الاستغفار الخير المدرار.
عبد الله بن علي الطريف
1438/01/13 - 2016/10/14 07:00AM
الاستغفار الخير المدرار. 13/1/1438هـ
أيها الإخوة: ما أحوجنا في كل وقتٍ لما يجلو النفوس من صدئها ويزكيها، وتزداد هذه الحاجة عندما يكثر التخويف من خطوب الزمان وشر تكالب الأعداء.. وباب الاستغفار أوسع بابٍ يجد فيه المسلم بغيته سواء على المستوى الفردي أو على مستوى الأمة، تعالوا معي نستفيءُ بظله ونجني من ثمار قوله..
يقول الله تعالى في كتابه العزيز على لسان رسول الله هودٍ عليه السلام: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) [هود:52] قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: أمرهم نبي الله هودٌ عليه السلام بالاستغفارِ الذي فيه تكفيرُ الذنوب السالفة، وبالتوبة عما يستقبلون من الأعمال السابقة، ومن اتصف بهذه الصفة يسر الله عليه رزقه، وسهل عليه أمره وحفظ عليه شأنه وقوته؛ ولهذا قال سبحانه: (يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا) [نوح:11]، وكما جاء وفي الحديث: "من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هَم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب".
وفي مقام الدعوة الطويل الذي قامه نبي الهذ نوحٌ عليه السلام مع قومه دعاهم للاستغفارِ، وسردَ عليهم آثاره وفوائدَه العظيمة فقال: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا* يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) [نوح:10،12] قال ابن كثير رحمه الله: روي عن أميرِ المؤمنين عمرَ بنِ الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أنه صعد المنبر ليستسقي، فلم يزد على الاستغفار، وقرأ الآيات في الاستغفار. ومنها هذه الآية (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا) ثم قال: لقد طلبت الغيث بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر [أي مخارج]. ومدراراً قال ابن عباس وغيره: يتبع بعضه بعضا.. وقيل أي: متواصلة الأمطار.
وقوله: (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) أي: إذا تبتم إلى الله واستغفرتموه وأطعتموه، كثر الرزق عليكم، وأسقاكم من بركات السماء، وأنبت لكم من بركات الأرض، وأنبت لكم الزرع، وَأَدَرَّ لكم الضرع، وأمدكم بأموالٍ وبنين، أي: أعطاكم الأموالَ والأولادَ، وجعل لكم جنات فيها أنواع الثمار، وخللها بالأنهار الجارية بينها.
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله: في قوله: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) أي: اتركوا ما أنتم عليه من الذنوب، واستغفروا الله منها. (إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا) كثير المغفرة لمن تاب واستغفر، فرغبهم بمغفرة الذنوب، وما يترتب عليها من حصول الثواب، واندفاع العقاب.. ورغبهم أيضا، بخيرِ الدنيا العاجل، فقال: (يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا) أي: مطرا متتابعا، يروي الشعاب والوهاد، ويحيي البلاد والعباد.
(وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ) أي: يُكثر أموالَكم التي تدركون بها ما تطلبون من الدنيا وأولادكم، (وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) وهذا من أبلغ ما يكون من لذات الدنيا ومطالبها.
نعم أيها الإخوة: لقد ربط الله تعالى بين الاستغفار وهذه الأرزاق. وفي القرآن مواضع متكررة فيها هذا الارتباط بين صلاح القلوب واستقامتها على هدى الله، وبين تيسير الأرزاق، وعموم الرخاء.. جاء في موضع منها قوله: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف:96] وجاء في موضع: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ* وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) [المائدة:65،66] وجاء في موضع آخر: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) [هود:3] وهذه القاعدة التي يقررها الله تعالى في كتابه الكريم في مواضع متفرقة، قاعدة صحيحة تقوم على أسبابها من وعد الله، ومن سنة الحياة، كما أن الواقع العملي يشهد بتحققها على مدار القرون.. والحديث في هذه القاعدة عن الأمم لا عن الأفراد.. وما من أمة قام فيها شرع الله، واتجهت اتجاهاً حقيقياً لله بالعمل الصالح والاستغفار المنبئ عن خشية الله.. وما من أمة اتقت الله وعبدته وأقامت شريعته، فحققت العدل والأمن للناس جميعاً، إلا فاضت فيها الخيرات، ومكن الله لها في الأرض واستخلفها فيها بالعمران وبالصلاح سواء.
أيها الإخوة: والاستغفار دعا إليه الرسل أجمعون، وبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم المكثرين منه بالسرور والجنة؛ فعَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ العوامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ تَسُرُّهُ صَحِيفَتُهُ فَلْيُكْثِرْ فِيهَا مِنَ الِاسْتِغْفَارِ" [رواه البيهقي في الشعب والطبراني وحسنه الألباني]. وعَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"طُوبَى لِمَنْ وَجَدَ فِي صَحِيفَتِهِ اسْتِغْفَارًا كَثِيرًا"[رواه ابن ماجة وصححه الألباني].
ولعظيم فضله داوم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعانا للمداومة عليه، ولنا في رسول الله قدوة حسنة، فقد كان صلى الله عليه وسلم كثير الاستغفار، مع أن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ فعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قَالَ: "كَانَ يُعَدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ مِائَةُ مَرَّةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقُومَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ"[رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجة، قال الألباني صحيح].
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ"[رواه مسلم].
وعن زيد مولى رسول الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ قَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيَّ الْقَيُّومَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ غُفِرَ لَهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَّ مِنْ الزَّحْفِ"[رواه أبو داود والترمذي والحاكم وقال على شرط الشيخين وصححه الألباني].
أيها الأحبة: هذا هو الاستغفار فاحرصوا وداوموا عليه، وما أحوجنا إلى الإكثار منه، وما أسهله على من وفقه الله إليه، فهل نعمُر به الأوقات، والخلوات؟
أسأل الله تعالى أن يوفقنا لذلك، وأن يجعلنا من المستغفرين، إنه جواد كريم، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيد المرسلين، وآله وصحبه أجمعين. أما بعد:
أيها الإخوة: اتقوا الله تعالى ولازموا الاستغفار، لأن الاستغفار يخرج العبد من الفعل المكروه إلى الفعل المحبوب، ومن العمل الناقص إلى العمل التام، ويرفع العبد من المقام الأدنى إلى الأعلى منه والأكمل، فإن العابد لله، والعارف بالله، في كل يوم بل في كل ساعة بل في كل لحظة، يزداد علما بالله وبصيرة في دينه وعبوديته، بحيث يجد ذلك في طعامه، وشرابه، ونومه، ويقظته، وقوله، وفعله، ويرى تقصيره في حضور قلبه في المقامات العالية، فهو يحتاج إلى الاستغفار آناء الليل وأطراف النهار، بل هو مضطر إليه دائمًا في الأقوال والأحوال لما فيه من المصالح، وجلب الخيرات، ودفع المضرات، وطلب الزيادة في القوة في الأعمال القلبية والبدنية؛ فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لَزِمَ الاِسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ"[رواه أبو داود وأحمد، قال ابن حجر في الأمالي المطلقة: هذا حديث حسن غريب، وضعف الألباني سنده، وحسن آخرون معناه].
أيها الإخوة: ولقد ذكر أهل العلم فوائد كثرة للاستغفار؛ منها: أن الاستغفار يجلب الغيث المدرار للمستغفرين، ويجعل لهم جنات ويجعل لهم انهارا، ويكون سببًا في إنعام الله عز وجل على المستغفرين بالرزق من الأموال والبنين، قال الله على لسان نوح: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) [نوح: 10-12].
كثرة الاستغفار تسهل على العبد الطاعات، وتيسر الرزق، وتزيل الوحشة التي بين الإنسان وبين الله، وتصغر الدنيا في عينه.
ومن فوائده: أن الإنسان يجد حلاوة الإيمان والطاعة، وتحصل له محبة الله، والاستغفار سبب في زيادة العقل والإيمان، وتيسر الرزق وذهاب الهم والغم والحزن، وفيها تحقيق طهارة الفرد والمجتمع من الأفعال السيئة، ومنها: إقبال الله على المستغفر وفرحه بتوبته، ومنها: دعاء حملة عرش الرحمن له.
ومن فوائد الاستغفار إغاظة الشيطان: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الشَّيْطَانَ قَالَ: وَعِزَّتِكَ يَا رَبِّ، لَا أَبْرَحُ أُغْوِي عِبَادَكَ مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ، قَالَ الرَّبُّ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا أَزَالُ أَغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي"[رواه أحمد وحسنه أحمد شاكر، ورواه الحاكم والبيهقي في الأسماء وصححه الألباني].
أحبتي: من أهم ثمار كثرة الاستغفار في الأمة جماعات وفرادى: أنه سبب لدفع البلاء والنقم عن العباد والبلاد، ورفع الفتن والمحن عن الأمم والأفراد، لاسيما إذا صدر ذلك عن قلوب موقنة، مخلصة لله مؤمنة به، قال الله عز وجل: (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال:33].
وقال: (وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً)[النساء:110].
وما أحوجنا لهذا في كل وقت، وخصوصاً هذا الوقت لما تمر به الأمة من فتن ومحن، نسأل الله أن يجليها.
أسأل الله تعالى أن يجعلنا من المستغفرين، وأن يلهمنا الاستغفار كما يلهمنا النفس، وأن يرزقنا التوبة النصوح، إنه جواد كريم.
أيها الإخوة: ما أحوجنا في كل وقتٍ لما يجلو النفوس من صدئها ويزكيها، وتزداد هذه الحاجة عندما يكثر التخويف من خطوب الزمان وشر تكالب الأعداء.. وباب الاستغفار أوسع بابٍ يجد فيه المسلم بغيته سواء على المستوى الفردي أو على مستوى الأمة، تعالوا معي نستفيءُ بظله ونجني من ثمار قوله..
يقول الله تعالى في كتابه العزيز على لسان رسول الله هودٍ عليه السلام: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) [هود:52] قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: أمرهم نبي الله هودٌ عليه السلام بالاستغفارِ الذي فيه تكفيرُ الذنوب السالفة، وبالتوبة عما يستقبلون من الأعمال السابقة، ومن اتصف بهذه الصفة يسر الله عليه رزقه، وسهل عليه أمره وحفظ عليه شأنه وقوته؛ ولهذا قال سبحانه: (يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا) [نوح:11]، وكما جاء وفي الحديث: "من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هَم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب".
وفي مقام الدعوة الطويل الذي قامه نبي الهذ نوحٌ عليه السلام مع قومه دعاهم للاستغفارِ، وسردَ عليهم آثاره وفوائدَه العظيمة فقال: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا* يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) [نوح:10،12] قال ابن كثير رحمه الله: روي عن أميرِ المؤمنين عمرَ بنِ الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أنه صعد المنبر ليستسقي، فلم يزد على الاستغفار، وقرأ الآيات في الاستغفار. ومنها هذه الآية (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا) ثم قال: لقد طلبت الغيث بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر [أي مخارج]. ومدراراً قال ابن عباس وغيره: يتبع بعضه بعضا.. وقيل أي: متواصلة الأمطار.
وقوله: (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) أي: إذا تبتم إلى الله واستغفرتموه وأطعتموه، كثر الرزق عليكم، وأسقاكم من بركات السماء، وأنبت لكم من بركات الأرض، وأنبت لكم الزرع، وَأَدَرَّ لكم الضرع، وأمدكم بأموالٍ وبنين، أي: أعطاكم الأموالَ والأولادَ، وجعل لكم جنات فيها أنواع الثمار، وخللها بالأنهار الجارية بينها.
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله: في قوله: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) أي: اتركوا ما أنتم عليه من الذنوب، واستغفروا الله منها. (إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا) كثير المغفرة لمن تاب واستغفر، فرغبهم بمغفرة الذنوب، وما يترتب عليها من حصول الثواب، واندفاع العقاب.. ورغبهم أيضا، بخيرِ الدنيا العاجل، فقال: (يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا) أي: مطرا متتابعا، يروي الشعاب والوهاد، ويحيي البلاد والعباد.
(وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ) أي: يُكثر أموالَكم التي تدركون بها ما تطلبون من الدنيا وأولادكم، (وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) وهذا من أبلغ ما يكون من لذات الدنيا ومطالبها.
نعم أيها الإخوة: لقد ربط الله تعالى بين الاستغفار وهذه الأرزاق. وفي القرآن مواضع متكررة فيها هذا الارتباط بين صلاح القلوب واستقامتها على هدى الله، وبين تيسير الأرزاق، وعموم الرخاء.. جاء في موضع منها قوله: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف:96] وجاء في موضع: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ* وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) [المائدة:65،66] وجاء في موضع آخر: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) [هود:3] وهذه القاعدة التي يقررها الله تعالى في كتابه الكريم في مواضع متفرقة، قاعدة صحيحة تقوم على أسبابها من وعد الله، ومن سنة الحياة، كما أن الواقع العملي يشهد بتحققها على مدار القرون.. والحديث في هذه القاعدة عن الأمم لا عن الأفراد.. وما من أمة قام فيها شرع الله، واتجهت اتجاهاً حقيقياً لله بالعمل الصالح والاستغفار المنبئ عن خشية الله.. وما من أمة اتقت الله وعبدته وأقامت شريعته، فحققت العدل والأمن للناس جميعاً، إلا فاضت فيها الخيرات، ومكن الله لها في الأرض واستخلفها فيها بالعمران وبالصلاح سواء.
أيها الإخوة: والاستغفار دعا إليه الرسل أجمعون، وبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم المكثرين منه بالسرور والجنة؛ فعَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ العوامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ تَسُرُّهُ صَحِيفَتُهُ فَلْيُكْثِرْ فِيهَا مِنَ الِاسْتِغْفَارِ" [رواه البيهقي في الشعب والطبراني وحسنه الألباني]. وعَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"طُوبَى لِمَنْ وَجَدَ فِي صَحِيفَتِهِ اسْتِغْفَارًا كَثِيرًا"[رواه ابن ماجة وصححه الألباني].
ولعظيم فضله داوم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعانا للمداومة عليه، ولنا في رسول الله قدوة حسنة، فقد كان صلى الله عليه وسلم كثير الاستغفار، مع أن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ فعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قَالَ: "كَانَ يُعَدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ مِائَةُ مَرَّةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقُومَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ"[رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجة، قال الألباني صحيح].
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ"[رواه مسلم].
وعن زيد مولى رسول الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ قَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيَّ الْقَيُّومَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ غُفِرَ لَهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَّ مِنْ الزَّحْفِ"[رواه أبو داود والترمذي والحاكم وقال على شرط الشيخين وصححه الألباني].
أيها الأحبة: هذا هو الاستغفار فاحرصوا وداوموا عليه، وما أحوجنا إلى الإكثار منه، وما أسهله على من وفقه الله إليه، فهل نعمُر به الأوقات، والخلوات؟
أسأل الله تعالى أن يوفقنا لذلك، وأن يجعلنا من المستغفرين، إنه جواد كريم، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيد المرسلين، وآله وصحبه أجمعين. أما بعد:
أيها الإخوة: اتقوا الله تعالى ولازموا الاستغفار، لأن الاستغفار يخرج العبد من الفعل المكروه إلى الفعل المحبوب، ومن العمل الناقص إلى العمل التام، ويرفع العبد من المقام الأدنى إلى الأعلى منه والأكمل، فإن العابد لله، والعارف بالله، في كل يوم بل في كل ساعة بل في كل لحظة، يزداد علما بالله وبصيرة في دينه وعبوديته، بحيث يجد ذلك في طعامه، وشرابه، ونومه، ويقظته، وقوله، وفعله، ويرى تقصيره في حضور قلبه في المقامات العالية، فهو يحتاج إلى الاستغفار آناء الليل وأطراف النهار، بل هو مضطر إليه دائمًا في الأقوال والأحوال لما فيه من المصالح، وجلب الخيرات، ودفع المضرات، وطلب الزيادة في القوة في الأعمال القلبية والبدنية؛ فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لَزِمَ الاِسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ"[رواه أبو داود وأحمد، قال ابن حجر في الأمالي المطلقة: هذا حديث حسن غريب، وضعف الألباني سنده، وحسن آخرون معناه].
أيها الإخوة: ولقد ذكر أهل العلم فوائد كثرة للاستغفار؛ منها: أن الاستغفار يجلب الغيث المدرار للمستغفرين، ويجعل لهم جنات ويجعل لهم انهارا، ويكون سببًا في إنعام الله عز وجل على المستغفرين بالرزق من الأموال والبنين، قال الله على لسان نوح: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) [نوح: 10-12].
كثرة الاستغفار تسهل على العبد الطاعات، وتيسر الرزق، وتزيل الوحشة التي بين الإنسان وبين الله، وتصغر الدنيا في عينه.
ومن فوائده: أن الإنسان يجد حلاوة الإيمان والطاعة، وتحصل له محبة الله، والاستغفار سبب في زيادة العقل والإيمان، وتيسر الرزق وذهاب الهم والغم والحزن، وفيها تحقيق طهارة الفرد والمجتمع من الأفعال السيئة، ومنها: إقبال الله على المستغفر وفرحه بتوبته، ومنها: دعاء حملة عرش الرحمن له.
ومن فوائد الاستغفار إغاظة الشيطان: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الشَّيْطَانَ قَالَ: وَعِزَّتِكَ يَا رَبِّ، لَا أَبْرَحُ أُغْوِي عِبَادَكَ مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ، قَالَ الرَّبُّ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا أَزَالُ أَغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي"[رواه أحمد وحسنه أحمد شاكر، ورواه الحاكم والبيهقي في الأسماء وصححه الألباني].
أحبتي: من أهم ثمار كثرة الاستغفار في الأمة جماعات وفرادى: أنه سبب لدفع البلاء والنقم عن العباد والبلاد، ورفع الفتن والمحن عن الأمم والأفراد، لاسيما إذا صدر ذلك عن قلوب موقنة، مخلصة لله مؤمنة به، قال الله عز وجل: (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال:33].
وقال: (وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً)[النساء:110].
وما أحوجنا لهذا في كل وقت، وخصوصاً هذا الوقت لما تمر به الأمة من فتن ومحن، نسأل الله أن يجليها.
أسأل الله تعالى أن يجعلنا من المستغفرين، وأن يلهمنا الاستغفار كما يلهمنا النفس، وأن يرزقنا التوبة النصوح، إنه جواد كريم.
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق