الاستعاذة بالرحمن من الهموم والأحزان

الاستعاذة بالرحمن من الهموم والأحزان

الخطبة الأولى

   الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ ، جَعَلَ الحَيَاةَ دَارَ بَلاَءٍ وامتِحَانٍ ، مُتقَلَّبِةَ الأَحْوَالِ بَيْنَ سُرورٍ وَأَحْزَانٍ ، وأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، أَضْحَكَ وأَبْكَى ، وأَمَاتَ وأَحيَا ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُاللهِ ورَسُولُهُ ، صَبَرَ عَلَى الحُزْنِ والابتِلاَءِ ، صلى الله وسلم عليه وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ ومَنْ بِهُدَاهُ اهتَدَى إِلَى يَوْمِ الدِّينِ . أَمَّا بَعْدُ :-

فأَوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقوَى اللهِ عَزَّ وَجلَّ ، فَإِنَّها أَمَانٌ مِنَ الفِتَنِ والبَلاَيا ، ومُكَفِّرَةٌ لِلذُّنُوبِ والخَطَايَا ، يَقُولُ الحَقُّ تَبَارَكَ وتَعَالَى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) .

عباد الله : الهموم والاحزان سنة ماضية من سنن الله في هذه الحياة ،  فالحياة لا تصفو ‏بدون هم من المستقبل ينغصها ،‏ ‏وحزن ‏على الماضي يذهب حلاوتها وينسي لذتها ، قال الله تعالى " لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ " . ويقول الله جل وعلا : " أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ ۗ أَلَآ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ " .

عباد الله : صحّ عن أنسِ رضيَ اللهُ عنهُ أنَّهُ قالَ : ( كُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَزَلَ ، فَكُنْتُ أَسْمَعُهُ كَثِيرًا يَقُولُ : « اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ وَالحَزَنِ ، وَالعَجْزِ وَالكَسَلِ ، وَالبُخْلِ وَالجُبْنِ ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ » ) صحيح البخاري . وهذا الدُّعاءُ قد جمَعَ أصنافَ الشَّرِ الثمانيَةِ التي يُستعاذُ مِنها في أحوالِ العبد ، وهو منْ جوامع أدعيَةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، لأنَّ أنواعَ الأدواءِ العارضَةِ للعبدِ ثلاثةٌ ، وقد ذُكرَتْ جميعُها في هذا الحديث ، نفسَانِيَّةٌ كالهَمِّ والحَزَنِ ، والبُخْلِ والجُبْنِ ، وبدَنِيَّةٌ كالعَجْزِ والكَسَلِ ، وخارجيَّةٌ كغَلَبَةِ الدَّينِ وقهْرِ الرَّجالِ .

وقد سأل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه النبي ﷺ فقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً ؟ قَالَ : { الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْباً اشْتَدَّ بَلاؤُهُ ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ } رواه الترمذي .

فأنبياء الله ورسله ، ‏وصفوته ‏من خلقه عصفت ‏بهم الأحزان والهموم ، وعالجوا الغموم ، ‏وعاشوا حياة الابتلاءات ‏العظام في أنفسهم وأهليهم ‏، ‏ما بين فقر ومرض ، و تكذيب وطرد ، ‏وتسفيه ‏وايذاء ، ‏وفقد عزيز وقريب ، فهذا نبي الله أيوب عليه السلام نادى ربه بقوله : " أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ " ، ‏وهذا نبي الله يونس عليه السلام " ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ "، ‏ وهذا نبي الله يعقوب عليه السلام " وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم " ، ‏وهذا نبي الله موسى عليه السلام خرج من المدينة ‏خائفاً يترقب ، وهذا نبينا محمد ‏صلى الله عليه وسلم رجع ‏هائماً على وجهه من الطائف مهموماً محزوناً بعد ما لقي من شدة الأذى والسخرية والتكذيب من أهلها ، ‏فخاطبه ربه بقوله : " فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ " ، وبقوله : " لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ " ، وبقوله : " وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ " . وأوذي صلى الله عليه وسلم وكُسِرَتْ رباعيته ، وقُتِلَ يوم أحد سبعين من أصحابه ، وفقد أبنائه ما عدا فاطمة رضي الله عنها ، وفقد زوجته خديجة رضي الله عنها ، وتوفي عمه أبو طالب ، فحياته سلسلة من الأحزان والهموم والمصائب .

عباد الله : من الناس من يعيش هموم الحياة في حاضرها ومستقبلها وكأنه يحمل الدنيا على ظهره ، فتراه مهموما محزونا في ليله ونهاره ، فصاحب الدنيا والمال والتجارة ، مهموم في كسبه وتصريفه والمحافظة عليه ، والشباب مهمومون على المستقبل والدراسة والوظيفة والزواج ، والأبوان مهمومان على أولادهم بين حاضر محفوف بالمخاطر ومستقبل لا يعلمه إلا الله ، والفقير والمسكين مهمومان من الفقر والمسكنة . وهكذا الدنيا هموم وأحزان ، لو كانت تصفو لأحد لصفت لسيد البشر صلى الله عليه وسلم . أسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفقنا وإياكم لكل خير وأن يهدينا سواء السبيل ، وأن يشرح صدورنا ويزيل همومنا وغمومنا وأحزاننا ، وأن يكتب لنا السعادة في هذه الحياة الدنيا وفي الآخرة إنه ولي ذلك والقادر عليه .. 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا ، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .

 

 

 

 

الخطبة الثانية

الْحَمْدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ ، وَأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ تَعْظِيماً لِشَأَنِهِ ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ الداعي إلى رضوانه ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أَمّا بَعدُ :-

فإن « الهَمُّ والحَزَن » . هُما مِن آلامِ النَّفسِ ومُعذِّباتِها ، فالهَمُّ يَتعلَّقُ بالمُستقبَلِ ، كأُمورٍ سيِّئَةٍ يَخشَى العبدُ أنْ تقعَ لهُ في المُستقبَلِ ، وأمورٍ يَرجو أنْ يُحصِّلَها في المُستقبَلِ ، وأنْ يكونَ مِن أهلها ، فيَهتَمُّ لأجلِ ذلكَ وهذا همٌّ مذموم ، ومن الناس من همه مرضاة الله والدّار الآخرة ، فتراه مهموماً بنجاة نفسه من النار ودخول الجنة ، مهموما بالمنافسة في الأعمال الصالحة ، مَهُمومَاً بإصلاح نفسه وأسرته ومجتمعه ، ومثل هذه الهموم هموم محمودة ، رَوَى أنس بن مالك رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : « مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلا مَا قُدِّرَ لَهُ » . رواه الترمذي وصححه الألباني .

والحَزَنُ يتعلَّقُ بالماضِي والحاضِرِ ، فيَحزَنُ العبدُ على أُمورٍ يَكرهُهَا قد حصلَتْ لهُ قديمًا ، أو أُمورٍ كانَ يَطلُبُها ففَاتتْ ، فيَحزَنُ لِفواتها ، مع أنَّ جميعَ ذلكَ مكتوبٌ عليهِ  ومُقدَّرٌ عليهِ ، وقد قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ مُذَكِّرًا عبادَه : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ . لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ } أي : حتى لا تَأسَوا وتَحزنوا على ما فاتَكُم ، مِمَّا طَمِحَت له أنفُسُكُم وتشوَّفَتْ إليه . والمؤمن إذا أصابته غموم الدنيا وهمومها فإنه يحصل له تكفير الذنوب وتمحيص القلب ورفع الدرجات ، لِمَا صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ : ( مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلا وَصَبٍ وَلا هَمٍّ وَلا حُزْنٍ وَلا أَذًى وَلا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ ) رواه البخاري . وأهلُ الجنَّة إذ تمَّ نعيمُهم ، وكمُلَتْ لذَّتُهم يقولون : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ } .

عباد الله : إنَّ مما يعين المؤمن في مواجهة ما يعترضه من الهموم والأحزان : الإكثار من الأدعية والأذكار الواردة في علاج الهموم والأحزان ، ومنها : قوله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ قال إذا أصبحَ وإذا أمْسى : حَسبِي الله لا إلَه إلا هو عليه توكلتُ وهو ربُّ العرشِ العظيم سبع مرات ، كفاه الله ما أهمه " (رواه أبو داود) . وكذلك لزوم الاستغفار والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم . والاستعاذة بالله من الهم والحزن كما ورد : « اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ وَالحَزَنِ ، وَالعَجْزِ وَالكَسَلِ ، وَالبُخْلِ وَالجُبْنِ ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ » . وَعَنِ ابنِ مَسعُودٍ رضي الله عنه  قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : ( ما أصاب أحدًا قطُّ همٌّ ولا حَزَنٌ فقال اللهمَّ إني عبدُك ابنُ عبدِك ابنُ أمَتِك ناصيَتي بيدِك ماضٍ فيَّ حُكمُك عَدْلٌ فيَّ قضاؤُك أسألُك بكلِّ اسمٍ هو لك سميتَ به نفسَك أوْ علَّمْتَه أحدًا مِنْ خلقِك أو أنزلته في كتابِك أو استأثرتَ به في علمِ الغيبِ عندَك أنْ تجعلَ القرآنَ ربيعَ قلبي ونورَ صدري وجلاءَ حُزني وذهابَ هَمِّي إلا أذهب اللهُ همَّه وحُزْنَه وأبدله مكانه فَرَجًا ) رَوَاهُ أَحمَدُ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .. أسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يُذهب همومنا وغمومنا وأحزاننا وأن يحيينا حياة طيبة إنه سميع الدعاء .. ثم إن الله أمرنا بأمر عظيم ، ألا وهو الصلاة والسلام على النبي الكريم . اللهم صلِّ وسلِّمْ على نبينا وحبيبنا محمد ، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين وعن الصحابة أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . وارضَ عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين . اللهم أصلح أحوالنا وأحوال المسلمين . اللهم إنا نعوذ بك من الهم والحزن ، ومن العجز والكسل ، ومن الجبن والبخل ، ومن ضلع الدين وقهر الرجال . اللهم إنا نسألك نفوسا بك مطمئنة ، تؤمن بلقائك وترضى بقضائك ، وتقنع بعطائك . اللهم اجعلنا عند النعماء من الشاكرين ، وعند البلاء من الصابرين . اللهم اشرح صدورنا بالإيمان ، ونوِّر قلوبنا بالسنة والقرآن . اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذلَّ الشرك والمشركين . اللهم اجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين . اللهم وفِّق ولاة أمورنا لما تحب وترضى ، وأعنهم على البر والتقوى ، وهيئ لهم البطانة الصالحة التي تدلهم على الخير وتُعينهم عليه يا رب العالمين . اللهم آتِ نفوسَنا تقواها ، وزكِّها أنت خيرُ مَن زكَّاها ، أنت وليُّها ومولاها . اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى ، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات . { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار } .

عباد الله : اذكروا الله يذكركم ، واشكروه على نعمه يزدكم ، ( وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ) .

 

( خطبة الجمعة 13/1/1446هـ . جمع وتنسيق خطيب جامع العمار بمحافظة الرين / عبد الرحمن عبد الله الهويمل                          للتواصل جوال و واتساب /  0504750883  )

المرفقات

1721289060_الاستعاذة بالرحمن من الهموم والأحزان.docx

المشاهدات 1132 | التعليقات 0