(الاستسقاء) الافــتِــقَـــــارُ إلى اللهِ
راشد بن عبد الرحمن البداح
الحمدُ للهِ الذي لَم يَزلْ بِنعُوتِ الجلاَلِ والجَمال متصفاً، وأشهدُ أنْ لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لاَ شريكَ لهُ، مُقِرَّاً بِأُلُوهِيَّتِهِ ومُعْترِفاً، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ اللهِ ورسُولُه، الماحي العاقبُ المصطفَى، صلَّى اللهُ وسلمَ عليهِ ومَنْ لِهَدْيِهِ اقتفَى، أما بعدُ:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}[فاطر15]
فلنَسألْ أنفُسَنا ونحنُ نأتيْ لصلاةِ الاستسقاءِ: هلِ استشعرْنا شدةَ فاقَتِنا إلى ربِّنا؟!
فاللهم ارحمْنَا جميعًا بِجَمْعِنا هذا الذي يسألُكَ ويخافُكَ ويرجُوكَ.
أيُها المُسْتَسْقُونَ: إِنَّ الذُّلَّ وَالِانْكِسَارَ والافْتِقَارَ للهِ رُوحُ الْعُبُودِيَّةِ، وإذا أرادَ اللهُ بعَبْدِهِ خَيراً فَتَحَ لَهُ هَذا البَابَ الفَسِيْحَ، فَيَعْمَلُ الذَّنْبَ فَلا يَزَالُ مُشفِقاً وَجِلاً نَادِماً مُسْتَحِياً مِنْ رَبِهِ تعالَى نَاكِسَ الرأْسِ بَينَ يَدَيْهِ، مُعْتَرفًا بِذُنُوبِهِ وعُيُوبِهِ، حتى يقولَ عدُوُّ اللهِ: يا لَيْتَنِي تَرَكْتُهُ ولَمْ أُوْقِعْهُ([1]).
ويَفْعَلُ الحَسَنةَ فلا يَزَالُ مُتَذَلِلاً لمَوْلَاهُ أنْ يَقْبَلَها، وحَامِدًا لهُ أنْ وَفَّقَهُ لها. وَيَبْتَلِيْهِ بِبَلايَا يَكْسِرُه بِها، ليَجْبُرَهُ بِها؛ لأنَّ الِانْكِسَارَ والتَّذَلُّلَ وَالتَّمَلُّقَ لِلَّهِ، أَحَبُّ إِلَيهِ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ([2]).
وقد رَوَى أحمدُ في الزُهْدِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَبَدَ اللَّهَ سَبْعِينَ سَنَةً، ثُمَّ شَكَا إِلَى اللَّهِ بَثَّهُ وَاعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ، فَأَتَاهُ آتٍ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ: «إِنَّ مَجْلِسَكَ هَذَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ عَمَلِكَ فِيمَا مَضَى مِنْ عُمْرِكَ»([3]).
معاشرَ المؤمنينَ: إنَّ ربَّنا القرِيبَ قَرِيبٌ مِنَ المُنْكَسِرِينَ. وَلِأَجْلِ هَذَا كَانَ أَقْرَبَ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ؛ لِأَنَّهُ مَقَامُ ذُلٍّ وَانْكِسَارٍ بَيْنَ يَدَيْهِ([4]).
قَالَ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: يَا رَبِّ أَيْنَ أَبْغِيكَ؟ قَالَ: ابْغِنِي عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ؛ فَإِنِّي أَدْنُو مِنْهُمْ كُلَّ يَوْمٍ بَاعًا([5]).
وإِنَّ الْمُؤْمِنَ الصَّادِقَ يَدْعُو رَبَّه كَثِيْرًا، ولَوْ لَمْ يرَ إجَابَةً لدُعَائِهِ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى نَفْسِهِ بِاللَّائِمَةِ، وَيَقُولُ لَهَا: لَوْ كَانَ فِيكِ خَيْرٌ لَأُجِبْتِ.
وتَرَاهُ إذا دَعَا يَدْعُو دُعَاءَ خِيْفَةٍ بِخُفْيَةٍ، مُتَذَلِّلاً مِسْكِينًا مُسْتَكِينًا، بِحَيْثُ يَرَى نَفْسَهُ كَالْإِنَاءِ الْمَرْضُوضِ تَحْتَ الْأَرْجُلِ.. وَأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلِانْتِفَاعِ إِلَّا بِجَبْرٍ جَدِيدٍ مِنْ صَانِعِهِ، ويَنْتَظِرُ أَنْ يَضَعَ فِيهِ صَانِعُ الْإِنَاءِ مَا يَصْلُحُ لَهُ. فَإِذَا رَأَيْتَ رَبَّكَ قَدْ أَقَامَكَ فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَرْحَمَكَ وَيَمْلَأَ إِنَاءَكَ([6]).
ومَا أَقْرَبَ الْجَبْرَ مِنْ هَذَا الْقَلْبِ الْمَكْسُورِ! وَمَا أَدْنَى النَّصْرَ وَالرَّحْمَةَ وَالرِّزْقَ مِنْهُ! وَذَرَّةٌ مِنْ هَذَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ طَاعَاتٍ أَمْثَالِ الْجِبَالِ مِنَ الْمُعْجَبِينَ بِأَعْمَالِهِمْ وَعُلُومِهِمْ.
{وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ}[محمد38]
فَيا عَبدَ اللهِ: إِذا وَقَعْتَ بِذَنْبٍ أوِ ابْتُلِيْتَ بِبَلِيَّةٍ أوْ حَزَبَكَ أَمْرٌ فانْطَرِحَ بَيْنَ يَدِيْ الذِيْ هُوَ أَرْحَمُ بِكَ مِنَ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا. وَقُلْ بَاكِيًا نَادِمًا: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، ارْحَمْ مَنْ لَا رَاحِمَ لَهُ سِوَاكَ، وَلَا مُؤْوِيَ لَهُ سِوَاكَ، وَلَا مُغِيثَ لَهُ سِوَاكَ. أَنَا مِسْكِينُكَ وَفَقِيرُكَ.
أَسْأَلُكَ بِغِنَاكَ وَفَقْرِي، وبِعِزِّكَ وَذُلِّي إِلَّا رَحِمْتَنِي، هَذِهِ نَاصِيَتِي الْكَاذِبَةُ الْخَاطِئَةُ بَيْنَ يَدَيْكَ، عَبِيدُكَ سِوَايَ كَثِيرٌ، وَلَيْسَ لِي سَيِّدٌ سِوَاكَ، أَسْأَلُكَ مَسْأَلَةَ الْمِسْكِينِ، وَأَبْتَهِلُ إِلَيْكَ ابْتِهَالَ الْخَاضِعِ الذَّلِيلِ، وَأَدْعُوكَ دُعَاءَ الْخَائِفِ الضَّرِيرِ. لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَى مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ:
يَا مَنْ أَلُـــــوذُ بِهِ فِيمَا أُؤَمِّــلُهُ...وَمَنْ أَعُــــوذُ بِهِ مِمَّا أُحَـــاذِرُهُ
لَا يَجْبُرُ النَّاسُ عَظْمًا أَنْتَ كَاسِرُهُ...وَلَا يُهِيـضُونَ عَظْمًا أَنْتَ جَابِرُهُ([7])
يا أيُّها المستَسْقُونَ ربَّكمْ غيْثًا مُغِيْثًا: لِنَدْعُ الآنَ بِافتِقارٍ قائِلِينَ:
o نستغفرُ اللهَ الحيَ القيومَ ونتوبُ إليه. نستغفرُ اللهَ الحيَ القيومَ ونتوبُ إليه. نستغفرُ اللهَ الحيَ القيومَ ونتوبُ إليه
o ربَّنا ظلمْنا أنفسَنا وإن لم تغفرْ لنا وترحمْنا لنكونَّنَّ من الخاسرينَ.
o اللهم أنتَ اللهُ لا إلهَ إلا أنتَ، الغنيُّ ونحنُ الفقراءُ، أنزلْ علينا الغيثَ ولا تجعلْنا من القانطينَ.
o اللهم أغثْنا، اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا هنيئًا مريئًا طبقًا سحًا مجللاً، عامًا نافعًا غيرِ ضارٍ، عاجلاً غير آجل، اللهم تُحييْ به البلادَ، وتغيثُ به العبادَ، وتجعلُه بلاغًا للحاضرِ والبادِ.
o اللهم اسقِ عبادَك وبلادَك وبهائمَك، وانشرْ رحمتَك، وأحييْ بلدَك الميتَ، اللهم أنبتْ لنا الزرعَ، وأدرَّ لنا الضرعَ، وأنزل علينا من بركاتِك، واجعلْ ما أنزلتَه قوةً لنا على طاعتِك وبلاغًا إلى حينٍ.
o اللهم إنا خلقٌ من خلقِكَ فلا تمنعْ بذنوبِنا فضلَك. اللهم اسقِنا الغيثَ، ولا تجعلْنا آيسينَ، ولا تهلكْنا بالسنينَ.
o اللهم ارحمِ الأطفالَ الرُّضَّعَ، والبهائمَ الرُّتعَ، والشيوخَ الركعَ، وارحمْنا أجمعينَ.
o اللهم ادفعْ عنا الغلاءَ والبلاءَ والوباءَ، وسوءَ الفتنِ، ما ظهرَ منها وما بطنَ.
o اللهم مَن أرادَنا أو أرادَ بلادَنا ومقدساتِنا وحرماتِنا بسوءٍ فأشغلْه بنفسِه، ورُدَّ كيدَه في نحرِهِ.
o اللهم آمِنّا في أوطانِنا، وأيِّدْ بالحقِ إمامَنا ووليَ عهدِه، وأعزَّهم بطاعتِك، وأعزَّ بهم دينَك، وارزقهُم بطانةً صالحةً ناصِحَةً.
o اللهم احفظْ جنودَنا في حدودِنا، واشفِ مرضاهمْ، وارحمْ موتاهمْ.
عبادَ اللهِ: تأسياً بنبيِّكم محمدٍ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- اقلِبُوا الشماغَ (كما أفتى ابنُ بازٍ ولجنةُ الإفتاءِ)، ثم لْيَدْعُ كلُّ واحدٍ لوحدِهِ واقفاً دقيقةً أو دقيقتينِ؛ فهذهِ هيَ السُّنةُ. وادعوا اللهَ وأنتم موقنونَ بالإجابةِ. وصلى اللهُ على محمدٍ وسلَّم تسليمًا.
([1]) بتصرف واختصار من الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 6)
([2])بتصرف واختصار من مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 306) وإغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 87)
([3])الزهد لأحمد بن حنبل (ص: 47)
([4])مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 306)
([5])حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (6/ 177)
([6])بتصرف واختصار من جامع العلوم والحكم ت الأرنؤوط (1/ 494) ومدارج السالكين (1/ 427) و (3/ 122 ط الكتاب العربي)
([7])بتصرف واختصار من مدارج السالكين (1/ 429)
المرفقات
1635939139_الافتقار إلى الله.pdf
1635939158_الافتقار إلى الله.docx