الاستعجال المذموم
أحمد بن علي الغامدي
أما بعدُ: فإنَّ اللهَ -تعالى- هو الحكيمُ العليم، أفعالُه صادرةٌ عن حِكمةٍ بالغةٍ، ومصلحةٍ عظيمةٍ، وغايةٍ حميدةٍ، وهو المطَّلِعُ على مبادئِ الأمورِ وعواقبِها، والواضعِ للأشياءِ في مواضعِها، والعالِم بخواصِها ومنافعِها، والخبيرِ بحقائقِها ومآلاتِها، ما أعظَمَ شأنَه، وأعزَّ سلطانَه.
عبادَ اللهِ: أمَّا شأنُ الإنسانِ فكما بيَّن القرآنُ،في قولِ الله تعالى: (خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ)؛ أي طُبِعَ على العَجَلَةِ، وجُبِلَ عليها؛ فالعجلةُ في طبعِه وتكوينِه، وَقَالَ سُبْحَانَهُ وتعالى أيضا: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا)؛ أيْ: مُبالِغًا في العَجَلَةِ؛ يَتَسَرَّعُ إلى طَلَبِ كُلِّ ما يَقَعُ في قَلْبِهِ ويَخْطُرُ بِبالِهِ؛ ولا يتأنى، بل يُبادرُ الأشياءَ ويستعجلُ بوقُوعِها.وقد نسب النبي صلى الله عليه وسلم التأنيَ إلى الله تعالى، ونسبَ العجلةَ إلى الشيطان، فقال صلى الله عليه وسلم : ( التأنّيْ من الله، والعجلةُ من الشيطان ) رواه البيهقي وحسنه الألباني.
عباد الله :العَجِلُ -أيها الإخوةُ- له صفاتٌ يُعرَفُ بها، قال أبو حاتمٍ البُستيُّ -رحمه الله-: "إنَّ العَجِلَ يقولُ قَبل أن يَعلمَ، ويُجِيبُ قبلَ أنْ يَفْهَمَ، ويَحمدُ قبلَ أنْ يُجَرِّبَ، ويَذُمُّ بعد ما يَحْمَدُ، والعَجِلُ تَصْحَبُهُ النّدَامةُ، وتَعتزِلُهُ السّلامةُ، وكانتِ العربُ تُسمِّي – العجلةَ- أمَّ النَّدَامَاتِ".
عباد الله:: للعَجَلَةِ المذمومةِ صورٌ كثيرةٌ، وأمثلةٌ متعددةٌ؛ فمن ذلك: الاستعجالُ في نتائجِ الدعوةِ إلى اللهِ وفي تربية الإنسان لنفسِه وأهلِه وولدِه وطلابِه، وفي رؤيةِ ثمارِ جُهودِه وبذلِه، فإِنْ رأى عدمَ استجابةٍ مِنَ الناسِ، تذمَّر وتضجَّر وتوقَّف عن الدعوة والتربية.
ومِن العجلةِ المذمومة: نقلُ الأخبار قبلَ التثبُّت من صحتها، قال الله تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)،وممَّا يدخلُ في هذا البابِ التعجُّلُ في نسبةِ الأقوالِ لغيرِ قائليها، وعزوُ الكلامِ لغيرِ أصحابِه، وأظهَرُ أمثلةِ ذلك :نشرُ الأحاديثِ المكذوبةِ على الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ونسبةُ ما لم يَقُلْه إليه.
ومِنَ العَجَلةِ المذمومةِ -أيها الإخوةُ- إسراعُ الخطى عندَ الذهاب إلى المسجد، والاستعجالُ في أداء الصلاة، فلا يتمُّ ركوعَها ولا سجودَها، ولا يطمئنُّ فيها، وقد نُهينا عن التشبه بفعل المنافقينَ في نقر الصلاة كنقر الغراب.
ومن العجلةِ المذمومة: استعجالُ العبدِ إجابةَ دعائه وتفريجَ كربته، قال صلى الله عليه وسلم: "يُسْتَجابُ لأحَدِكُمْ ما لَمْ يَعْجَلْ، يقولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي".
ومن العجلةِ المذمومة: أن يَطْلُبَ العبدُ من الله حاجاتِه، ويتَركَ ما كان يَنبَغي له أنْ يَبدَأَ به مِنْ آدابِ الدُّعاء في أولِه، فقد سمعَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ رَجُلًا يَدعو في صلاتِهِ لم يُمجِّدِ اللَّهَ -تعالى-، ولم يُصلِّ على النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، فقالَ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: "عجِلَ هذا، ثمَّ دعاهُ فقالَ لَه: "إذا صلَّى أحدُكُم [ أي : دعا ]فليَبدَأ بتَمجيدِ ربِّهِ جلَّ وعزَّ والثَّناءِ علَيه، ثمَّ يصلِّي علَى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّم، ثمَّ يَدعو بَعدُ بما شاءَ".
ومِنَ الفوائدِ المستنبَطةِ من قوله -تعالى-: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا)، ما ذكره ابن القيم -رحمه الله- بقوله: "أنّ الله لَمَّا ذَكَرَ كِفايَتَهُ لِلْمُتَوَكِّلِ عَلَيْهِ، فَرُبَّما أوْهَمَ ذَلِكَ تَعْجِيلَ الكِفايَةِ وقْتَ التَّوَكُّلِ، فَعَقَّبَهُ – اللهُ- بِقَوْلِه: (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا)؛ أَيْ: وقْتًا لا يَتَعَدَّاهُ، فَهو يَسُوقُهُ إلى وقْتِهِ الَّذِي قَدَّرَهُ لَهُ، فَلا يَسْتَعْجِلُ المُتَوَكِّلُ ويَقُولُ: قَدْ تَوَكَّلْتُ، ودَعَوْتُ فَلَمْ أرَ شَيْئًا، ولَمْ تَحْصُلْ لِي الكِفايَةُ، فاللَّهُ بالِغُ أمْرِهِ في وقْتِهِ الَّذِي قَدَّرَهُ هو -جل جلالُه-" انتهى كلامه رحمه الله.
ومن العجلة: استبطاءُ الرزقِ، فيستعجلُ في طلبِه من طُرُقٍ محرَّمة، ووجوهٍ غيرِ مشروعةٍ، قال صلى الله عليه وسلم: "ولا يحملنّكمُ استبطاءُ الرزقِ على أن تطلبوه بمعصيةِ اللهِ؛ فإنَّ ما عندَ اللهِ لا يُنالُ إلا بطاعتِه".
ومِنَ العَجَلَةِ المذمومةِ : القولُ على الله بغير علم، والاستعجالُ في الفتيا للمؤهَّل أو لِمَنْ هو ناقلٌ للفتوى، وقد كان سلفُ هذه الأمة من الصحابة والتابعينَ- رضي الله عنهم- يَهابُونَ الفتوى ويتريَّثون فيها، بل ويتدافعونَها فيما بينَهم.
ومنها :العجلةُ في الحُكمِ على الأشخاص والطوائف والأقوال والأفعال قبلَ البحث والتَّحري، وكذلك العجلةُ في سوء الظنِّ بإخوانه المسلمين قبل التَّثبُّت واليقين.
ومنها التعجلُ في الاعتماد على نتائجِ التقنياتِ الحديثة، ومحرِّكاتِ البحثِ الآلية، وأنظمةِ الذكاء الاصطناعيّ، من دونِ النظرِ إلى ما قد يَنتُجُ عنها، من المعلوماتِ الخاطئة والمضلِّلة، وعدمِ الرجوع إلى المصادر الموثوقة في ذلك لكي يحصل له اليقين.
ومنها الاستعجالُ في الجزم بتنزيل علاماتِ الساعةِ وأحداثِ آخِر الزمان والملاحمِ على الواقع.
ومنها العجلةُ والتسرعُ في اتخاذ بعضِ القرارات التي تحتاج إلى تأنٍّ ودراسةٍ وتأمُّلٍ، ولا يغيب عن الأذهان أن الاستخارة والاستشارة ركنان أساسيَّان لكلِّ قرارٍ حكيمٍ وموفَّقٍ.
ومنها العجلةُ في طلاقِ الرجلِ زوجتَه، ومخالَعةِ المرأةِ زوجَها لأتفهِ سببٍ وأدنى موقفٍ، والمبادَرةُ إلى اتخاذِ قرارِ التفرُّقِ مِن غير تأمُّلٍ ولا تَرَوٍّ ولا نظرٍ في العواقب، وكَمْ كان لذلك من نتائج وخيمة من تدمير البيوتِ وتشتيتِ الأسر، وضياعِ الأولاد وقطيعةِ الأرحام.
ومنها الاستعجالُ والسرعةُ في قيادة السيارات، وما يترتَّب على ذلك من الحوادث المروِّعة.
أيها الإخوةُ: إن الاستعجالَ في الأمور قبلَ أوانِها ووقتِها مُفسدٌ لها في الغالب؛ وإنَّ الأناةَ والحِلْمَ والتُّؤدةَ من الصفات العظيمة التي يُحبُّها اللهُ -سبحانه-، فقد قال -صلى الله عليه وسلم- لأشجِّ عبدِ القيسِ: "إنَّ فيكَ خَصلتينِ يُحِبُّهما اللهُ: الحِلمُ، والأناةُ"".
الخطبة الثانية:
أمَّا بعدُ: فهناك أمورٌ لا تَدخُل في العجلة المذمومة، بل مطلوبٌ أن يبادرَ المرءُ بفعلها، ويسارعَ إلى اغتنامها، وإنّ مِمَّا لا يحتمل التأخير أو التأجيل: الإقلاع عن الذنوب والمعاصي، وسرعة التوبة منها ، والمبادَرة إلى فِعْلِ الطاعاتِ، وانتهاز الفرصِ إذا حانَتْ، والمبادرة في كلِّ أمرٍ كان تقديرُه وعواقبُه حسنةً بعدَ مشاورةٍ وإعدادٍ وترتيب، قال -تعالى- حاكِيًا عَنْ كَلِيمِهِ مُوسى -صلى الله عليه وسلم-: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى)، وذلك أنّ المسارعةَ إلى الخيرات مَنقبَةٌ محمودةٌ، وسمةُ جميعِ الأنبياءِ -عليهم السلام-، كما قال -تعالى- عنهم (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ في الْخَيْرَاتِ)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "التُّؤَدَةُ في كلِّ شيءٍ خيرٌ إلا في عملِ الآخرة".وقال أميرُ المؤمنين عليُ بنُ أبي طالبٍ-رضي الله عنه-: "ثلاثة لا تُؤَخِّرْهَا: الصلاةُ إذا أتَتْ، والجنازةُ إذا حضرَتْ، والأيمُ إذا وجَدَتْ كُفؤًا"، زاد بعضهم :"وَقَضَاءُ الدَّيْنِ إِذَا وَجَبَ، وَالتَّوْبَةُ مِنَ الذَّنْبِ إِذَا أَذْنَبَ
أسأل الله أن يهدينا لأحسن الأخلاق في التعامل معه جل جلاله ،ومع الخلق أجمعين
هذه الخطبة تهذيب لخطيب إمام الحرم المكي الشيخ / فيصل غزاوي
المرفقات
1732118587_الاستعجال المذموم.docx