الاشتياق لمكارم الأخلاق
خالد علي أبا الخيل
1437/05/25 - 2016/03/05 13:25PM
الاشتياق لمكارم الأخلاق
التاريخ: الجمعة: 17/ جماد الأولى/ 1437 هـ
الحمد لله، الحمد لله الذي نشتاقه في كل شيء أنه خلاقه، الحمد لله الذي دليله في كل شيء واضح سبيله، الحمد لله الذي من جحده فإنما ينكر ربًا أوجده، الحمد لله الذي من أنكره فإنما ينكر ربًا صوره، وبعد.
وبعد إني باليقين أشهد
*** شهادة الإخلاص ألا يعبدُ
بالحق مألوه سوى الرحمن
*** من جل عن عيب وعن نقصان
وأن خير خلقه محمدًا
*** من جاءنا بالبينات والهدى
رسوله إلى جميع الخلق
*** بالنور والهدى ودين الحق
صلى عليه وربنا ومجدا
*** والآل والصحب دومًا سرمدَ
أما بعد:
فاتقوا الله حق التقوى في السر والعلن والنجوى.
إخوة الإسلام: إن الله خلق الإنسان مدنيًا بالطبع يؤثر الاجتماع على العزلة، ويأنس بغيره، الإنسان لابد وأن يخالط غيره في بيعه وشراءه، في عمله ووظيفته بل في عبادته وطاعته كصلاته وحجه، وعمرته، واتباع الجنائز وعيادته، وصلته وزيارته، لم يوجده الله في جوف مغارة، أو منعزلًا في زاوية، وليس على رأس جبل، أو منطويًا في صومعة، بل مخالطًا مجالسًا، وبائعًا وآنسًا.
إذا كان بهذه الحالة، ولابد له من خلطة، ولا مفارقة فعليه حسن المعاملة.
يقول الطيبي -رحمه الله تعالى-: إن الإنسان إذا خرج من منزله لابد أن يعاشر الناس ويزاول الأمور انتهى. ولهذا في دعاء الخروج من المنزل يقول: (اللهم إني أعوذ بك أن أظلم أو أُظلم، أو أضل أو أُضل، أو أذل أو أُذل) إن إرادات الناس مختلفة، ومداركه ومداركهم متفاوتة، وأحوالهم متنوعة، ومنازلهم متعددة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: الإنسان خُلق ظلومًا جهولًا، فالأصل فيه عدم العلم، وميله إلى ما يهواه من الشر فيحتاج إلى علم وعدل، علم ينافي جهله، وعدل ينافي ظلمه.
ولهذا الناس مختلفون في طبائعهم، ومتفاوتون في أخلاقهم، وخير الناس من أنزل الناس منزلتهم دون لبس أو اختلاس، فيعطي كلًا حقه ويحسن خلقه، ويتعامل معهم بحلمه، وعلمه، ورفقه، وما حصل من افتراق، وسوء بعدٍ وشقاق إلا لما ساءت المعاملة، وحرم صاحب الحق حقه، وساءت الأخلاق، وساد الشقاق، فهذا يشاكس أباه على منع حق إياه فعق أباه، وابنًا عق أباه فساء في تعامله إياه، وهذا قطع أخته وأخاه، وهذا قطع أخواله وأعمامه، وساء إلى جيرانه، وأحبابه، وهذا مُعبس في وجهه، سريع غضبه، وآخر فارق زوجته الحصان إثر خلاف يسير بلا برهان، وآخر هجر أخاه وصرم صديقه وحماه، وهكذا في صور من التشتت، وألوان من التفرق والتفكك، ومرجع ذلك إلى سوء المعاملة، وعدم إنزال الإنسان منزلته والتعامل الحسن والخلق الأجمل، وخير من تعلم سيرته، وعلم الناس معاملة غيره بقوله وفعله، وأخلاقه وتعامله، هو من أنزل الله في كتابه صفته: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[القلم:4].
فهو أسوتنا، وقدوتنا كما أرشدنا إلى ذلك مولانا: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)[الأحزاب:21]، يقول ابن كثير: هذه الآية الكريمة، أصل كبير في التأسي برسول الله بأقواله وأعماله وجميع أحواله، فمن العلاج بث الوعي والمنهاج لمن يخفى عليه هديه في معاملاته وتعامله فإشاعة هديه ونشر أخلاقه سبيل لاقتفاء أثره، واتباع سنته، وسلوك طريقته، وتحسين خلق من ساء خُلقه، وساءت معاملته، فدونك أيها المستمع الكريم شيئًا من هدي من أرسله للمؤمنين رءوف رحيم، وهو تعامله مع الناس علها يُنظم فيها شمل، ويوحد فيها صف، ويحسن بها خلقَ، علها أن تجمع ما تمزق، وتضم ما تشتت وتفرق.
إِذا المَرءُ لَم يُدنَس مِنَ اللُؤمِ عِرضُهُ
فَكُلُّ رِداءٍ يَرتَديهِ جَميلُ
وَإِن هُوَ لَم يَحمِل عَلى النَفسِ ضَيمَها
فَلَيسَ إِلى حُسنِ الثَناءِ سَبيلُ
فمن هديه -عليه الصلاة والسلام- معاملته الناس بحسن الخلق فهو من أعظم ما يجلب الود ويحمل الرفق، واسمع إلى تفصل نبيلٍ من عالم جليل، قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: ليس للقلب أنفع من معاملة الناس باللطف، فإن معاملة الناس بذلك إما أجنبي فتكشف مودته ومحبيه، وإما صاحب وحبيب فتستديم صحبته ومودته، وإما عدو مبغض فتطفئ بلطفك جمرته وتستكفي شره.
ولهذا كانت سيرته -عليه الصلاة والسلام- هي القدوة الحسنة، قال أنس -رضي الله تعالى عنه-: كان النبي - أحسن الناس خلقًا، ولا غرو فقد زكاه ربه: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[القلم:4].
قال سعد بن هشام لعائشة: (أنبئيني عن خلق رسول الله قالت: ألست تقرأ؟ قلت: بلى، قالت: فإن خلق نبي الله كان القرآن)، تعني أنه تأدب بآدابه، وتخلق بأخلاقه، ولهذا لم يكن فاحشًا، ولا متفحشا، ولا صخابًا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، قال أنس -رضي الله تعالى عنه-: (لم يكن النبي سبابًا ولا فحاشًا ولا لعانًا بل كان يقول لأحدنا عند المعتبة: ما له تربت يمينه)، وكان لشدة حياءه لا يواجه احدًا بما يكره"، بل تُعرف الكراهية في وجهه كما قال سعيد الخدري -رضي الله تعالى عنه-: (كان أشد حياء من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئًا يكرهه عرفناه في وجهه)، بل وصفه الله وزكاه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾[آل عمران:159]، ولهذا من مقاصد بعثته تمام وإكمال خلق أمته: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، وفي رواية (صالح الأخلاق) ومن شمولية هذا الدين وعظمته أنه دين الأخلاق الفاضلة، والسجايا الحميدة الوافية:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
إن حسن الخلق بين الناس من أعظم ما يبني أسس البناء وعيش السعداء، صلاح الأفراد والأسر والمجتمعات، وسلامة من السوء والمكدرات، ولهذا كانت الوصية النبوية بألفاظه الذكية: (وخالق الناس بخلق حسن)، (وأكمل الناس إيمانًا أحسنهم خلقا)، (وحسن الخلق، ذهب بخيري الدنيا والآخرة)، (وأثقل ما يوضع في الميزان ويرضي الرحمن، ويغضب الشيطان)
ولو أنني خيرت كل فضيلة
ما اخترت غير مكارم الأخلاق
الأخلاق الحسنة من أسباب دخول الجنة، ففي صحيح السنة عنه -عليه الصلاة والسلام-: (وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه)، ولما سئل عن أكثر ما يُدخل الناس الجنة؟ قال: (تقوى الله، وحسن الخلق).
الأخلاق الحسنة سبب في محبة الله لعبده: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ)[آل عمران:146]، (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)[المائدة:42]، (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[المائدة:13] وهكذا في سلسلة أخلاق المؤمنين، الأخلاق الحسنة سبب لمحبة رسول الأمة، يقول -عليه الصلاة والسلام-: (إن من أحبكم إلي، وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة: أحاسنكم أخلاق) رواه الترمذي.
يدرك المرء بالخلق الحسن ما لا يدركه القائم الصائم،
لا خَيْلَ عِندَكَ تُهْديهَا وَلا مالُ
فَليُسْعِدِ النُّطْقُ إنْ لم تُسعِدِ الحالُ
الأخلاق الحسنة سبب للألفة والمودة، والرحمة والمحبة، والاجتماع والشفقة.
الأخلاق الحسنة تربط الأسرة، وتقوي الصلة، وتزيل المحن والشحناء والفرقة، الأخلاق الحسنة أيها الإخوة في القرآن والسنة تزيد في الأعماق وتعمر الديار، وتأصل الجوار.
الأخلاق الحسنة من أجل الخصال، وأحسن الأفعال وسبب لصلاح العيال،
وما المَرْءُ إلاَّ حيثُ يَجْعَلُ نَفْسَهُ
فَفِي صالِح الأَعمالِ نَفْسَكَ فاجْعلِ
الأخلاق الحسنة سبب لراحة البال وطمأنينة الحال، حسن الخلق في التعامل مع الناس بصدق، وابتسامة وبشاشة ورفق، واسمع كلام الهمام وعلم الأعلام شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- حيث قال: والسعادة في معاملة الخلق أن تعاملهم لله، فترجو الله فيهم ولا ترجوهم في الله، وتخاف الله فيهم ولا تخافهم في الله، وتحسن إليهم رجاء ثواب الله لا لمكافأتهم وتكف عن ظلمهم، خوفًا من الله لا منهم.
وخذ هذه الفائدة واجعلها لك قاعدة: قال -رحمه الله تعالى-: العارف لا يرى له على أحد حق، العارف لا يرى له على أحد حق، العارف لا يرى له على أحد حق، و يشهد له على غيره فضلًا؛ ولذلك لا يعاتب ولا يطالب، ولا يضارب.
أُحِبُّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ جَهْدِي
وَأَكْرَهُ أَنْ أَعِيبَ وَأَنْ أُعَابَا
وَأَصْفَحُ عَنْ سِبَابِ النَّاسِ حِلْمًا
وَشَرُّ النَّاسِ مَنْ يَهْوَى السِّبَابَا
قلت ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين ، ديننا دين الأخلاق والجمال والبهاء والنقاء والجلال.
دين يشيد آية في آيةٍ
لبناته السورات والأضواء
الحق فيه هو الأساس وكيف لا
والله منزله هدى وضياء
.
الأخلاق الحسنة معيار الأمة ورمزها، وعنوان تماسكها وتواصلها، ورمز فلاحها واجتماعها، وسمة عقيدتها ومبادئها، ودليل التزامها وتآلفها. أما إذا خلت وعن الأخلاق الحسنة نأت فسرعان ما يدب لها الفساد، والفرقة والبعاد،
وإذا أصيب القوم في أخلاقهم
فأقم عليهم مأتما وعويلا
أخلاقك عنوان سعادتك، وراحة بالك، وأمتك، واستقرارك، وأمنك، أخلاقك تجلب لك المودة، وتأصل في غيرك لك المحبة.
أيها المسلمون: الآداب السامية، والأخلاق العالية تحتاج إلى همة عالية، وترويضات صابرة، فلابد من صبر ومثابرة على نبيل الصفات وكريم الهبات، واتصاف بالسجايا وجهد في المزايا تعليمًا وتهذيبًا، واقتداء وتقويمًا، (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)[العنكبوت:69]، فالعلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، والصبر بالتصبر حتى يكون التخلق وتهذيب النفس خلقًا، وتطبعًا وطبعًا،
وفي الحلمِ والإسلامِ للمرءِ وازعٌ
وفي تركِ طاعاتِ الفؤادِ المتيَّمِ
بَصَائِرُ رُشْدٍ للفَتى مُسْتَبينَة ٌ
وأخلاقُ صدقٍ علمُها بالتَّعلُّمِ
ومن وسائل اكتساب الأخلاق:
تصحيح العقيدة فسلوك اللسان بقوة معتقده، وسلامة سريرته، والتمسك بدينه، والتخلق بما في الكتاب والسنة، ومنها النظر في مقاصد العبادات كالصيام والصلوات والحج والزكاوات، وغيرها من العبادات، فهي تربية وتنشئة وأخلاق مكتسبة، وزكاة للنفوس مطهرة.
ومن المكاسب لكل خلق متخلق طالب ما في قصص القرآن والسنة، من المواقف والعجائب والعبرة، ومن الأسباب، فتح لكم من الخير كل باب، التفكر والتأمل في الآثار المترتبة على حسن الخلق، وآثاره الجميلة وعواقبه الحميدة، ونعلو الهمة لمن أراد الجنة، قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: فمن علت همته وخشعت نفسه، اتصف بكل خلق جميل، ومن دنت همته وطغت نفسه، اتصف بكل خلق رزيل.
وقال: النفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها وأفضلها وأحمدها عاقبة، ومن ذلك الصبر والعفة، قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: حسن الخلق يقوم على أربعة أركان:
الصبر، والعفة، والشجاعة، والعدل، ومنها الصحبة، (فالمرء على دين خليله) والطباع سراقة، والصاحب ساحب،
لا تصحب الكسلان في حالاته
كم صالح بفساد آخر يفسد
عدوى البليد إلى الجليد سريعة
كالجمر يوضع في الرماد فيخمد
ومن مكاسب الأخلاق: أن يتخذ الناس مرآة لنفسه، فعند مسلم في صحيحه: (من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يحب أن يأتي للناس ما يؤتى إليه)، فيعامل الناس بمثل أن يحب أن يعاملوه،
إِنَّ السَعيدَ لَهُ في غَيرِهِ عِظَةٌ
وَفي التَجارِبِ تَحكيمٌ وَمُعتَبَرُ
وما أحسن من قال:
ذا أَعْجَبَتْكَ خِصالُ امْرِئٍ
فَكُنْهُ يَكُنْ مِنْكَ مَا يُعْجِبُكْ
فليس على المجد والمكرمات
إذا جئتها حاجب يحجبك
وكذا القدوة الحسنة من أسباب الأخلاق الحسنة، والتخلق بأخلاق أهل العلم والفضل والمروءة والعدل، جاء عن الأحنف قال: كنا نختلف على قيس بن عاصم نتعلم منه الحلم كما نتعلم منه الفقه، وكان أصحاب عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- يرحلون إليه فينظرون إلى سمته وهديه ودله فيتشبهون به،
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم
إن التشبه بالكرام فلاح
وقال ابن سيرين -رحمه الله تعالى-: كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم، وقال ابن إسماعيل: كنا نجتمع في مجلس الإمام أحمد زهاء خمسة آلاف، خمسمائة يكتبون والباقي يتعلمون من حسن الأدب وحسن السمت.
وقال إبراهيم بن حبيب لابنه: وإئت الفقهاء والعلماء، وتعلم منهم، وخذ من أدبهم وأخلاقهم وهديهم.
وقال الأعمش: كانوا يأتون همام فيتعلمون من هديه وسمته.
والله أعلم
التاريخ: الجمعة: 17/ جماد الأولى/ 1437 هـ
الحمد لله، الحمد لله الذي نشتاقه في كل شيء أنه خلاقه، الحمد لله الذي دليله في كل شيء واضح سبيله، الحمد لله الذي من جحده فإنما ينكر ربًا أوجده، الحمد لله الذي من أنكره فإنما ينكر ربًا صوره، وبعد.
وبعد إني باليقين أشهد
*** شهادة الإخلاص ألا يعبدُ
بالحق مألوه سوى الرحمن
*** من جل عن عيب وعن نقصان
وأن خير خلقه محمدًا
*** من جاءنا بالبينات والهدى
رسوله إلى جميع الخلق
*** بالنور والهدى ودين الحق
صلى عليه وربنا ومجدا
*** والآل والصحب دومًا سرمدَ
أما بعد:
فاتقوا الله حق التقوى في السر والعلن والنجوى.
إخوة الإسلام: إن الله خلق الإنسان مدنيًا بالطبع يؤثر الاجتماع على العزلة، ويأنس بغيره، الإنسان لابد وأن يخالط غيره في بيعه وشراءه، في عمله ووظيفته بل في عبادته وطاعته كصلاته وحجه، وعمرته، واتباع الجنائز وعيادته، وصلته وزيارته، لم يوجده الله في جوف مغارة، أو منعزلًا في زاوية، وليس على رأس جبل، أو منطويًا في صومعة، بل مخالطًا مجالسًا، وبائعًا وآنسًا.
إذا كان بهذه الحالة، ولابد له من خلطة، ولا مفارقة فعليه حسن المعاملة.
يقول الطيبي -رحمه الله تعالى-: إن الإنسان إذا خرج من منزله لابد أن يعاشر الناس ويزاول الأمور انتهى. ولهذا في دعاء الخروج من المنزل يقول: (اللهم إني أعوذ بك أن أظلم أو أُظلم، أو أضل أو أُضل، أو أذل أو أُذل) إن إرادات الناس مختلفة، ومداركه ومداركهم متفاوتة، وأحوالهم متنوعة، ومنازلهم متعددة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: الإنسان خُلق ظلومًا جهولًا، فالأصل فيه عدم العلم، وميله إلى ما يهواه من الشر فيحتاج إلى علم وعدل، علم ينافي جهله، وعدل ينافي ظلمه.
ولهذا الناس مختلفون في طبائعهم، ومتفاوتون في أخلاقهم، وخير الناس من أنزل الناس منزلتهم دون لبس أو اختلاس، فيعطي كلًا حقه ويحسن خلقه، ويتعامل معهم بحلمه، وعلمه، ورفقه، وما حصل من افتراق، وسوء بعدٍ وشقاق إلا لما ساءت المعاملة، وحرم صاحب الحق حقه، وساءت الأخلاق، وساد الشقاق، فهذا يشاكس أباه على منع حق إياه فعق أباه، وابنًا عق أباه فساء في تعامله إياه، وهذا قطع أخته وأخاه، وهذا قطع أخواله وأعمامه، وساء إلى جيرانه، وأحبابه، وهذا مُعبس في وجهه، سريع غضبه، وآخر فارق زوجته الحصان إثر خلاف يسير بلا برهان، وآخر هجر أخاه وصرم صديقه وحماه، وهكذا في صور من التشتت، وألوان من التفرق والتفكك، ومرجع ذلك إلى سوء المعاملة، وعدم إنزال الإنسان منزلته والتعامل الحسن والخلق الأجمل، وخير من تعلم سيرته، وعلم الناس معاملة غيره بقوله وفعله، وأخلاقه وتعامله، هو من أنزل الله في كتابه صفته: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[القلم:4].
فهو أسوتنا، وقدوتنا كما أرشدنا إلى ذلك مولانا: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)[الأحزاب:21]، يقول ابن كثير: هذه الآية الكريمة، أصل كبير في التأسي برسول الله بأقواله وأعماله وجميع أحواله، فمن العلاج بث الوعي والمنهاج لمن يخفى عليه هديه في معاملاته وتعامله فإشاعة هديه ونشر أخلاقه سبيل لاقتفاء أثره، واتباع سنته، وسلوك طريقته، وتحسين خلق من ساء خُلقه، وساءت معاملته، فدونك أيها المستمع الكريم شيئًا من هدي من أرسله للمؤمنين رءوف رحيم، وهو تعامله مع الناس علها يُنظم فيها شمل، ويوحد فيها صف، ويحسن بها خلقَ، علها أن تجمع ما تمزق، وتضم ما تشتت وتفرق.
إِذا المَرءُ لَم يُدنَس مِنَ اللُؤمِ عِرضُهُ
فَكُلُّ رِداءٍ يَرتَديهِ جَميلُ
وَإِن هُوَ لَم يَحمِل عَلى النَفسِ ضَيمَها
فَلَيسَ إِلى حُسنِ الثَناءِ سَبيلُ
فمن هديه -عليه الصلاة والسلام- معاملته الناس بحسن الخلق فهو من أعظم ما يجلب الود ويحمل الرفق، واسمع إلى تفصل نبيلٍ من عالم جليل، قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: ليس للقلب أنفع من معاملة الناس باللطف، فإن معاملة الناس بذلك إما أجنبي فتكشف مودته ومحبيه، وإما صاحب وحبيب فتستديم صحبته ومودته، وإما عدو مبغض فتطفئ بلطفك جمرته وتستكفي شره.
ولهذا كانت سيرته -عليه الصلاة والسلام- هي القدوة الحسنة، قال أنس -رضي الله تعالى عنه-: كان النبي - أحسن الناس خلقًا، ولا غرو فقد زكاه ربه: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[القلم:4].
قال سعد بن هشام لعائشة: (أنبئيني عن خلق رسول الله قالت: ألست تقرأ؟ قلت: بلى، قالت: فإن خلق نبي الله كان القرآن)، تعني أنه تأدب بآدابه، وتخلق بأخلاقه، ولهذا لم يكن فاحشًا، ولا متفحشا، ولا صخابًا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، قال أنس -رضي الله تعالى عنه-: (لم يكن النبي سبابًا ولا فحاشًا ولا لعانًا بل كان يقول لأحدنا عند المعتبة: ما له تربت يمينه)، وكان لشدة حياءه لا يواجه احدًا بما يكره"، بل تُعرف الكراهية في وجهه كما قال سعيد الخدري -رضي الله تعالى عنه-: (كان أشد حياء من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئًا يكرهه عرفناه في وجهه)، بل وصفه الله وزكاه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾[آل عمران:159]، ولهذا من مقاصد بعثته تمام وإكمال خلق أمته: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، وفي رواية (صالح الأخلاق) ومن شمولية هذا الدين وعظمته أنه دين الأخلاق الفاضلة، والسجايا الحميدة الوافية:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
إن حسن الخلق بين الناس من أعظم ما يبني أسس البناء وعيش السعداء، صلاح الأفراد والأسر والمجتمعات، وسلامة من السوء والمكدرات، ولهذا كانت الوصية النبوية بألفاظه الذكية: (وخالق الناس بخلق حسن)، (وأكمل الناس إيمانًا أحسنهم خلقا)، (وحسن الخلق، ذهب بخيري الدنيا والآخرة)، (وأثقل ما يوضع في الميزان ويرضي الرحمن، ويغضب الشيطان)
ولو أنني خيرت كل فضيلة
ما اخترت غير مكارم الأخلاق
الأخلاق الحسنة من أسباب دخول الجنة، ففي صحيح السنة عنه -عليه الصلاة والسلام-: (وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه)، ولما سئل عن أكثر ما يُدخل الناس الجنة؟ قال: (تقوى الله، وحسن الخلق).
الأخلاق الحسنة سبب في محبة الله لعبده: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ)[آل عمران:146]، (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)[المائدة:42]، (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[المائدة:13] وهكذا في سلسلة أخلاق المؤمنين، الأخلاق الحسنة سبب لمحبة رسول الأمة، يقول -عليه الصلاة والسلام-: (إن من أحبكم إلي، وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة: أحاسنكم أخلاق) رواه الترمذي.
يدرك المرء بالخلق الحسن ما لا يدركه القائم الصائم،
لا خَيْلَ عِندَكَ تُهْديهَا وَلا مالُ
فَليُسْعِدِ النُّطْقُ إنْ لم تُسعِدِ الحالُ
الأخلاق الحسنة سبب للألفة والمودة، والرحمة والمحبة، والاجتماع والشفقة.
الأخلاق الحسنة تربط الأسرة، وتقوي الصلة، وتزيل المحن والشحناء والفرقة، الأخلاق الحسنة أيها الإخوة في القرآن والسنة تزيد في الأعماق وتعمر الديار، وتأصل الجوار.
الأخلاق الحسنة من أجل الخصال، وأحسن الأفعال وسبب لصلاح العيال،
وما المَرْءُ إلاَّ حيثُ يَجْعَلُ نَفْسَهُ
فَفِي صالِح الأَعمالِ نَفْسَكَ فاجْعلِ
الأخلاق الحسنة سبب لراحة البال وطمأنينة الحال، حسن الخلق في التعامل مع الناس بصدق، وابتسامة وبشاشة ورفق، واسمع كلام الهمام وعلم الأعلام شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- حيث قال: والسعادة في معاملة الخلق أن تعاملهم لله، فترجو الله فيهم ولا ترجوهم في الله، وتخاف الله فيهم ولا تخافهم في الله، وتحسن إليهم رجاء ثواب الله لا لمكافأتهم وتكف عن ظلمهم، خوفًا من الله لا منهم.
وخذ هذه الفائدة واجعلها لك قاعدة: قال -رحمه الله تعالى-: العارف لا يرى له على أحد حق، العارف لا يرى له على أحد حق، العارف لا يرى له على أحد حق، و يشهد له على غيره فضلًا؛ ولذلك لا يعاتب ولا يطالب، ولا يضارب.
أُحِبُّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ جَهْدِي
وَأَكْرَهُ أَنْ أَعِيبَ وَأَنْ أُعَابَا
وَأَصْفَحُ عَنْ سِبَابِ النَّاسِ حِلْمًا
وَشَرُّ النَّاسِ مَنْ يَهْوَى السِّبَابَا
قلت ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين ، ديننا دين الأخلاق والجمال والبهاء والنقاء والجلال.
دين يشيد آية في آيةٍ
لبناته السورات والأضواء
الحق فيه هو الأساس وكيف لا
والله منزله هدى وضياء
.
الأخلاق الحسنة معيار الأمة ورمزها، وعنوان تماسكها وتواصلها، ورمز فلاحها واجتماعها، وسمة عقيدتها ومبادئها، ودليل التزامها وتآلفها. أما إذا خلت وعن الأخلاق الحسنة نأت فسرعان ما يدب لها الفساد، والفرقة والبعاد،
وإذا أصيب القوم في أخلاقهم
فأقم عليهم مأتما وعويلا
أخلاقك عنوان سعادتك، وراحة بالك، وأمتك، واستقرارك، وأمنك، أخلاقك تجلب لك المودة، وتأصل في غيرك لك المحبة.
أيها المسلمون: الآداب السامية، والأخلاق العالية تحتاج إلى همة عالية، وترويضات صابرة، فلابد من صبر ومثابرة على نبيل الصفات وكريم الهبات، واتصاف بالسجايا وجهد في المزايا تعليمًا وتهذيبًا، واقتداء وتقويمًا، (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)[العنكبوت:69]، فالعلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، والصبر بالتصبر حتى يكون التخلق وتهذيب النفس خلقًا، وتطبعًا وطبعًا،
وفي الحلمِ والإسلامِ للمرءِ وازعٌ
وفي تركِ طاعاتِ الفؤادِ المتيَّمِ
بَصَائِرُ رُشْدٍ للفَتى مُسْتَبينَة ٌ
وأخلاقُ صدقٍ علمُها بالتَّعلُّمِ
ومن وسائل اكتساب الأخلاق:
تصحيح العقيدة فسلوك اللسان بقوة معتقده، وسلامة سريرته، والتمسك بدينه، والتخلق بما في الكتاب والسنة، ومنها النظر في مقاصد العبادات كالصيام والصلوات والحج والزكاوات، وغيرها من العبادات، فهي تربية وتنشئة وأخلاق مكتسبة، وزكاة للنفوس مطهرة.
ومن المكاسب لكل خلق متخلق طالب ما في قصص القرآن والسنة، من المواقف والعجائب والعبرة، ومن الأسباب، فتح لكم من الخير كل باب، التفكر والتأمل في الآثار المترتبة على حسن الخلق، وآثاره الجميلة وعواقبه الحميدة، ونعلو الهمة لمن أراد الجنة، قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: فمن علت همته وخشعت نفسه، اتصف بكل خلق جميل، ومن دنت همته وطغت نفسه، اتصف بكل خلق رزيل.
وقال: النفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها وأفضلها وأحمدها عاقبة، ومن ذلك الصبر والعفة، قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: حسن الخلق يقوم على أربعة أركان:
الصبر، والعفة، والشجاعة، والعدل، ومنها الصحبة، (فالمرء على دين خليله) والطباع سراقة، والصاحب ساحب،
لا تصحب الكسلان في حالاته
كم صالح بفساد آخر يفسد
عدوى البليد إلى الجليد سريعة
كالجمر يوضع في الرماد فيخمد
ومن مكاسب الأخلاق: أن يتخذ الناس مرآة لنفسه، فعند مسلم في صحيحه: (من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يحب أن يأتي للناس ما يؤتى إليه)، فيعامل الناس بمثل أن يحب أن يعاملوه،
إِنَّ السَعيدَ لَهُ في غَيرِهِ عِظَةٌ
وَفي التَجارِبِ تَحكيمٌ وَمُعتَبَرُ
وما أحسن من قال:
ذا أَعْجَبَتْكَ خِصالُ امْرِئٍ
فَكُنْهُ يَكُنْ مِنْكَ مَا يُعْجِبُكْ
فليس على المجد والمكرمات
إذا جئتها حاجب يحجبك
وكذا القدوة الحسنة من أسباب الأخلاق الحسنة، والتخلق بأخلاق أهل العلم والفضل والمروءة والعدل، جاء عن الأحنف قال: كنا نختلف على قيس بن عاصم نتعلم منه الحلم كما نتعلم منه الفقه، وكان أصحاب عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- يرحلون إليه فينظرون إلى سمته وهديه ودله فيتشبهون به،
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم
إن التشبه بالكرام فلاح
وقال ابن سيرين -رحمه الله تعالى-: كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم، وقال ابن إسماعيل: كنا نجتمع في مجلس الإمام أحمد زهاء خمسة آلاف، خمسمائة يكتبون والباقي يتعلمون من حسن الأدب وحسن السمت.
وقال إبراهيم بن حبيب لابنه: وإئت الفقهاء والعلماء، وتعلم منهم، وخذ من أدبهم وأخلاقهم وهديهم.
وقال الأعمش: كانوا يأتون همام فيتعلمون من هديه وسمته.
والله أعلم