الاعتبار بتعاقب الليل والنهار

محمد بن عبدالله التميمي
1444/12/25 - 2023/07/13 11:23AM

 

الخطبة الأولى

الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي جَعَلَ عُمُرَ الإنسان سَفَرًا لأُخْرَاه طويلًا أو قصيرًا، والنَّاسُ سَائِرُونَ بأَعْمَالِهم، فَرَبِحَ الْمُتَيَقِّظُ رِبْحًا كَثِيرًا، وَهَلَكَ الْمُفَرِّطُ وتحسَّر ولاتَ ساعة مَنْدَمٍ أنْ أسْرَفَ تَقْصِيْرًا، عَرَضَتْ الشَّهَوَاتُ فَصَارَ الْجَاهِلُ لَهَا أَسِيرًا، وَكَمْ حَثَّهُ الشَّرْعُ عَلَى الْجَدِّ، كَمَا يَحُثُّ الْمُسْتَأْجِرُ أَجِيرًا، {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يذكر أو أراد شكوراً} .أَحْمَدُهُ حَمْدَ مَنْ جَعَلَ حَمْدَهُ مِصْبَاحًا شَهِيرًا، وَأُصَلِّي عَلَى رَسُولِهِ الْمَبْعُوثِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ، وَرَزَقَنَا حُسْنَ اتِّبَاعِهِ {وَكَانَ ربُّكَ قَدِيْرًا}، أما بعد:

فأُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَأَنْ تُثْنُوا عَلَيْهِ بِمَا هُوَ لَهُ أَهْلٌ، وَتَخْلِطُوا الرَّغْبَةَ بِالرَّهْبَةِ، وإِنَّ الْمُؤْمِنَ بَيْنَ مَخَافَتَيْنِ: بَيْنَ أَجَلٍ قَدْ مَضَى لا يَدْرِي مَا اللَّهُ صَانِعٌ فِيهِ، وَبَيْنَ أَجَلٍ قَدْ بَقِيَ لا يَدْرِي مَا اللَّهُ قَاضٍ فِيهِ، فَلْيَأْخُذِ الْعَبْدُ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ، وَمِنْ دُنْيَاهُ لآخِرَتِهِ، وَمِنَ الشَّبِيبَةِ قَبْلَ الْهَرَمِ، وَمِنَ الْحَيَاةِ قَبْلَ الْمَمات، وإِنَّكُمْ تَغْدُونَ وَتَرُوحُونَ فِي أَجَلٍ قَدْ غُيِّبَ عَنْكُمْ عِلْمُهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْقَضِيَ الْآجَالُ وَأَنْتُمْ فِي عَمَلِ اللَّهِ فَافْعَلُوا، وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا ذَلِكَ إِلَّا بِاللَّهِ، فَسَابِقُوا فِي مَهْلٍ آجَالَكُمْ، قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ آجَالُكُمْ.

أيها المسلمون.. إن الله تعالى حكيمٌ عليم، خلَقَ كلَّ شيءٍ فأَحْكَمَه، ولحِكمةٍ بالغةٍ خَلَقَه، فخلق الله الموتَ والحياةَ لاختبارِكم أيُّكم أحسَنُ عملًا بالإخلاص والصواب، وإليه المرجِعُ يوم القيامة فيَبْعَثُ الخلائقَ للجزاءِ والحساب، وجعل الشمسَ ضياءً والقمرَ نورًا وقدَّرَه منازلَ لتعلموا عددَ السنينَ والحساب، وإنَّ مِن خلْقِ الله القهار: تعاقبُ الليلِ والنهار، ومرور الشهورِ والأعوام، {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} ومن الحكم البالغة في ذلك: أن الإنسانَ كلَّما بَزَغَ فَجْر، تذكَّر فعَمِلَ صالحًا وابتغى عند الله الأجر، فتجدَّدَ نشاطُه، وارتاحت نفسُه، وهدَأَ قلبُه، قال الله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً﴾ أي: يذهب أحدُهما فيَعقُبُه الآخر، ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾ فجعل اللهُ الليلَ والنهارَ يتواليان على العباد ويتكرران؛ ليُحْدِثَ لهم الذُّكْرَ والشكرَ، فيتذكَّرُ ذنبه فيستغفر منه، ويتذكُّرُ حقَّ ربِّه فيَنْصَبُ في طاعته {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)} شُكْرًا لله، وتقويةً لِإيمانه بالله، فوظائفُ الطاعاتِ بمنزلةِ سَقْيُ الإيمانِ الذي يَمُدُّهُ فلولا ذلك لذَوَى غَرْسُ الإيمانِ ويَبُس. فلِلَّه أَتَمُّ حَمْدٍ وأَكْمَلُه. قال قَتَادَةُ رحمه الله: "فأَدُّوا إلى اللهِ مِن أعمالِكُم خيرًا في هذا الليلِ والنَّهارِ؛ فإنَّهما مَطيَّتانِ تُقْحِمانِ النَّاسَ إلى آجالِهم، يقرِّبانِ كلّ بعيدٍ، ويُبْلِيانِ كُلَّ جديدٍ، ويجيئانِ بكلِّ موعودٍ، إلى يوم القيامة".

عباد الله.. إذا كان تجارُ الدنيا يُحصُونَ ما حَصَّلوا في عامهم وما غرموا، فإنَّ الذي ينبغي لتاجرِ الآخرة -التي هي أعظمُ وخيرٌ وأبقى- أن يُحاسِبَ نفسَه على ما مضى من عامه، ويجددَ النشاطَ ويُوْثِقَ الرِّبَاط لما يَسْتَقْبِلُ من قادمِ أيامه.

إنَّ المؤمنَ يتذكرُ بتجدد الأعوام والسنين، مَن كان معه من أهلٍ وصحبٍ قد انفردوا في القبور بأعمالهم مرتهنين، لا يملك الواحد منهم زيادةَ حسنةٍ ولا نقصَ سيئة، ويعلم علم اليقين أن هذا سيكون له إنْ عاجلًا وإنْ آجلًا، فيَنْتِهِزُ الفُرصةَ بالعمل الصالح حتى لا يُغْبَنَ، قال الله تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ فإذا خسرها كان مغبونًا فيها، فكم يتمنى الحياةَ في صحةٍ وفراغٍ مَن لها أو لبعضها فَقَدْ، وودَّ أنْ لو سِلم من الخسارة ولا مناصَ يَجِد، فها قد منَّ الله عليه بالنعمة والرغَد، فلْنُرِ اللهَ من أنفسِنا خيرًا.

يا من يفرَحُ بكثرة مرور السِّنين عليه، إنما تفرَحُ بنقْص عمرك. قال أبو الدَّرداء والحسن: إنما أنتَ أيامٌ، كلَّما مضَى منك يومٌ مضَى بعضُك" قيل لمحمد بن واسع: كيف أصبحت؟ قال: "ما ظنك برجل يرتحل كل يوم مرحلة إلى الآخرة".

عباد الله.. إن كلَّ يومٍ مضى يُدني من الأجل، وليس الرابح إلا من بصالح العمل اشتغل، وإن للعبد رب هو ملاقيه وبيتٌ هو ساكنه، فينبغي له أن يسترضي ربه قبل لقائه، ويعمر بيته قبل انتقاله إليه، فعلينا أن ننظر فما يمكن تداركه فنقومُ به، وما لا يمكن استغفرنا الله منه، فثنَّ بإحسانٍ وأنت حميدُ، ولا تؤجِّل فلعل غدًا يأتي وأنت فقيدُ.

وإنَّ مما كان يدعو به النبيُّ ‘: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ" وهذان جِماعُ الْفَلاح وَمَا أُتِىَ العَبْد إلا من تضييعهما أَوْ تَضْييعِ أحدِهما، وصِدقُ العزيمةِ بالإعداد، ومِن اللهِ الإمداد، ثم بعدَ ذلك الصبر، فبذلك يكون الظفَر، وإنَّ شجرةَ الثباتِ والعزيمةِ لا تقومُ إلا على ساقِ الصبر، أما مجرد العزيمة بدون إعداد فإنها تَمَنٍّ، وذا وصف العاجز، قَالَ ‘: «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ».

فاستعدوا ليوم الرحيل، بالتوبةِ مما مضى، والإحسانِ فيما بقي، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}.

الخطبة الثانية

الحمدُ لله ربِّ البريَّات، أحمده سبحانه على ما أولى ومنَحَ مِنْ عطيَّات، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسولُه شهادةً أرجو بها الثبات، صلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وتابعيهم بإحسانٍ، أما بعد:

فلْيُحاسِب كلٌّ منا نفسَه فنحن اليوم أقدر على العلاج مِنَّا غدًا، وما ندري ما يأتي به الغدُ، واحذروا المعاصي فإنَّ أجسامكم على النار لا تقوى، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتأهبوا للعرض الأكبر على الله {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ}.

عباد الله.. ليس الإيمانُ بالتمِّني ولا بالتحلِّي، وليست التوبة مجردُ قولٍ باللسان من غير تخلٍّ عن المعاصي والذنوب، إنما الإيمانُ ما وَقَرَ في القلوب وصدَّقته الأعمال، وإنما التوبة الصادقة ندمٌ على ما مضى من الذنوب وإقلاعٌ عن المعاصي والعيوب، وإنابةٌ إلى الله بإصلاح العَمَل، ومراقبةٌ لله سبحانه وتعالى علامِ ما غاب عن المُقَل، فحقِّقُوا الإيمانَ بالتوبة فإنكم في زمن الإمكان.

طوبى لعبدٍ اعتبرَ بِمَرِّ الأيام والليالي، وتذكَّر بإعقابِ الليلِ: النهار، واتَّعَظَ بما فيها من تقلبات الأمور والأحوال، طوبى لعبدٍ استدلَّ بتقلباتها على ما لله فيها من الحكم البالغة والأسرار.

عباد الله.. ليس التذكيرُ بالمحاسبة لخصوص آخر العام بذات العمل في شيء، إنما هو حالٌ يتذكر به المؤمن مَرَّ الأيام، وانقضاءَ الأعمار، فيَعْتَبِر، وللواجبِ اليومي يتذكَّر، فيُحاسبُ نفسَه ويتوبُ ويؤوب، قَالَ رَسُولُ اللهِ ‘: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ.. تُوبُوا إِلَى اللهِ، فَإِنِّي أَتُوبُ فِي الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّةٍ».

المرفقات

1689236601_الاعتبار بتعاقب الليل والنهار.docx

1689236601_الاعتبار بتعاقب الليل والنهار.pdf

المشاهدات 721 | التعليقات 0