الاعتبار بتصرم الأعمار
محمد بن عبدالله التميمي
1443/12/30 - 2022/07/29 06:15AM
الحمد للهِ، الحمدُ للهِ الذي خلَقَ كلَّ شيءٍ فقدَّرهُ تقديرا، جعَل الليلَ والنهارَ خلفةً لمن أراد أن يذَّكَّر أو أراد شكورا، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ الواحدُ الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الأمين، بلَّغ الرسالةَ وأدَّى الأمانةَ ونصَح الأمةَ، وجاهَد في اللهِ حقَّ جِهَادِهِ حتى أتاه اليقينُ، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستنَّ بسُنَّتِه إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، فحياةُ الإنسَانِ مرَاحِل، والناسُ في هذهِ الدنيا ما بين مُستَعِدٍّ للرحيلِ وراحِل، وكلُّ نَفَسٍ يُدني مِنَ الأجَل، والموَفَّقُ مَنْ حاسَبَ نفسَهُ يومًا بيوم، وساعةً بساعة.. فهنيئًا لمن أحسَنَ واستقام، والويلُ لمن أساءَ وارتكَبَ الآثام، ويتوبُ اللهُ على مَن تاب، (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ).
أيها المؤمنون: في تقلُّبِ الأيامِ، وتَصَرُّمِ الأعوام؛ عبرةٌ لأولي الألباب (إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ لَأٓيَٰتٖ لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ) .
وفي تقلبِهَا تذكرةٌ لكل مؤمنٍ حيٍّ أن يراجعَ نفسه ويحاسبها، كلما مَرَّ عليه ليلٌ ونهارٌ، وتتابعتْ الأعوامُ وتسارعتْ الأعصار .
وقد وبَّخَ اللهُ مَنْ فرَّطَ في وقتهِ ولم ينتَفِعْ بهِ في آخرتِه، قال عز وجل: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ).
الليالي والأيامُ خَزائنُ للأعمال، ومراحلُ للأعمار، تُبلِي الجديدَ، وتُقرِّبُ البعيدَ، والكلُّ إلى الله يَسِيرُ، قال عليه الصلاة والسلام: "كلُّ الناسِ يغدو؛ فبائعٌ نفسَه فمعتِقُها أو مُوبِقُها" رواه مسلم.
عباد الله: لا خُلْدَ في الدنيا يُرتَجى، ولا بقاءَ فيها يُؤمَّل: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) ، (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)
كم مِنْ مُستَقبِلٍ يومًا لا يَسْتَكْمِلُه، وكم مِنْ مُؤمِّلٍ غَدا لا يُدرِكُه، (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)
ألا إنه ينبغي للمسلمِ أن يتعاهدَ قلبَه، فيتطلبَ أسبابَ صلاحِهِ وخَشيتِهِ، ويحاذِرَ أسبابَ فسادِهِ وقسوتِه، فإذا أكرمكَ اللهُ بالعافيةِ وطولِ العُمُرِ، فَكُن لِرَبِّكَ شاكرًا، ولفضلِهِ ذاكرًا، واحذَر أن تتمادَى وتتهاون بأمرهِ فيقسوَ قلبُك، ويفسدَ عملُك.
(أَلَم يَأنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخشَعَ قُلُوبُهُم لِذِكرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبلُ فَطَالَ عَلَيهِمُ الأَمَدُ فَقَسَت قُلُوبُهُم وَكَثِيرٌ مِنهُم فَاسِقُونَ). هَذَا العِتَابُ مِنَ اللهِ -تَعَالى- كان لأَصحَابِ مُحَمَّدٍ وَهُم خَيرُ الأُمَّةِ، وَفي زَمَنِ النُّبُوَّةِ وَالإِيمَانِ وَالخَيرِيَّةِ؛ فنحن في هَذَا الزَّمَانِ الَّذِي كَثُرَت فِيهِ الفِتَنُ أَولَى وَأَحَقُّ أَن نُعَاتِبَ أَنفُسَنَا وَنُحَاسِبَهَا.
إن إِلْفَ النعمةِ، واعتيادَ الرخاءِ، مع قلةِ الشكرِ، وكثرةِ الغفلةِ عن اللهِ، لمن أهمِّ أسبابِ قسوةِ القلبِ، والقُلُوبُ إذا قَسَتْ لم تنتفعْ بذكرٍ ولا عملٍ، ولم تتأثرْ بكلمةٍ ولا موعظةٍ، فيُحرمُ العبدُ لذةَ مناجاةِ اللهِ تعالى، والتضرعِ والانكسارِ له سبحانه .
لقد قستْ قلوبُنا، فصرنا عند استماعِ القرآنِ وتلاوتِه لا تدمعُ عيونُنا، ولا تقشعِرُّ جلودُنا، تتهادَى إلى أسماعِنا الآياتُ العظيمة فلا يتحركُ لنا ساكنُ، وهي لو نزلت على جبلٍ لتصدعَ من خشيةِ الله! نقرأُ القارعةَ والزلزلةَ والحاقةَ وأهوالَ الصاخَّةِ، (يومَ يفرُّ المرءُ من أخيهِ . وأمِّهِ وأبيه . وصاحبته وبنيه) فلا نتأثر! نسمعُ عن موتِ فلانٍ وفلانٍ، نشيِّعُ الجنائزَ وندخلُ المقابرَ فلا نتغير! نألفُ المنكراتِ في أنفسنا وفي بيوتنا حتى لكأنَّ الحرامَ صار حلالًا، ونُعرِضُ عن سماع النصح والناصحين كأنه موجه لغيرنا لا لنا، أما آن لنا أن نراجع أعمالنا ونحاسب أفعالنا ؟ أما آن لنا أن نتوب من الذنوب ﵟإِنَّمَا ٱلتَّوۡبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسُّوٓءَ بِجَهَٰلَةٖ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٖ فَأُوْلَٰٓئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمۡۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا ١٧ وَلَيۡسَتِ ٱلتَّوۡبَةُ لِلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِ حَتَّىٰٓ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلۡمَوۡتُ قَالَ إِنِّي تُبۡتُ ٱلۡـَٰٔنَ وَلَا ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمۡ كُفَّارٌۚ أُوْلَٰٓئِكَ أَعۡتَدۡنَا لَهُمۡ عَذَابًا أَلِيمٗاﵞ
ها قد أقبلَ عامٌ جديدٌ ومضى آخرُ بما أودعنا فيه من حسناتٍ وسيئاتٍ، فهنيئًا لمن استكثرَ من الحسناتِ، والباقياتِ الصالحاتِ، سُئل رسول الله أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: "مَنْ طَالَ عُمْرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ"، قِيلَ: فَأَيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟ قَالَ: " مَنْ طَالَ عُمْرُهُ، وَسَاءَ عَمَلُهُ ".
فلنعْقِدِ العزمَ على المحافظةِ على الصلَواتِ الخمسِ في المسَاجِدِ جماعةً معَ المسلمين، والتزوُّدِ مِنَ العلمِ النافعِ، وحفظِ اللسانِ مِنَ المُحَرَّمات -مِنَ الكذبِ والغيبةِ والفُحش- .. ولنحرِصْ على برِّ الوالدينِ وصِلَةِ الأرحام، وبَذْلِ المعروفِ للقريبِ والبعيد، وتَطهيرِ القلبِ مِنَ الحسَدِ والعداوَةِ والبغضاء، ولنجتهدْ في القيامِ بحقِّ الله، وأداءِ حقوقِ الأولادِ والزوجةِ على الوجهِ الأكمل، وغَضِّ البصرِ عن النظرِ إلى المُحرَّماتِ في الطُرُقَاتِ وأمامَ الشاشَات.
طوبى لعبدٍ انتفَعَ بعُمُرِهِ فاستقبَلَ عامَهُ بمحاسَبةِ نَفسِهِ على ما مضى، فالعاقلُ مَن اتّعظَ بأمْسِهِ، واجتهَدَ في يَوْمِه، واستعدَّ لِغَدِه. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه .
الخطبة الثانية
الحمد لله.
أما بعد: عبادَ الله: قصِّروا الأمل، وأصْلِحوا العمل، وحَاذِروا بغتَةَ الأجل، واللهَ اللهَ بصِدقِ التوبةِ، وحُسْنِ الإنابة، ورَدِّ الحقوقِ إلى أهلها، والتحلُّلِ مِنْ أصحابها.
بادِروا الحياةَ قبلَ الموت، والفراغَ قبل الشُّغْل، والغِنى قبل الفقر، والشبابَ قبل الهَرَم، والصحةَ قبل السَّقَم، (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِين * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ).
ثم صلوا وسلموا .
*من قناة د.الغفيلي بالتليجرام جزاه الله خيرا*