الاستدلال بالخطأ على الخطأ - د. : منصور العيدي

الفريق العلمي
1439/04/07 - 2017/12/25 11:53AM

في كتاب الله -عز وجل- تقسيم نصوص القرآن إلى محكمة يظهر معناها لأول وهلة، وأخرى متشابهة تحتمل عدة معان، ولمعرفة الصواب فيها لا بدّ من إمعان النظر بحيث تتلاقى مع المحكمة ولا تناقضها، وقد أخبرنا الله وحذرنا من الأخذ بالمتشابه وترك المحكم وجعل سبحانه ذلك الصنيع فعل الزائغين الذين في قلوبهم مرض.

 

إنهم يحتجون على باطلهم بنص قرآني أو نبوي، لكنهم وظفوه توظيفاً سيئا. وهذا العمل الذي يقومون به يُسمّى: الاستدلال بالمتشابه.

 

غير أن ثمة أمرًا استجدّ ربّما يعدّ أسوأ من الاستدلال بالمتشابه ألا وهو الاستدلال بما ليس بدليلٍ أصلاً على أمر خاطئ، هذه الظاهرة النشاز في علم أصول الفقه هي ما أردت لفت النظر إليه في هذا المقال، وهي الاستدلال بالخطأ على الخطأ. وذلك يختلف عن الاستدلال بالمتشابه؛ لأن في حالة الاستدلال بالمتشابه يوجد دليل من الكتاب أو السنة يتكئ عليه المُستدل، أما في حالة الاستدلال بالخطأ فنحن لسنا أمام دليل، وإنما أمام وهم تحوّل عند صاحبه إلى دليل وبرهان مع أنه في الأساس لا قيمة له.

 

إن قيام شخص باختلاق دليل من السنة ظاهرة قديمة عُرفت بالوضع في الحديث يقوم بها بعض ضعاف النفوس؛ لتحقيق مصلحة هنا أو هناك، وهو -على سوئه- إلا أن فاعله يستحضر أن الاحتجاج بالسنة أمر معتبر ولذا احتاج إلى اختلاق دليل؛ ليخدع به الناس ويُمرّر ما يشاء.

 

أما في حالتنا هذه -الاستدلال بالخطأ على الخطأ- فلا ضرورة لاختلاق حديث، وإنما يكتفي صاحب الاستدلال أن يبرهن على ما يريد بكلام مرسل يظن أنه سيغني عنه من الله شيئا.

 

وبغض النظر عن مقصد فاعل هذا الأمر وهل صدر من وَهْم أو تعمّد؟! إلا أن الذي يعنينا أن هذا أمر موجود حاصل يجب التنبه له؛ فقد يفعله الشخص بحسن نية وهو لا يدري -وهو أمر في غاية الخطورة-، وقد يلتحق الشخص بركب المفترين على مقام الشريعة وهو لا يشعر -عياذا بالله-.

 

أظن أن القارئ الكريم يحتاج الآن إلى مثالٍ أو أكثر على ظاهرة الاختلاق المعاصرة؛ ليكون الأمر أكثر وضوحاً.

 

لكن قبل ذلك ليسمح لي القارئ الكريم أن أذكره بأن مصادر التشريع التي ينبني عليها الحلال والحرام محصورة محددة لا مجال للزيادة عليها، ولا تتغير من زمن لآخر ولا من مكان لآخر؛ فأصولها: الكتاب والسنة وتوابعها -على سبيل المثال- الإجماع والقياس وأقوال الصحابة، وهذه الأصول والتوابع هي ما يطلق عليه الأدلة الكلية، ولكيفية الاستدلال بها وضوابطه أوصاف مُحدّدة -ليس المقام محل بسطها-.

 

وبالتالي فليس عمل الناس مصدراً للتشريع، وليست عادة بلد مصدراً للتشريع وهلمّ جرّا، هذه الأمور قد تكون بدهية لكننا نفاجأ من بعض المثقفين أنه ينسى هذه البدهيات.

 

خذ على سبيل المثال كيف يُبيح بعض الناس الاختلاط بحجة وقوعه في الطواف!!

 

حسنا نحن هنا أمام عدة أوهام:

الأول: أن صاحب هذا الكلام نسي أن فعل الناس ليس مصدراً للتشريع، سواء كان في المسجد الحرام أو غيره، وهل يقول عاقل أن ذلك التدافع عند تقبيل الحجر الأسود ممّا يُقرّه صاحب التشريع؟ فإن قال: لا. نقول وكذلك الاختلاط لا يُقره صاحب التشريع.

 

ربّما تقول لي الآن توقف؛ أليس الاختلاط في الطواف مباحاً في الشريعة؟

الجواب: كلا كلا بل جاءت بمنعه. قال إبراهيم النخعي: “نهى عمر أن يطوف النساء مع الرجال فرأى رجلاً معهن فضربه بالدرة”.

 

فإن قلت فكيف كان نساء الصحابة يطفن؟ يجيبك عن ذلك من شاهدهن، وهو أحد سادة التابعين عطاء بن أبي رباح فيقول ما نصه: “لم يكن يخالطن الرجال، كانت عائشة تطوف حجزة من الرجال-يعني في حاشية المطاف ونهايته-” أ.هـ. ليس بين الرجال ولا قريبا منهم، بل يقول ما نصّه: “يخرجن متنكرات بالليل”. ولاحظ -أيها الكريم- أنه لا ثمة أنوار بل ظلام الليل؛ فلم يكتفين بالبعد بل زدن عليه الطواف بالليل.

 

أما خلاف ذلك فهو فعل العوام وليس من الشرع في شيء، وليس هذا كلامي ولا كلام متشدد بل هو كلام شيخ الشافعية ابن جماعة في هداية السالك 3/1019.

 

والنصوص في هذا من كلام العلماء كثيرة وشواهده من السنة متعددة لكن أين من ينشد الحق ويتخلى عن الأهواء؟!.

 

خذ مثالاً آخر على الاستدلال بالخطأ على الخطأ: ترى بعض الناس يُطالب ببعض أشكال الترفيه المُحرّم؛ كالحفلات الغنائية بحجة ماذا؟ الجواب: بحجة وجوده في البلاد المُجاورة، وبحجة أننا لا نريد الاختلاف عن الناس، ولسنا نحن المسلمين فقط!!!

 

والمؤسف أن هذا الكلام يُردّد من مثقفين قبل بسطاء الناس.

 

أقول هو بالفعل مؤسف جداً، ومن نواحٍ متعددة:

مؤسف؛ لأننا أهملنا الاستدلال بالكتاب والسنة، ومؤسف؛ لأن المطلوب من المسلم أن لا يكون إمعة حيث سار الناس سار معهم، وإنما المطلوب أن يقف مع الصواب، ومؤسف؛ لأنه كان ينبغي أن نعتز بقيمنا لا أن نحاكي غيرنا، ومؤسف؛ لأن تطلعاتنا السابقة كانت أن يحتذي الناس بنموذجنا لا أن نصف في طابور قديم بل في مؤخره أيضا.

 

لقد كان المشركون الأوائل يحتجون على أفعالهم السقيمة بأنهم وجدوا آباءهم كذلك فردّ الله عليهم بإبطال مشروعية تقليد من تخلى عن الهداية. وهكذا من تنكّب طريق الهداية في زمننا فحقه علينا النصح لا أن نقوم بتقليده على خطئه.

 

هذان المثالان -الاختلاط وحفلات الغناء- ليسا الوحيدين في الاستدلال بالخطأ على الخطأ بل عند التأمل هي أكثر من ذلك بكثير.

 

ألم يأتكم نبأ من أباح التدخين؛ لأنه يباع في الأسواق؟! ونبأ من أباح المعازف والطرب؛ لأنها تذاع في الإذاعة والتلفاز؟! بل في بعض البلدان يبيحون تعاطي القات؛ لأنها عادة يفعلها علية القوم، وآخرون يريدون هذا أو ذاك بحجة وجوده قبل أربعين أو خمسين عاما!

 

ولو استمرينا في التعداد لطال بنا المقام وحسب القلادة ما أحاط بالعنق.

 

لكن تأمل -وهو بيت القصيد- كيف جعلوا هذه التعليلات -من حيث يعلمون أو لا يعلمون- مصادر للتشريع، يردّون بها نصح الناصحين وتذكير الواعظين.

 

رحماك ربي أين الكتاب والسنة؟!

 

أيها المثقف العزيز الكريم: من فضلك اعرف مصادر التشريع ولا تتجاوزها، استرشد بأقوال العلماء في توضيحها، كن وثيق الصلة بنصوص الوحي قبل ذلك، لا تتقحم مواطن الهلكة إرضاء لرغباتك.

 

أيها المثقف الكريم: اتئد ولا تستدل بالخطأ على الخطأ.

المشاهدات 689 | التعليقات 0