الاستهزاء الآثم صوره ودوافعه وموقفنا منه

د. منصور الصقعوب
1433/03/17 - 2012/02/09 17:43PM
عباد الله: يعد الناس من مساؤي الأخلاق الاستهزاء بمن حقه التقدير, وتنقص من حقه الإكرام, ويعدون المستهزي مذموماً ملوماً محتقراً مهاناً
فالناس لا يرضون أن يستهزي أحدٌ بهم وأن يذمهم, وكرام الناس يأنفون من أن يستهزوا بأحدٍ من الناس
وإذا كان هذا في عموم الاستهزاء فثمة أنواع من الاستهزاء علاوةً على كونها مَشينة فهي مُنقصة للدين أو ربما كان في بعض صورها مُخرجةٌ من ملة المسلمين, ذلكم أيها الكرام هو الاستهزاء بشيء من أمور الإسلام أو أعلامه الكرام أو بسيد الأنام عليه السلام أو بذي الجلال والإكرام
يُقال هذا في زمن صار يعج بصور من الاستهزاء بالدين أو شعائره, وصار التنبيه لمثل هذا الموضوع من مهمات المقال.
وباديء القول يقال بأن العلماء قد ذكروا من نواقض الإسلام الاستهزاء بالدين
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في نواقض الإسلام: الناقض السادس: مَن استهزأ بشيء مِن دين الرسول -صلى الله عليه وسلم-، أو ثواب الله، أو عقابه، كَفَرَ. والدليل قوله -تعالى-: ( قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)
وفي تفسيرها ذكر العلماء أن الناس في غزوة تبوك حلّ بهم من النصب والتعب والجوع والعطش الشئ الكثير, فاستهزأ برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من استهزأ ، وقالوا: ما نرى قرآءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطوناً ، وأكذبنا ألسنة ، وأجبننا عن اللقاء ، فرفع ذلك إلى رسول الله ج، وقد ارتحل وركب ناقته فقالوا : يا رسول الله ؛ إنما كنا نخوض ونلعب .قال الراوي: رأيته وإن رجليه لتنسفان الحجارة وما يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متعلق بنسعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل الوحي من فوق سبع سماوات يعلن كفر هؤلاء المستهزئين : قال تعالى : (( ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين )) سورة التوبة ،
إن المعلوم من سيرة رسول الله
ج أنه أرحم الناس بالناس ، وأقبل الناس عذراً للناس ، ومع ذلك كله لم يقبل عذراً لمستهزئ ، ولم يلتفت لحجة ساخر ضاحك ، كل هذا مع أن القائلين قد خرجوا في الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركوا الأهل والأزواج والأولاد والأوطان ، وكان خروجهم في فصل الصيف ، وشدة حرارته معلومة ! وتعرضوا للجوع الشديد والعطش الأليم ، ومع هذا كله لم يشفع لهم هذا حين وقع الاستهزاء
وقد تضافر كلام العلماء على هذا الأمر؛ قال ابن قدامة رحمه الله: من سب الله أو أستهزأ به أو بآياته أو برسله أو كتبه كفر سواء مازحاً أو جاداً
عباد الله: والناظر في تاريخ المستهزين ومقالاتهم يجد صوراً عديدة من الاستهزاء, فمن الاستهزاء بالله ووصفه بالأوصاف التي لا تليق, وادعاء أنه لا يفعل الشيء لحكمة, إلى أقوالٍ يجد المرء حرجاً في سوقها, إلى الاستهزاء بسيد البشر عليه السلام, ولمزه بالأوصاف المستهجنة, وحادثة الرسومات المشينة قبل سنوات من قبل بعض دول النصارى لم تنسى, ولم يكن الأمر من أعمال النصارى فحسب بل حتى ممن ينسبون لدينه من رسم بعض الصور المسيئة, ومن اتهمه بالبداوة وقلة المعرفة, ومن صوّره بأنه يُسوِّق للفاحشة عبر الترغيب بالحور العين, وكان آخر ما تفوهت به الألسن وخطته الأقلام من كتب قبل أيام وقال: أحببت فيك أشياء وكرهت فيك أشياء, وسأتحدث معك كصديق فحسب, ولن أصلي عليك, ولا أحب هالات القداسة من حولك, وقال في حق الله أموراً أشنع من ذلك, وليس بأقل منه من قال -وهو كبيرهم-: الله والشيطان وجهان لعملة واحدة, تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً, إلى غير ذلك من مقالات لم أستسغ ذكر كثير منها وذكرت البعض من باب قول الله ( لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة)
وصور الاستهزاء بالدين لم تنتهي, فمن السخرية باللحية, إلى السخرية من تعدد الزوجات, والاستهزاء بشعيرة الجهاد, إلى لمز أهل الدين والعلماء, والآمرين بالمعروف والنهي عن المنكر, في شناعات تطالعنا بها وسائل الإعلام في مؤلفات يسوق لها وللأسف على أنها ثقافة, أو في صحف محلية أو في قنوات ومنتديات ألكترونية
معشر الكرام: ويبقى القول ومالدافع لمثل هذه الصور من الاستهزاء ؟
والجواب أن الدوافع للاستهزاء بالدين وأهله ونبيه عديدة, فالكُره والبغض للدين وشعائره, والنِقمةُ على أهل الخير والصلاح, والسعيُ لتشويه السمعة وإسقاط الرموز مقاصد يوليها المستهزيء عنايته .
وربما كان الفراغ مع الجهل سبباً لذلك, حين يجهل البعض حرمة الاستهزاء, ولا يقع في قلبه تعظيم لدينه, فربما تفوه بمنكر القول, وفي الحديث " وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم القيامة "
وبدافع حرية الرأي ربما تطاول البعض على ربه ونبيه, ولكنه لا يجرؤ على أن ينطق بحرف ضد ملكه وأميره, والمسلم يعلم أن حرية الرأي لا يعني أن تقول الكفر, وللمسلم حدود لا يمكن أن يصل إليها, نسأل الله السلامة والعافية.

الخطبة الثانية:
ذكر القاضي عياض في كتابه الشفا أن ابن حبيب و أصبغ بن خليل من فقهاء قرطبة حكموا بقتل رجل يقال له ابن أخي عجب, وكان خرج يوما فنزل عليه المطر فقال مستهزأ بربه: بدأ الخراز يرش جلوده
فتوقف بعض الفقهاء عن سفك دمه وأشاروا إلى أنه عبث من القول يكفي فيه الأدب
فقال ابن حبيب: دمه في عنقي, أيشتم رباً عبدناه ثم لا ننتصر له إنا إذا لعبيد سوء وما نحن له بعابدين ثم أجهش بالبكاء, ورفع المجلس إلى الأمير بها وهو عبد الرحمن بن الحكم الأموي, وزوجته عمة هذا المستهزيء
فأُعلم باختلاف الفقهاء فخرج الإذن من عنده بالأخذ بقول ابن حبيب وصاحبه وأمر بقتل المستهزيء, وعزل القاضي لتهمته بالمداهنة في هذه القصة ووبخ بقية الفقهاء
إن هذا الموقف يبين لك تعظيم العلماء لحق الله ورسوله ودينه, وحماية جنابهم من التطاول, والحزم مع من يتطاول عليهم.
ومع هذا فالذي علينا جميعاً هو أن نسعى في غرس تعظيم الله ورسوله ودينه في نفوس الناشئة من أولاد وطلاب, وذاك أمر من مهمات المعارف التي ينبغي أن ترسخ في الأذهان .
عباد الله: والإعراض عن المستهزئين والبعد عن مجالسهم, وقراءة مقالاتهم, مطلب مهم, وكم نخطيء حين نذم الاستهزاء بألسنتنا ثم نُعين المستهزيء من صحيفة أو قناة أو كاتبٍ بمتابعتنا له, وقد قال الله (( وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً ))
معشر الكرام: وكم من امريء كان سليم الديانة, نقي المعتقد, فأقبل على كتب الزيغ وروايات الانحراف, ومروجي الشبهات من الكتاب, فتغير فكره, وصار ينتقد دينه وصحابته, وربما نبيه وربه عز وجل, فسلِ الله الثبات, وأبعِد عن كل قراءة تخسر بها ولا تنتفع, فالشبه خطافة.
عباد الله: وحين يضيق المؤمن بالاستهزاء منه فعليه أن يصبر ويحتسب, فقد أوذي المصلحون من قبله واستهزيء بهم, ولكن العاقبة يجعلها الله للمؤمنين, قال الله (( ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب ))
وستمضي الدنيا ويلتقي عند الله الجميع وسيعلم المؤمن أنه هو الرابح حين صبر على أذى المستزئين, وأذى المناؤين (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاء لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يضْحَكُونَ (34) عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ )

المشاهدات 4764 | التعليقات 8

بارك الله فيك


نفع الله بك .. خطبة طيبة مباركة


خطبة جميلة وموفقة 00 بارك الله فيك شيخ0


شكر الله لكم المرور ونفعنا وإياكم بما نقول ونسمع


نفع الله بك..


بارك الله فيك ياشيخ منصور ونفع الله بك وبعلمك
أعجبتني خطبتك أنها ركزت على صلب الموضوع"الاستهزاء"
نفع الله بك


جزاك الله خيرا


وفقك الله يا شيخ منصور .. وجزاك خيرا على هذه الخطبة القيمة
وفعلا هي مركزة وفي صلب الموضوع وعناصرها مميزه ..
وفي الحقيقة بدأت أتابعك قريبا ووجدت أنك من الفرسان المميزين في هذا الصرح المبارك ..
أسأل الله أن ينفع بك .. وأتمنى أن تكون حاضرا في كل خطبة أسبوعية مع المشائخ الفضلاء ..