الاستعاذة من الفقر
الغزالي الغزالي
1434/05/09 - 2013/03/21 16:54PM
الاستعاذة من الفقر الجمعة 10 جمادى الأولى 1434هـ / 22 مارس 2013 م
الْحَمْدُ للهِ القائم بنفسه، الواحد العظيم في جلاله وقدسه، القادر العليم بأحوال جنّه وإنسه، ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله دار كرامته وأنسه، ومن أعرض وآثر الحياة الدنيا فيدخله دار نقمته وحبسه. نحمده تعالى وهو الجواد الكريم، ونشكره عز وجل وهو المتفضل العظيم. وَنَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، ويضل من يشاء وهو العليم الحكيم، وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم. اللهم فصل وسلم على سيدنا محمد النبي المختار، مهبط الأسرار، ومشرق الأنوار، صَلَى اللهُ وسَلَمَ عَلَيْهِ، وَعلى آله وأصحابه الأخيار، من المهاجرين والأنصار، وعلى التابعين لهم بإحسان في الآفاق والأمصار، صلاة وسلاما دائمين متلازمين بدوام الأرض والسماء، وذلك جزاء من تزكى.. أَمَّا بَعْدُ: فَيأيُّهَا النَّاسُ اتقوا الله تَعَالَى في غناكم وفقركم، وفي جميع أحوالكم، واعلموا يقيناً أن الله سبحانه هو الرزاق الجواد، وهو القابض الباسط، المعطي المانع، يبتلي عباده بالفقر والغنى، ويبتليهم بالسراء والضراء، وبالنعم والنقم . وإن من حكمة الله سبحانه أن يجعل أناساً لا يصلح لهم إلا الفقر، فيرحمهم بصبرهم عليه، وأن يجعل أناساً لا يصلح لهم إلا الغنى، فيرحمهم بشكرهم عليه؛ ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ . أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: قضية مألوفة، وظاهرة في المجتمعات معروفة، مشكلة في جميع الأمم، مسألة لا يخلو منها مجتمع، ولا تنفك منها دولة، مهما بلغ تقدُّمُها وثراؤها وسياساتها ؛ وجودها في أمة أو دولة ليست مثلباً ولا عيبا، ولكن نسيان ذلك وإهماله أو عدم علاجه هو المعيب وفيه المسئولية، ذلكم هو الفقر والفقراء.. عِبَادَ اللهِ: الفقر في نظر الإسلام مصيبة وبلاء وجّه النبي بالسعي للتخلص منه، بل وتعوذ منه وجعله قرينا للكفر، فقال عليه الصلاة والسلام: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْفَقْرِ" رواه أبو داود وغيره، وفي الحديث الآخر: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْفَقْرِ وَالْقِلَّةِ وَالذِّلَّةِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ" رواه أبو داود وهو حديث حسن .. أيها المسلمون : مما يتوجه إليه النظر في حل مشكلة الفقر وعلاجِها، وتقليلِ أثرها أن دلّنا شرعنا في ذلك لأمور علمية، وطرق عملية، نافعة؛ أهمها ثلاثة: الأمر الأول: طمأنينة القلب إلى أن الرزق بيد الله وحده، وأن ما كُتب آتٍ، لن يضيع منه درهم ولا دينار، ولن يتأخر عن وقته يوماً ولا ساعة ولا أقل من ذلك.. ولنسأل أنفسنا عباد الله: أعاش أجدادنا وآباؤنا من غير رزق؟ لا والله؛ أفسنعيش بعدهم من غير رزق؟ لا والله؛ وهل سيعيش أهلونا وأولادنا بعدنا من غير رزق؟ لا والله.. قال الله تعالى مؤانساً ومطمئناً لنا: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾. أيها الناس: إن تذكّر هذا الأمر الجليل- أن الرزق بيد الله وحده- والتفكر فيه حيناً بعد حين، وساعة بعد ساعة، يقطع على النفس تعلقها بالمخلوقين في الرزق، ويزهّدها بما في أيديهم، ويُذهب خوفها من المستقبل على النفس، وعلى الأهل والعيال، حتى ولو أرجف الاقتصاديون والسياسيون بغلاء الأسعار، وقلة الوظائف، وانخفاض الرواتب، وتزايد البطالة، وضعف الاقتصاد.. إن المستقبل بيد الله علام الغيوب، وأن أرزاق العباد مكتوبة وحاصلة، ولن يغادر الدنيا أحدٌ إلا وقد أخذ رزقه كاملاً تاما، شاء أم أبى. وفي الحديث الصحيح: "إن روح القدس نفث في روعي، أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب" رواه الحاكم؛ وقال أبوالدرداء:"إن الرزق ليطلب العبد كما يطلبه أجله"، وعن الحسن البصري أنه قال: "علمتُ أن رزقي لا يأخذه غيري، فاطمأن قلبي". أيها الناس: إن كان بكم خوف فلا تخافوا من الفقر، وإن كنتم في قلق فلا تقلقوا من الفقر، ولا تخافوا ولا تخشوا إلا من الدنيا، أن تبسط عليكم فتنافسوها فتَهْلكوا بسببها، فقد أخرج البخاري في صحيحه، عن عمرو ابن عوف الأنصاريعن النبي أنه قال لأصحابه:"فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللَّهِ لَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ". واعلموا -ياعباد الله- أنكم لستم -واللهِ- بأحب إلى الله عز وجل من رسوله، ولا أكرم ولا أفضل منزلة عنده منه، تقول عائشة:"ولَقَدْ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ وَمَا شَبِعَ مِنْ خُبْزٍ وَزَيْتٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ". وتقول: "إنه ليمر علينا الشهر والشهران، ولا يوقد في بيت النبوة نار". قالوا: وما طعامكم؟ قالت: "الأسودان التمر والماء". ثم ماذا على الإنسان من ضير؟ وماذا يلحقه من كدر؟ لو عاش بين الناس في دنياه فقيراً مجهولا، وعند الله في آخرته غنيّاً معروفاً، عزيزاً منعّماً مسروراً!!، أما يفرحه ويسره قولُ النبي: " قُمْتُ عَلَى بَابِ الجَنَّةِ، فَكَانَ عَامَّةَ مَنْ دَخَلَهَا المَسَاكِينُ؛ وَأَصْحَابُ الجَدِّ -أي الغنى والوجاهةَ- محْبُوسُونَ" رواه البخاري ومسلم.. أما يُسْكِن قلقَ الفؤاد، ويقطع تلهف النفس، قولُ النبي الثابت عنه: "يدخلُ الفقراءُ الجنةَ قبلَ الأغنياءِ بخمسِ مائةِ عام نصف يوم..". قال الترمذي حسن صحيح. اللهُمَّ اجعل التَّقوى لنا أربح بضاعة، ولا تجعلنا من أهل التفريط والإضاعة، وارزقنا الرضى والقناعة، وآمن خوفنا يوم تقوم الساعة.. (آمين) وَأقُولُ قَوْلي هَذَا..
الْحَمْدُ للهِ أصبحت له الوجوه ذليلة عَانِيَة، وحذرته النُّفُوس مُجِدَّة و متوانية، ذمّ الدّنيا إذ هي حقيرة فانية، وشوَّقَ لجنّةٍ قطوفها دانية، وخوَّفَ صَرْعى الهوى أن يُسْقُوا من عينٍ آنية.. نحمده وهو العليم العالم بالسرّ والعلانيه، فالسرّ عنده علانية.. ونشكره على تقويم شؤونِنا، ونستعينه ونحصِّنُ بتحقيق التوحيد إيماننا.. ونشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له العَفُوُ الْغَفُورُ، ونشهد أنّ سيّدنا محمّدا عبده و رسوله الشّافع المشفّع وقت النّشور، ويوم يبعث من في القبور، صلّى الله وسلّم و بارك عليه و على آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ ما تعاقب الظّلام و النّور.. أَمَّا بَعْدُ: أيها الكرماء: الأمر الثاني لمعالجة الفقر والتخفيف من مُصابه: قناعة قلوبكم بما يسّر الله لكم من هذا الرزق، وهذا القوت، وهذا اللباس والمركب، وهذا المسكن والمنزل، وهذه الوظيفة وهذا العمل.. فالقناعة من أفضل مواهب الله وأعطياته، وأعظم علامات الفلاح وأسبابه؛ فقد أخرج الإمام مسلم، أن النبي قال:"قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافاً، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ"، فقد حكم في هذا الحديث بالفلاح والنجاح لمن جمع هذه الخلال الثلاث -الإسلام والكفاف والقناعة- وكان من دعائه لنفسه وأهله: "اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتاً"، -والقوت هو الكفاف بأن يحصل له الرزق الذي يكفيه ويكف وجهه عن سؤال الخلق-. ودعاؤه هذا يدل على: أن الكفاف في المعيشة أفضل من الفقر، بل وأفضل من الغنى.. أيها الناس: إن القناعةُ مالٌ لا ينقص، وكنز لا ينفد، وهي غنى النفس الحقيقي، وفي هذا يقول النبي: "الْغِنَى غِنَى النَّفْس" رواه مسلم. وإن من قنع بما هو فيه قرَّت عينه، وعفَّ واستغنى عن الخلق، وذهب عنه داء الحسد والظلم، وتَرَكَ أكل الحرام فلم يغش، ولم يرتش، ولم يسرق، ولم يخن الأمانة . الأمر الثالث لمعالجة الفقر والتخفيف من مُصابه: أن نعلم أن ديننا أمر كل مسلم قادرٍ أن يعمل ويكدح ولا يكسل، فالعمل هو الوسيلة النافعة والسلاح المضّاء -بإذن الله تعالى وعونه- للقضاء على هذه المشكلة وتخفيفها.. والله قد أودع لنا في الأرض أرزاقاً وأنعاماً، وأن هذه الخيرات والبركات المبثوثة لا تنالُ إلا بجهد يُبذل، وسعي دوؤب، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً، فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾. معاشر الأخوة: العمل في الإسلام عبادة، وما تعدّد نفعه، وامتد أثره، فهو أفضل عند الله وأزكى ممن قصر نفعه على صاحبه، وفي كُلٍ أجر وخير.. فـ "التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ" رواه الترمذي والحاكم بإسناد حسن، و"مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمِلِ يَدِهِ" رواه البخاري، ولمّا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ أَيُّ الْكَسْبِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ، وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ" رواه أحمد. وإن الإستهانة بأهل الأعمال المهنية، أو الاحتقار لأصحاب الحِرَف اليدوية !! هذا -وربكم- ليس من الدين ولا من الأصالة والرزانة، فدينكم رفع قيمة العمل الحلال أياً كان نوعه وكسبه؛ فكل كسب حلال هو عمل شريف عظيم مأجور صاحبه، محمود فاعله.. وانظروا إلى أنبياء الله -صلوات الله وسلامه عليهم- أفضل خلق الله ومصطفوه- كلهم قد رعوا الغنم، وفيهم صانع الحديد والنجار والخياط والحراث؛ وكذا أئمة الإسلام وعلماؤه من الصحابة ومَن بعدهم كان فيهم وفي أُسَرِهم: القطان والقفال والبزار، والحذاء والزجاج والخراز، والحطاب والجصاص، والخياط والخواص، وغيرهم مما لا يكاد يستثنى من مهن مباحة - فكفى بهم شرفاً، وكفى بهم قدوة وأسوة.. اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِ مُحَمَّدٍ.. اَللّـهُمَّ أغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك.. اللهم اجعلنا من الشاكرين لنعمائك، والصابرين على أقدارك وبلائك، واجعل ما أنعمت به علينا معونة لنا على الخير.. اللهم وبارك لنا في أقواتنا ومساكننا ومراكبنا، وقنعنا بما رزقتنا، ولا تحرمنا خير ما عندك من الإحسان، بشر ما عندنا من الإساءة والعصيان. اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، اللهم ارحم المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم ارفع البلاء عنهم، واكشف ما نزل بهم.. اللهم احقن دماء المسلمين، واحفظ عليهم دينهم وأمنهم وأعراضهم، وأموالهم وأغراضهم يا رب العالمين، اللهم اكفنا والمسلمين شر الأشرار، وكيد الفجار.. اللهم وفقّنا بتوفيقك، وأيّدنا بتأييدك، واجعلنا من أنصار دينك يا ذا الجلال والإكرام. اللهم من أرادنا وأراد ديننا وبلادنا بسوء فأشغله اللهم في نفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين. اللهم أنت الله لا إله أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، اللهم أغننا وأغثنا.. غيث القلوب والحبوب.. يا ذا الجلال والإكرام. اللهم ما بنا من الضيق والضنك ما لا نشكوه إلا إليك، فادفع عنا وعن المسلمين كل شر ومكروه.. اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.. ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولمن.. ربنا آتنا في .. آللّهُمَ (آمين).. عبادَ اللهِ! اذْكُرُوا اللَّهَ الْعَظِيمَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشكرُوهُ علَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، ﴿ وَأَقِمِ الصَّلاةَ، إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾.
الْحَمْدُ للهِ القائم بنفسه، الواحد العظيم في جلاله وقدسه، القادر العليم بأحوال جنّه وإنسه، ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله دار كرامته وأنسه، ومن أعرض وآثر الحياة الدنيا فيدخله دار نقمته وحبسه. نحمده تعالى وهو الجواد الكريم، ونشكره عز وجل وهو المتفضل العظيم. وَنَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، ويضل من يشاء وهو العليم الحكيم، وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم. اللهم فصل وسلم على سيدنا محمد النبي المختار، مهبط الأسرار، ومشرق الأنوار، صَلَى اللهُ وسَلَمَ عَلَيْهِ، وَعلى آله وأصحابه الأخيار، من المهاجرين والأنصار، وعلى التابعين لهم بإحسان في الآفاق والأمصار، صلاة وسلاما دائمين متلازمين بدوام الأرض والسماء، وذلك جزاء من تزكى.. أَمَّا بَعْدُ: فَيأيُّهَا النَّاسُ اتقوا الله تَعَالَى في غناكم وفقركم، وفي جميع أحوالكم، واعلموا يقيناً أن الله سبحانه هو الرزاق الجواد، وهو القابض الباسط، المعطي المانع، يبتلي عباده بالفقر والغنى، ويبتليهم بالسراء والضراء، وبالنعم والنقم . وإن من حكمة الله سبحانه أن يجعل أناساً لا يصلح لهم إلا الفقر، فيرحمهم بصبرهم عليه، وأن يجعل أناساً لا يصلح لهم إلا الغنى، فيرحمهم بشكرهم عليه؛ ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ . أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: قضية مألوفة، وظاهرة في المجتمعات معروفة، مشكلة في جميع الأمم، مسألة لا يخلو منها مجتمع، ولا تنفك منها دولة، مهما بلغ تقدُّمُها وثراؤها وسياساتها ؛ وجودها في أمة أو دولة ليست مثلباً ولا عيبا، ولكن نسيان ذلك وإهماله أو عدم علاجه هو المعيب وفيه المسئولية، ذلكم هو الفقر والفقراء.. عِبَادَ اللهِ: الفقر في نظر الإسلام مصيبة وبلاء وجّه النبي بالسعي للتخلص منه، بل وتعوذ منه وجعله قرينا للكفر، فقال عليه الصلاة والسلام: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْفَقْرِ" رواه أبو داود وغيره، وفي الحديث الآخر: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْفَقْرِ وَالْقِلَّةِ وَالذِّلَّةِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ" رواه أبو داود وهو حديث حسن .. أيها المسلمون : مما يتوجه إليه النظر في حل مشكلة الفقر وعلاجِها، وتقليلِ أثرها أن دلّنا شرعنا في ذلك لأمور علمية، وطرق عملية، نافعة؛ أهمها ثلاثة: الأمر الأول: طمأنينة القلب إلى أن الرزق بيد الله وحده، وأن ما كُتب آتٍ، لن يضيع منه درهم ولا دينار، ولن يتأخر عن وقته يوماً ولا ساعة ولا أقل من ذلك.. ولنسأل أنفسنا عباد الله: أعاش أجدادنا وآباؤنا من غير رزق؟ لا والله؛ أفسنعيش بعدهم من غير رزق؟ لا والله؛ وهل سيعيش أهلونا وأولادنا بعدنا من غير رزق؟ لا والله.. قال الله تعالى مؤانساً ومطمئناً لنا: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾. أيها الناس: إن تذكّر هذا الأمر الجليل- أن الرزق بيد الله وحده- والتفكر فيه حيناً بعد حين، وساعة بعد ساعة، يقطع على النفس تعلقها بالمخلوقين في الرزق، ويزهّدها بما في أيديهم، ويُذهب خوفها من المستقبل على النفس، وعلى الأهل والعيال، حتى ولو أرجف الاقتصاديون والسياسيون بغلاء الأسعار، وقلة الوظائف، وانخفاض الرواتب، وتزايد البطالة، وضعف الاقتصاد.. إن المستقبل بيد الله علام الغيوب، وأن أرزاق العباد مكتوبة وحاصلة، ولن يغادر الدنيا أحدٌ إلا وقد أخذ رزقه كاملاً تاما، شاء أم أبى. وفي الحديث الصحيح: "إن روح القدس نفث في روعي، أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب" رواه الحاكم؛ وقال أبوالدرداء:"إن الرزق ليطلب العبد كما يطلبه أجله"، وعن الحسن البصري أنه قال: "علمتُ أن رزقي لا يأخذه غيري، فاطمأن قلبي". أيها الناس: إن كان بكم خوف فلا تخافوا من الفقر، وإن كنتم في قلق فلا تقلقوا من الفقر، ولا تخافوا ولا تخشوا إلا من الدنيا، أن تبسط عليكم فتنافسوها فتَهْلكوا بسببها، فقد أخرج البخاري في صحيحه، عن عمرو ابن عوف الأنصاريعن النبي أنه قال لأصحابه:"فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللَّهِ لَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ". واعلموا -ياعباد الله- أنكم لستم -واللهِ- بأحب إلى الله عز وجل من رسوله، ولا أكرم ولا أفضل منزلة عنده منه، تقول عائشة:"ولَقَدْ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ وَمَا شَبِعَ مِنْ خُبْزٍ وَزَيْتٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ". وتقول: "إنه ليمر علينا الشهر والشهران، ولا يوقد في بيت النبوة نار". قالوا: وما طعامكم؟ قالت: "الأسودان التمر والماء". ثم ماذا على الإنسان من ضير؟ وماذا يلحقه من كدر؟ لو عاش بين الناس في دنياه فقيراً مجهولا، وعند الله في آخرته غنيّاً معروفاً، عزيزاً منعّماً مسروراً!!، أما يفرحه ويسره قولُ النبي: " قُمْتُ عَلَى بَابِ الجَنَّةِ، فَكَانَ عَامَّةَ مَنْ دَخَلَهَا المَسَاكِينُ؛ وَأَصْحَابُ الجَدِّ -أي الغنى والوجاهةَ- محْبُوسُونَ" رواه البخاري ومسلم.. أما يُسْكِن قلقَ الفؤاد، ويقطع تلهف النفس، قولُ النبي الثابت عنه: "يدخلُ الفقراءُ الجنةَ قبلَ الأغنياءِ بخمسِ مائةِ عام نصف يوم..". قال الترمذي حسن صحيح. اللهُمَّ اجعل التَّقوى لنا أربح بضاعة، ولا تجعلنا من أهل التفريط والإضاعة، وارزقنا الرضى والقناعة، وآمن خوفنا يوم تقوم الساعة.. (آمين) وَأقُولُ قَوْلي هَذَا..
الْحَمْدُ للهِ أصبحت له الوجوه ذليلة عَانِيَة، وحذرته النُّفُوس مُجِدَّة و متوانية، ذمّ الدّنيا إذ هي حقيرة فانية، وشوَّقَ لجنّةٍ قطوفها دانية، وخوَّفَ صَرْعى الهوى أن يُسْقُوا من عينٍ آنية.. نحمده وهو العليم العالم بالسرّ والعلانيه، فالسرّ عنده علانية.. ونشكره على تقويم شؤونِنا، ونستعينه ونحصِّنُ بتحقيق التوحيد إيماننا.. ونشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له العَفُوُ الْغَفُورُ، ونشهد أنّ سيّدنا محمّدا عبده و رسوله الشّافع المشفّع وقت النّشور، ويوم يبعث من في القبور، صلّى الله وسلّم و بارك عليه و على آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ ما تعاقب الظّلام و النّور.. أَمَّا بَعْدُ: أيها الكرماء: الأمر الثاني لمعالجة الفقر والتخفيف من مُصابه: قناعة قلوبكم بما يسّر الله لكم من هذا الرزق، وهذا القوت، وهذا اللباس والمركب، وهذا المسكن والمنزل، وهذه الوظيفة وهذا العمل.. فالقناعة من أفضل مواهب الله وأعطياته، وأعظم علامات الفلاح وأسبابه؛ فقد أخرج الإمام مسلم، أن النبي قال:"قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافاً، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ"، فقد حكم في هذا الحديث بالفلاح والنجاح لمن جمع هذه الخلال الثلاث -الإسلام والكفاف والقناعة- وكان من دعائه لنفسه وأهله: "اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتاً"، -والقوت هو الكفاف بأن يحصل له الرزق الذي يكفيه ويكف وجهه عن سؤال الخلق-. ودعاؤه هذا يدل على: أن الكفاف في المعيشة أفضل من الفقر، بل وأفضل من الغنى.. أيها الناس: إن القناعةُ مالٌ لا ينقص، وكنز لا ينفد، وهي غنى النفس الحقيقي، وفي هذا يقول النبي: "الْغِنَى غِنَى النَّفْس" رواه مسلم. وإن من قنع بما هو فيه قرَّت عينه، وعفَّ واستغنى عن الخلق، وذهب عنه داء الحسد والظلم، وتَرَكَ أكل الحرام فلم يغش، ولم يرتش، ولم يسرق، ولم يخن الأمانة . الأمر الثالث لمعالجة الفقر والتخفيف من مُصابه: أن نعلم أن ديننا أمر كل مسلم قادرٍ أن يعمل ويكدح ولا يكسل، فالعمل هو الوسيلة النافعة والسلاح المضّاء -بإذن الله تعالى وعونه- للقضاء على هذه المشكلة وتخفيفها.. والله قد أودع لنا في الأرض أرزاقاً وأنعاماً، وأن هذه الخيرات والبركات المبثوثة لا تنالُ إلا بجهد يُبذل، وسعي دوؤب، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً، فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾. معاشر الأخوة: العمل في الإسلام عبادة، وما تعدّد نفعه، وامتد أثره، فهو أفضل عند الله وأزكى ممن قصر نفعه على صاحبه، وفي كُلٍ أجر وخير.. فـ "التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ" رواه الترمذي والحاكم بإسناد حسن، و"مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمِلِ يَدِهِ" رواه البخاري، ولمّا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ أَيُّ الْكَسْبِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ، وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ" رواه أحمد. وإن الإستهانة بأهل الأعمال المهنية، أو الاحتقار لأصحاب الحِرَف اليدوية !! هذا -وربكم- ليس من الدين ولا من الأصالة والرزانة، فدينكم رفع قيمة العمل الحلال أياً كان نوعه وكسبه؛ فكل كسب حلال هو عمل شريف عظيم مأجور صاحبه، محمود فاعله.. وانظروا إلى أنبياء الله -صلوات الله وسلامه عليهم- أفضل خلق الله ومصطفوه- كلهم قد رعوا الغنم، وفيهم صانع الحديد والنجار والخياط والحراث؛ وكذا أئمة الإسلام وعلماؤه من الصحابة ومَن بعدهم كان فيهم وفي أُسَرِهم: القطان والقفال والبزار، والحذاء والزجاج والخراز، والحطاب والجصاص، والخياط والخواص، وغيرهم مما لا يكاد يستثنى من مهن مباحة - فكفى بهم شرفاً، وكفى بهم قدوة وأسوة.. اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِ مُحَمَّدٍ.. اَللّـهُمَّ أغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك.. اللهم اجعلنا من الشاكرين لنعمائك، والصابرين على أقدارك وبلائك، واجعل ما أنعمت به علينا معونة لنا على الخير.. اللهم وبارك لنا في أقواتنا ومساكننا ومراكبنا، وقنعنا بما رزقتنا، ولا تحرمنا خير ما عندك من الإحسان، بشر ما عندنا من الإساءة والعصيان. اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، اللهم ارحم المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم ارفع البلاء عنهم، واكشف ما نزل بهم.. اللهم احقن دماء المسلمين، واحفظ عليهم دينهم وأمنهم وأعراضهم، وأموالهم وأغراضهم يا رب العالمين، اللهم اكفنا والمسلمين شر الأشرار، وكيد الفجار.. اللهم وفقّنا بتوفيقك، وأيّدنا بتأييدك، واجعلنا من أنصار دينك يا ذا الجلال والإكرام. اللهم من أرادنا وأراد ديننا وبلادنا بسوء فأشغله اللهم في نفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين. اللهم أنت الله لا إله أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، اللهم أغننا وأغثنا.. غيث القلوب والحبوب.. يا ذا الجلال والإكرام. اللهم ما بنا من الضيق والضنك ما لا نشكوه إلا إليك، فادفع عنا وعن المسلمين كل شر ومكروه.. اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.. ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولمن.. ربنا آتنا في .. آللّهُمَ (آمين).. عبادَ اللهِ! اذْكُرُوا اللَّهَ الْعَظِيمَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشكرُوهُ علَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، ﴿ وَأَقِمِ الصَّلاةَ، إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾.
الغزالي الغزالي
اقتباس
تعديل التعليق