيرت أحوالهم، وساءت أخلاقهم بسبب حرارة الجو.
بل وصلت الحال أن يموت أقوام في بعض البلاد بسبب شدة الحر.
وهذا مما يبين ضعف الإنسان، وعجزه.
قال تعالى: ﴿ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا ﴾
ومن العِبر في شدة الحر أن يتذكر الإنسان وهو يتصبب عرقاً من الحر قول النبي صلى الله عليه وسلم : « تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ ميل فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا». قَالَ وَأَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ.رواه مسلم.
والناس تحت الشمس حفاة عراة غرلا، قال ﷺ :إنكم ملاقوا الله حفاة عراة مشاة غرلا. متفق عليه.
سيقف الناس تحت هذه الشمس التي قد دنت من رؤوسهم ، كرب عظيم وزحام شديد في موقف الحشر الأعظم ويقفون وقوفاً طويلاً ليس يوماً ولايومين ولاسنة ولاسنتين بل سيقفون في يوم مقداره خمسون ألف سنة.
ولئن اجتهدنا في اتقاء هذا الحر الدنيوي أو تخفيفه لكن ما هو اجتهادنا في اتقاء حر النار يوم القيامة ﴿ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا﴾
وهذا السموم هو من نفس جهنم قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ :«اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ فَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ فِي الْحَرِّ – من سموم جهنم- وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ البرد من زمهرير جهنم». رواه البخاري ومسلم.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
{ إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم }
وهذا يدل على أن جهنم موجودة الآن، وهي تنتظر سكانها، نسأل الله العافية
ولقد جعل الله نار الدنيا مذكرة بنار الآخرة
قال تعالى: ﴿نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً ﴾
ونار الدنيا جزء من سبعين جزءاً من نار الآخرة ، قال النبي ﷺ : « نَارُكُمْ هَذِهِ الَّتِي يُوقِدُ ابْنُ آدَمَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ »، قَالُوا: وَاللَّهِ إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:« فَإِنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا كُلُّهَا مِثْلُ حَرِّهَا». رواه البخاري ،ومسلم.
عباد الله إن مما ينبغي تدبره من كتاب الله في هذا المقام أن الله شبّه الكفر بالحر والإيمان بالظل، فقال سبحانه: ﴿ وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ ﴾
فحال المؤمن يُشبه حال الظل؛ لأن الإيمان ظل ظليل، ترتاح له النفس، ويطمئن له القلب، ويعمل فيه العبد على نور من ربه وبصيرة ، أما حال الكافر فتشبه حال الحر، الذي تضطرب فيه القلوب، ويزداد قلقها.
ربنا اصرف عنا عذاب جهنم
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ...
الخطبة الثانية:
عباد الله، إن الناس كلَّهم حريصون على راحة أنفسهم وأهليهم، يوفرون لهم الوسائلَ الواقية من الحر والبرد، وإذا ما اشتدت عليهم سمومُ الحر رأيناهم يتنقلون إلى المصائف والأماكن الباردة في أنحاء العالم.
ولكنك تحزن وتأسى لحالهم عندما ترى كثيراً منهم لا يعمل على وقاية نفسه ومن تحت يده من نار الآخرة وسمومها ، والله عز وجل قد خاطب عباده المؤمنين وحذرهم منها بقوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَـئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾
ومن دعاء عباد الرحمن في القرآن
﴿ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ﴾
وإذا كان هذا الحر الشديد إنما هو نَفَسٌ أُذن فيه لجهنم أن تتنفس، فكيف بجهنم نفسَها وقد ذكر الله عنها ما ذكر كقوله تعالى:
﴿ إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً ﴾ وقوله تعالى: ﴿ إِذَا أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقًا وَهِىَ تَفُورُ ﴾
أيها المؤمنون، إن من رحمة الله أن جعل أسبابًا للوقاية من حر الشمس عندما تدنو من الرؤوس يوم القيامة.
ومن ذلك ماتضمنه حديث النبي ﷺ عن السبعة الذي يظلهم الله تعالي في ظله يوم القيامة ، قال النبي ﷺ { سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عدل وشاب نشأ في عبادة الله ورجل قلبه معلق في المساجد ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه }
فمن توفرت فيه صفة من صفات هؤلاء السبعة
فيرجى له النجاة من ذلك الكرب العظيم.
وفي الحديث السابق أن الصدقة سبب لكون العبد في ظل الله يوم القيامة وقد جاء في ذلك
حديث خاص بها قال ﷺ : كُلُّ امرِئٍ في ظِلِّ صَدَقَتِه حتى يُفْصَلَ بينَ الناسِ ، أو قال حتى يُحْكمَ بينَ الناسِ . رواه أحمد.
وإن مما يحسن التذكير به - وهو من أعظم الصدقات - الصدقةَ بالماء خاصة في أيام الحر الشديد ، فسقيا الماء سبب لمغفرة كبائر الذنوب
فعن ابي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:( بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ثم خرج ,فاذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان قد بلغ مني فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقي فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له)
رواه البخاري ومسلم ، فهذا رجل غفر الله له بسبب سقيه لكلب فكيف بمن يسقي مسلمًا.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ قال: بينما كلب يطيف بركية - أي : بئر - ، كاد يقتله العطش ، إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل ، فنزعت موقها ، فسقته فغُفر لها به.
فتأملوا يا عباد أمرأة بغي أي زانية غفر لها بسقي كلب.
فرحم الله عبدا جعل برادة ماء في المساجد أو عند بيته ليستقي منها الناس وله الأجر العظيم عند الله إذا حسنت نيته.
اللهم اجعلنا من أهل الإيمان والبر والتقوى واغفر لنا ذنوبنا ويسرنا لليسرى وجنبنا العسرى.
أما بعد فإن من صفات أصحاب القلوب الحية التفكرَ في خلق الله بمايزيد الإيمان به تعالى وبجزائه وثوابه ، وقد امتدحهم الله بذلك في قوله تعالى ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ. * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾
وقال تعالى: {كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون * في الدنيا والآخرة} .
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: (يعني في زوال الدنيا وفنائها وإقبال الآخرة وبقائها)، وقال قتادة: (من تفكر في الدنيا والآخرة عرف فضل إحداهما على الأخرى، وعرف أن الدنيا دار بلاء ثم دار فناء، وأن الآخرة دار بقاء ثم دار جزاء).
وإن من التفكر التفكر فيما في الدنيا ممايذكر بعذاب الآخرة وآلامها لينظر في ذلك العبد الموفق نظر اعتبار واتعاظ فيكون ذلك سببًا في اجتنابه المعاصي وقيامه بالطاعات.
وقد جعل الله تعاقب الليل النهار في الدنيا عبرة للمعتبرين يقول تعالى
﴿ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ ﴾ .
" { يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ } من حر إلى برد، ومن برد إلى حر، من ليل إلى نهار، ومن نهار إلى ليل، ويديل الأيام بين عباده، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ } أي: لذوي البصائر، والعقول النافذة للأمور المطلوبة منها، كما تنفذ الأبصار إلى الأمور المشاهدة الحسية. فالبصير ينظر إلى هذه المخلوقات نظر اعتبار وتفكر وتدبر لما أريد بها ومنها، والمعرض الجاهل نظره إليها نظر غفلة، بمنزلة نظر البهائم " [ انتهى من تفسير ابن سعدي]
وقال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ﴾
فجعل الله الليل والنهار يخلف أحدهما الآخر ليتذكر بذلك العباد ويشكروه تعالى .
وإن مما يدعو للاعتبار والتفكر في آيات الله ما نعيشه هذه الأيام من شدة حرارة الجو ، فإن لله في ذلك حكماً وعبرا
فمن حكم شدة الحر : بيان ضعف هذا الإنسان المخلوق الذي ربما تكبَّر واحتقر غيره ، ونسي ضعفه وشدة ضرورته إلى الله عزوجل
قال تعالى : ﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى ﴾ وقال تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾
فالواحد منَّا قد لا يستطيع أن يقف الدقائق المعدودة عندما ترتفع الشمس ويشتد الحر حتى إنه ليبحث عن مكان يُكِنُّه، وظل يُظلُّه
وبعض الناس ربما تغيرت أحوالهم، وساءت أخلاقهم بسبب حرارة الجو.
بل وصلت الحال أن يموت أقوام في بعض البلاد بسبب شدة الحر.
وهذا مما يبين ضعف الإنسان، وعجزه.
قال تعالى: ﴿ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا ﴾
ومن العِبر في شدة الحر أن يتذكر الإنسان وهو يتصبب عرقاً من الحر قول النبي صلى الله عليه وسلم : « تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ ميل فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا». قَالَ وَأَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ.رواه مسلم.
والناس تحت الشمس حفاة عراة غرلا، قال ﷺ :إنكم ملاقوا الله حفاة عراة مشاة غرلا. متفق عليه.
سيقف الناس تحت هذه الشمس التي قد دنت من رؤوسهم ، كرب عظيم وزحام شديد في موقف الحشر الأعظم ويقفون وقوفاً طويلاً ليس يوماً ولايومين ولاسنة ولاسنتين بل سيقفون في يوم مقداره خمسون ألف سنة.
ولئن اجتهدنا في اتقاء هذا الحر الدنيوي أو تخفيفه لكن ما هو اجتهادنا في اتقاء حر النار يوم القيامة ﴿ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا﴾
وهذا السموم هو من نفس جهنم قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ :«اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ فَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ فِي الْحَرِّ – من سموم جهنم- وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ البرد من زمهرير جهنم». رواه البخاري ومسلم.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
{ إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم }
وهذا يدل على أن جهنم موجودة الآن، وهي تنتظر سكانها، نسأل الله العافية
ولقد جعل الله نار الدنيا مذكرة بنار الآخرة
قال تعالى: ﴿نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً ﴾
ونار الدنيا جزء من سبعين جزءاً من نار الآخرة ، قال النبي ﷺ : « نَارُكُمْ هَذِهِ الَّتِي يُوقِدُ ابْنُ آدَمَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ »، قَالُوا: وَاللَّهِ إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:« فَإِنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا كُلُّهَا مِثْلُ حَرِّهَا». رواه البخاري ،ومسلم.
عباد الله إن مما ينبغي تدبره من كتاب الله في هذا المقام أن الله شبّه الكفر بالحر والإيمان بالظل، فقال سبحانه: ﴿ وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ ﴾
فحال المؤمن يُشبه حال الظل؛ لأن الإيمان ظل ظليل، ترتاح له النفس، ويطمئن له القلب، ويعمل فيه العبد على نور من ربه وبصيرة ، أما حال الكافر فتشبه حال الحر، الذي تضطرب فيه القلوب، ويزداد قلقها.
ربنا اصرف عنا عذاب جهنم
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ...
الخطبة الثانية:
عباد الله، إن الناس كلَّهم حريصون على راحة أنفسهم وأهليهم، يوفرون لهم الوسائلَ الواقية من الحر والبرد، وإذا ما اشتدت عليهم سمومُ الحر رأيناهم يتنقلون إلى المصائف والأماكن الباردة في أنحاء العالم.
ولكنك تحزن وتأسى لحالهم عندما ترى كثيراً منهم لا يعمل على وقاية نفسه ومن تحت يده من نار الآخرة وسمومها ، والله عز وجل قد خاطب عباده المؤمنين وحذرهم منها بقوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَـئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾
ومن دعاء عباد الرحمن في القرآن
﴿ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ﴾
وإذا كان هذا الحر الشديد إنما هو نَفَسٌ أُذن فيه لجهنم أن تتنفس، فكيف بجهنم نفسَها وقد ذكر الله عنها ما ذكر كقوله تعالى:
﴿ إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً ﴾ وقوله تعالى: ﴿ إِذَا أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقًا وَهِىَ تَفُورُ ﴾
أيها المؤمنون، إن من رحمة الله أن جعل أسبابًا للوقاية من حر الشمس عندما تدنو من الرؤوس يوم القيامة.
ومن ذلك ماتضمنه حديث النبي ﷺ عن السبعة الذي يظلهم الله تعالي في ظله يوم القيامة ، قال النبي ﷺ { سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عدل وشاب نشأ في عبادة الله ورجل قلبه معلق في المساجد ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه }
فمن توفرت فيه صفة من صفات هؤلاء السبعة
فيرجى له النجاة من ذلك الكرب العظيم.
وفي الحديث السابق أن الصدقة سبب لكون العبد في ظل الله يوم القيامة وقد جاء في ذلك
حديث خاص بها قال ﷺ : كُلُّ امرِئٍ في ظِلِّ صَدَقَتِه حتى يُفْصَلَ بينَ الناسِ ، أو قال حتى يُحْكمَ بينَ الناسِ . رواه أحمد.
وإن مما يحسن التذكير به - وهو من أعظم الصدقات - الصدقةَ بالماء خاصة في أيام الحر الشديد ، فسقيا الماء سبب لمغفرة كبائر الذنوب
فعن ابي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:( بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ثم خرج ,فاذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان قد بلغ مني فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقي فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له)
رواه البخاري ومسلم ، فهذا رجل غفر الله له بسبب سقيه لكلب فكيف بمن يسقي مسلمًا.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ قال: بينما كلب يطيف بركية - أي : بئر - ، كاد يقتله العطش ، إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل ، فنزعت موقها ، فسقته فغُفر لها به.
فتأملوا يا عباد أمرأة بغي أي زانية غفر لها بسقي كلب.
فرحم الله عبدا جعل برادة ماء في المساجد أو عند بيته ليستقي منها الناس وله الأجر العظيم عند الله إذا حسنت نيته.
اللهم اجعلنا من أهل الإيمان والبر والتقوى واغفر لنا ذنوبنا ويسرنا لليسرى وجنبنا العسرى.
المشاهدات 3381 | التعليقات 3
بارك الله فيك وفي قلبك ولسانك . تذكير ينفذ إلى القلب .
سلمت أناملك على ما كتبت في هذه الذكرى والموعظة الحية بأسلوبها ومضمونها شيخ عبدالله
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق