الاستطاعة لمن رغب الحج - خطب مختارة
الفريق العلمي
ها هو البيت العتيق قد بناه إبراهيم وولده إسماعيل -عليهما السلام- بأمر من الله -عز وجل-، لكنهما لما أتموا بناءه وسط الصحراء تساءلا: لمن بنيناه؟! ومن يعلم بأمره فيأتيه؟! وكيف يأتيه وهو في قلب الصحراء التي لا زرع فيها ولا ماء؟!
لكن قد جاءهم الحل من رب الأرض والسماء؛ فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قال: رب قد فرغت، فقال: "أذن في الناس بالحج"، قال: رب وما يبلغ صوتي؟! قال: "أذن وعلي البلاغ"، قال: رب كيف أقول؟ قال: "قل: يا أيها الناس، كتب عليكم الحج؛ حج البيت العتيق، فسمعه من بين السماء والأرض، ألا ترى أنهم يجيئون من أقصى الأرض يلبون؟"(رواه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي)، مصداق ذلك من القرآن الكريم قول الله -تعالى-: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)[إبراهيم: 27].
ولقد دعا إبراهيم الخليل -عليه السلام- ربه -عز وجل- لهذا البلد الأمين ولهذا البيت المكرم فقال: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ)[إبراهيم: 37]، قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير: "لو قال: "أفئدة الناس" لازدحم عليه فارس والروم واليهود والنصارى والناس كلهم، ولكن قال: "من الناس" فاختص به المسلمون"(تفسير ابن كثير).
اختص به المسلمون، فهم من يومها يحجون الكعبة بيت الله الحرام ويشتاقون إلى إتيانها رجالًا وركبانًا.
***
ولم يطلبه الإسلام منا إلا مرة واحدة فقط في العمر كله، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج، فحجوا"، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو قلت: نعم لوجبت، ولما استطعتم"، ثم قال: "ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم"(رواه مسلم)، ويسأل الأقرعُ بن حابس النبيَ -صلى الله عليه وسلم- فيقول: يا رسول الله، الحج في كل سنة أو مرة واحدة؟ فيجيبه -صلى الله عليه وسلم- في وضوح: "بل مرة واحدة، فمن زاد فهو تطوع"(رواه أبو داود، وصححه الألباني)، ونبينا -صلى الله عليه وسلم- لم يحج بعد الهجرة إلا حجة واحدة هي "حجة الوداع"، هكذا قال زيد بن أرقم -رضي الله عنه-: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غزا تسع عشرة غزوة، وحج بعد ما هاجر حجة لم يحج غيرها، حجة الوداع"(متفق عليه).
لكن ما دمت قادرًا مستطيعًا فهذه المرة الواحدة والحجة المفردة عليك فريضة محكمة، قال -تعالى-: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)[آل عمران: 97]، قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: "أي: ومن جحد فريضة الحج فقد كفر، والله غني عنه"(تفسير ابن كثير).
ويقول الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "لقد هممت أن أبعث رجالًا إلى هذه الأمصار فينظروا كل من كان له جدة [مال] فلم يحج، فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين"(تفسيري القرطبي وابن كثير).
وكيف لا، والحج هو ركن من أركان الإسلام الخمسة التي عليها أُقيم صرحه وشُيد بناؤه: "بني الإسلام على خمس، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان"(متفق عليه).
***
ولا يليق بالمستطيع القادر أن يؤجل الحج عامًا بعد عام بلا عذر، فقد أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائلًا: "من أراد الحج فليتعجل، فإنه قد يمرض المريض، وتضل الضالة، وتعرض الحاجة"(رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني).
ولكن على من يجب الحج؟ ومن هو القادر المستطيع للحج؟
أما على من يجب، فقد "قال العلماء: الحج واجب على كل مسلم وهو أحد أركان الإسلام الخمسة. ولوجوب الحج خمس شرائط: الإسلام والبلوغ والعقل والحرية والاستطاعة"(تفسير الخازن).
وأما الاستطاعة في الحج فقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء فقالت: "أما الاستطاعة بالنسبة للحج: فأن يكون صحيح البدن، وأن يملك من المواصلات ما يصل به إلى بيت الله الحرام من طائرة أو سيارة أو دابة أو أجرة، ذلك حسب حاله، وأن يملك زادا يكفيه ذهابًا وإيابًا، على أن يكون ذلك زائدًا عن نفقات من تلزمه نفقته حتى يرجع من حجه، وأن يكون مع المرأة زوج أو محرم لها في سفرها للحج أو العمرة".
ونزيد على شروط الاستطاعة هذه ما قرره "بيان هيئة كبار العلماء" بأن من الاستطاعة أن يُصرَّح للمسلم بالحج من الجهات المعنية بتنظيم سير فريضة الحج، فإن لم يمتلك تصريحًا بالحج فليس بمستطيع، بل هو فاقد لركن من أركان الاستطاعة.
ويأتي أمر تصريحات الحجاج في إطار ما تبذله المملكة العربية السعودية من جهود ضخمة جليلة مشكورة في سبيل تيسير الحج وتنظيمه ومنع التكدس والازدحام الذي نتج عنه العديد من المآسي في سنوات سابقه؛ تلك التي حج فيها أناس كثيرون بلا تصاريح، فنتج عن ذلك تدافع وتزاحم صعَّب الأمر على الحجاج وجعله أكثر مشقة من جهة، ومن جهة أخرى أسفر عن قتلى قُتلوا دهسًا تحت الأقدام!
والالتزام بتصريح الحج طاعة لأولي الأمر الذين أمر القرآن بطاعتهم: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)[النساء: 59].
كذلك تفضلت وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد بتعميم هذا الأمر ونشره بين المسلمين، من باب نشر الخير والتعاون على البر والتقوى.
***
وعلى جميع ما سبق اتفقت كلمة الخطباء وتوحدت رؤيتهم، وأدلى كل منهم بدلوه موضحًا وموجهًا ومؤصلًا ومفصِّلًا، وهاك بعض مما قالوا: