الاستدراج
محمد بن إبراهيم النعيم
1438/02/24 - 2016/11/24 09:26AM
خطبة د. محمد بن إبراهيم النعيم-رحمه الله- 26/10/1435 هـ
الحمد لله ....
لقد سن الله عز وجل في هذا الكون سننا لا تتغير ولا تحيد، سنن لا تحابي أحدا سواء كان من المسلمين أم الكافرين، سنن في البلاء والابتلاء، سنن في التمحيص وسنن في الإملاء والاستدراج، وسنة الله تبارك وتعالى في الترف والمترفين، وسنة الله تبارك وتعالى في الطغيان والطغاة والمتكبرين، وسنة الله تبارك وتعالى فيمن بطر النعمة وجحدها، وسنة الله في الرزق والتغيير والتدافع بين أهل الحق والباطل، سنن كثيرة، فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً. فهل عرفنا هذه السنن وكيف نتعامل معها حتى لا ننخدع بها أو نغتر؟
دعوني أعرض لكم سنة من سنن الله في هذا الكون، وهي سنة الاستدراج، فما هو الاستدراج؟
وماذا قال عنه الله عز وجل ورسوله –صلى الله عليه وسلم-؟
وهل أنت مستدرج؟
وكيف نتعامل مع هذه السنة؟
بمعنى: ما هو العلاج إذا اكتشفت أنك مستدرج؟
فالاستدراج هو الأخذ بالتدرج، فكلما أذنب العبد زاده الله من النعم وأنساه التوبة، فيدنيه من العذاب قليلا قليلا ثم يصبه عليه صبا.
يقول الحق تبارك وتعالى وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ
وقال تعالى فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُون وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ.
لهذا لا ينبغي أن نغتر بما أوتي الكفار من نعم في الدنيا؛ لأن الله يستدرجهم ويملي لهم، قال تعالى أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ.
والاستدراج يا عباد الله لا يكون للكفار فقط، وإنما يقع على الكافر والمسلم على حد سواء، فقد جاء عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ –رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنْ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ، فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ، ثُمَّ تَلا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم-: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ رواه أحمد.
ومعنى الحديث: أنك إذا رأيت الله تبارك وتعالى يعطي العبد من النعم ويزيده منها، وهذا العبد لا يزال مقيما على معاصيه، فاعلم أن ذلك استدراج من الله تعالى لذلك العبد الذي اغتر بتلك النعم، وظن أن الله تعالى راض عنه.
وقد يسأل سائل: متى يكون العطاء من الله استدراجا؟ ومتى يكون إنعاما؟
إذا أعطاك الله لأنك شكرته وحمدته فهذا إنعام؛ لأن الله وعد بالزيادة لمن شكر فقال: ولئن شكرتم لأزيدكم، وأما إذا أعطاك الله وأنت لا تزال مقيما على معاصيك، فاعلم أن ذلك استدراجا، لقوله- صلى الله عليه وسلم- (إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنْ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ).
فإذا رأيت الله تعالى يوسع على إنسان وهو ظالم، ومع ذلك تزداد رتبته وتزداد منزلته وتزداد ثرواته وخيراته، فلا تظن أن ذلك لكرامته على الله، خصوصا إذا كان يزدادُ في الوقت ذاته طغيانا ومعصية، وإنما ذلك من باب الاستدراج.
فإنك تجد بعض المدراء أو المسئولين في دائرة معينة يعطيه الله تعالى من الجاه والسمعة والثراء السريع وثناء المرؤوسين عليه، وهو مقيم على معصية الله بتقصيره في أداء هذه الوظيفة وقبول الرشوة وظلم الموظفين وبخسهم حقوقهم، واستغلال منصبه باختلاس الملايين من المشاريع الحكومية، مغترا بستر الله عليه، وثناء من حوله عليه؛ إما مجاملة أو خوفا من سطوته، والمسكين لا يعلم أن الله يستدرجه.
وإنك لترى التاجر يتاجر في بضائع محرمة فيرزقه الله المال الوفير من هذه التجارة، ويظن أن الله وفقه في هذه التجارة لرضاه عنه، وقد يقول في داخل نفسه، لو كانت تجارتي لا تُرضي الله لما وجدتُ التوفيق فيها، ولرأيتُ من ينصحني في المنام، ونحو ذلك من تبريرات شيطانية، وما علم أن الله لا يعامل خلقه كمعاملته لأنبيائه، فإن الله قد يعجل عقوبة عبده في الدنيا إن أراد الله به خيرا، أو قد يستدرجه حتى يغتر ولا يتوب، ليزيده عذابا في الآخرة.
وعلى مستوى الأمم فإن الله تعالى قد يفتح على أمة من النعم الشيء الكثير، فإذا تنكبت عن شرع الله، زادها الله غنى، وفتح لها من خزائن الأرض، فهي تزداد بعدا عن الله، والله يفتح لها أبواب كل شيء استدراجا لها حتى ينزل عليها عقوبته بغتة.
قال تعالى وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ.فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ. فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وأما إذا رأيت الله عجّل عقوبة عبده في الدنيا لذنب أصابه، فاعلم بأن الله أراد بذلك العبد خيرا؛ لأنه نال جزاءه في الدنيا، فقد جاء عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ –رضي الله عنه- أَنَّ رَجُلاً لَقِيَ امْرَأَةً كَانَتْ بَغِيًّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَجَعَلَ يُلاعِبُهَا حَتَّى بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: مَهْ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ ذَهَبَ بِالْجَاهِلِيَّةِ وَجَاءَنَا بِالإِسْلامِ، فَوَلَّى الرَّجُلُ فَأَصَابَ وَجْهَهُ الْحَائِطُ فَشَجَّهُ ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: (أَنْتَ عَبْدٌ أَرَادَ اللَّهُ بِكَ خَيْرًا، إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعَبْدٍ خَيْرًا، عَجَّلَ لَهُ عُقُوبَةَ ذَنْبِهِ، وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ شَرًّا، أَمْسَكَ عَلَيْهِ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَفَّى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ عَيْرٌ)
وعير اسم جبل في المدينة. رواه أحمد وابن حبان.
ولا يعني هذا أن تتمنى أن يعجل الله لك العقوبة في الدنيا كي لا تُستدرج؛ لأن المسلم مطالبٌ أن يسأل الله العافية ولا يتمنى البلاء ولا العقوبة.
فقد روى أَنَسُ بن مالك –رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَادَ رَجُلاً مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَدْ خَفَتَ فَصَارَ مِثْلَ الْفَرْخِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (هَلْ كُنْتَ تَدْعُو بِشَيْءٍ أَوْ تَسْأَلُهُ إِيَّاهُ)؟ قَالَ: نَعَمْ، كُنْتُ أَقُولُ: اللَّهُمَّ مَا كُنْتَ مُعَاقِبِي بِهِ فِي الآخِرَةِ فَعَجِّلْهُ لِي فِي الدُّنْيَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (سُبْحَانَ اللَّهِ لا تُطِيقُهُ، أَوْ لا تَسْتَطِيعُهُ، أَفَلا قُلْتَ: اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)؟ قَالَ فَدَعَا اللَّهَ لَهُ فَشَفَاهُ. رواه مسلم.
أسأل الله تعالى أن يعصمنا من الاستدراج، ويوقظنا من غفلتنا، ويوفقنا لصالح القول والعمل، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم، الجليل لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَأشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى حق التقوى، واحذروا الاستدراج، وهو الاسترسال في المعاصي، مع تزايد نعم الله عليك، دون أن تقع لك عقوبة على تلك الذنوب، فتقع في المعصية تلو الأخرى، أو تصر على معصية واحدة وتتمادي فيها، ويحدث في داخلك أمن من مكر الله، فتظن أن الله راض عنك، فلا تتوب من تلك المعاصي.
فإذا رأيت الله يتابع عليك نعمه وأنت مقيم على معاصيه، أو تستخدم هذه النعم في معصية الله، فاحذر كل الحذر، فإنما هو استدراج من الله، فبادر إلى التوبة وتصحيح المسار، وقابل تلك النعم بشكرها وصرفها في مرضاة الله عز وجل، فكما قال أحد السلف: رب مستدرج بنعم الله وهو لا يعلم.
فهذا مقياس دقيق يمكن أن تحاسب به نفسك، فإذا أغدق الله عليك من نعمه، وأنت لا تزال تعصي الله كثيرا، ومع ذلك يوسع الله عليك ويعطيك أكثر مما يعطي العبد المؤمن الصالح، فاعلم بأن الله يستدرجك ويملي لك، وأن الله قد يؤخر عقوبتك في الآخرة؛ لأنها أشد، لذلك بادر إلى التوبة والاستغفار، قبل أن تؤخذ على غفلة.
اللهم إننا نعوذ بك من أن نكون من المستدرجين، ونسألك أن تجعلنا من عبادك الشاكرين المخلصين، اللهم بصرنا بعيوبنا، واغفر لنا زلتنا واجعلنا من المهتدين، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا،
الحمد لله ....
لقد سن الله عز وجل في هذا الكون سننا لا تتغير ولا تحيد، سنن لا تحابي أحدا سواء كان من المسلمين أم الكافرين، سنن في البلاء والابتلاء، سنن في التمحيص وسنن في الإملاء والاستدراج، وسنة الله تبارك وتعالى في الترف والمترفين، وسنة الله تبارك وتعالى في الطغيان والطغاة والمتكبرين، وسنة الله تبارك وتعالى فيمن بطر النعمة وجحدها، وسنة الله في الرزق والتغيير والتدافع بين أهل الحق والباطل، سنن كثيرة، فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً. فهل عرفنا هذه السنن وكيف نتعامل معها حتى لا ننخدع بها أو نغتر؟
دعوني أعرض لكم سنة من سنن الله في هذا الكون، وهي سنة الاستدراج، فما هو الاستدراج؟
وماذا قال عنه الله عز وجل ورسوله –صلى الله عليه وسلم-؟
وهل أنت مستدرج؟
وكيف نتعامل مع هذه السنة؟
بمعنى: ما هو العلاج إذا اكتشفت أنك مستدرج؟
فالاستدراج هو الأخذ بالتدرج، فكلما أذنب العبد زاده الله من النعم وأنساه التوبة، فيدنيه من العذاب قليلا قليلا ثم يصبه عليه صبا.
يقول الحق تبارك وتعالى وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ
وقال تعالى فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُون وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ.
لهذا لا ينبغي أن نغتر بما أوتي الكفار من نعم في الدنيا؛ لأن الله يستدرجهم ويملي لهم، قال تعالى أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ.
والاستدراج يا عباد الله لا يكون للكفار فقط، وإنما يقع على الكافر والمسلم على حد سواء، فقد جاء عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ –رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنْ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ، فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ، ثُمَّ تَلا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم-: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ رواه أحمد.
ومعنى الحديث: أنك إذا رأيت الله تبارك وتعالى يعطي العبد من النعم ويزيده منها، وهذا العبد لا يزال مقيما على معاصيه، فاعلم أن ذلك استدراج من الله تعالى لذلك العبد الذي اغتر بتلك النعم، وظن أن الله تعالى راض عنه.
وقد يسأل سائل: متى يكون العطاء من الله استدراجا؟ ومتى يكون إنعاما؟
إذا أعطاك الله لأنك شكرته وحمدته فهذا إنعام؛ لأن الله وعد بالزيادة لمن شكر فقال: ولئن شكرتم لأزيدكم، وأما إذا أعطاك الله وأنت لا تزال مقيما على معاصيك، فاعلم أن ذلك استدراجا، لقوله- صلى الله عليه وسلم- (إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنْ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ).
فإذا رأيت الله تعالى يوسع على إنسان وهو ظالم، ومع ذلك تزداد رتبته وتزداد منزلته وتزداد ثرواته وخيراته، فلا تظن أن ذلك لكرامته على الله، خصوصا إذا كان يزدادُ في الوقت ذاته طغيانا ومعصية، وإنما ذلك من باب الاستدراج.
فإنك تجد بعض المدراء أو المسئولين في دائرة معينة يعطيه الله تعالى من الجاه والسمعة والثراء السريع وثناء المرؤوسين عليه، وهو مقيم على معصية الله بتقصيره في أداء هذه الوظيفة وقبول الرشوة وظلم الموظفين وبخسهم حقوقهم، واستغلال منصبه باختلاس الملايين من المشاريع الحكومية، مغترا بستر الله عليه، وثناء من حوله عليه؛ إما مجاملة أو خوفا من سطوته، والمسكين لا يعلم أن الله يستدرجه.
وإنك لترى التاجر يتاجر في بضائع محرمة فيرزقه الله المال الوفير من هذه التجارة، ويظن أن الله وفقه في هذه التجارة لرضاه عنه، وقد يقول في داخل نفسه، لو كانت تجارتي لا تُرضي الله لما وجدتُ التوفيق فيها، ولرأيتُ من ينصحني في المنام، ونحو ذلك من تبريرات شيطانية، وما علم أن الله لا يعامل خلقه كمعاملته لأنبيائه، فإن الله قد يعجل عقوبة عبده في الدنيا إن أراد الله به خيرا، أو قد يستدرجه حتى يغتر ولا يتوب، ليزيده عذابا في الآخرة.
وعلى مستوى الأمم فإن الله تعالى قد يفتح على أمة من النعم الشيء الكثير، فإذا تنكبت عن شرع الله، زادها الله غنى، وفتح لها من خزائن الأرض، فهي تزداد بعدا عن الله، والله يفتح لها أبواب كل شيء استدراجا لها حتى ينزل عليها عقوبته بغتة.
قال تعالى وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ.فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ. فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وأما إذا رأيت الله عجّل عقوبة عبده في الدنيا لذنب أصابه، فاعلم بأن الله أراد بذلك العبد خيرا؛ لأنه نال جزاءه في الدنيا، فقد جاء عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ –رضي الله عنه- أَنَّ رَجُلاً لَقِيَ امْرَأَةً كَانَتْ بَغِيًّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَجَعَلَ يُلاعِبُهَا حَتَّى بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: مَهْ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ ذَهَبَ بِالْجَاهِلِيَّةِ وَجَاءَنَا بِالإِسْلامِ، فَوَلَّى الرَّجُلُ فَأَصَابَ وَجْهَهُ الْحَائِطُ فَشَجَّهُ ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: (أَنْتَ عَبْدٌ أَرَادَ اللَّهُ بِكَ خَيْرًا، إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعَبْدٍ خَيْرًا، عَجَّلَ لَهُ عُقُوبَةَ ذَنْبِهِ، وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ شَرًّا، أَمْسَكَ عَلَيْهِ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَفَّى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ عَيْرٌ)
وعير اسم جبل في المدينة. رواه أحمد وابن حبان.
ولا يعني هذا أن تتمنى أن يعجل الله لك العقوبة في الدنيا كي لا تُستدرج؛ لأن المسلم مطالبٌ أن يسأل الله العافية ولا يتمنى البلاء ولا العقوبة.
فقد روى أَنَسُ بن مالك –رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَادَ رَجُلاً مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَدْ خَفَتَ فَصَارَ مِثْلَ الْفَرْخِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (هَلْ كُنْتَ تَدْعُو بِشَيْءٍ أَوْ تَسْأَلُهُ إِيَّاهُ)؟ قَالَ: نَعَمْ، كُنْتُ أَقُولُ: اللَّهُمَّ مَا كُنْتَ مُعَاقِبِي بِهِ فِي الآخِرَةِ فَعَجِّلْهُ لِي فِي الدُّنْيَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (سُبْحَانَ اللَّهِ لا تُطِيقُهُ، أَوْ لا تَسْتَطِيعُهُ، أَفَلا قُلْتَ: اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)؟ قَالَ فَدَعَا اللَّهَ لَهُ فَشَفَاهُ. رواه مسلم.
أسأل الله تعالى أن يعصمنا من الاستدراج، ويوقظنا من غفلتنا، ويوفقنا لصالح القول والعمل، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم، الجليل لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَأشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى حق التقوى، واحذروا الاستدراج، وهو الاسترسال في المعاصي، مع تزايد نعم الله عليك، دون أن تقع لك عقوبة على تلك الذنوب، فتقع في المعصية تلو الأخرى، أو تصر على معصية واحدة وتتمادي فيها، ويحدث في داخلك أمن من مكر الله، فتظن أن الله راض عنك، فلا تتوب من تلك المعاصي.
فإذا رأيت الله يتابع عليك نعمه وأنت مقيم على معاصيه، أو تستخدم هذه النعم في معصية الله، فاحذر كل الحذر، فإنما هو استدراج من الله، فبادر إلى التوبة وتصحيح المسار، وقابل تلك النعم بشكرها وصرفها في مرضاة الله عز وجل، فكما قال أحد السلف: رب مستدرج بنعم الله وهو لا يعلم.
فهذا مقياس دقيق يمكن أن تحاسب به نفسك، فإذا أغدق الله عليك من نعمه، وأنت لا تزال تعصي الله كثيرا، ومع ذلك يوسع الله عليك ويعطيك أكثر مما يعطي العبد المؤمن الصالح، فاعلم بأن الله يستدرجك ويملي لك، وأن الله قد يؤخر عقوبتك في الآخرة؛ لأنها أشد، لذلك بادر إلى التوبة والاستغفار، قبل أن تؤخذ على غفلة.
اللهم إننا نعوذ بك من أن نكون من المستدرجين، ونسألك أن تجعلنا من عبادك الشاكرين المخلصين، اللهم بصرنا بعيوبنا، واغفر لنا زلتنا واجعلنا من المهتدين، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا،