الاختلاف في الأزمات

هلال الهاجري
1445/04/24 - 2023/11/08 20:27PM

الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَكْرَمَنَا بِالإِسْلَامِ شُكرَاً وعِرفَاناً، وَأَعَزَّنَا بِهِ قُوَّةً وَإِيمَانًا، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِنَا فَجَعَلَنَا أَحِبَّةً وَإِخْوَانًا، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَه إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، أَنْزَلَ كِتَابَهُ هُدًى وَرَحْمَةً وَتِبْيانًا، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، هَدَى اللهُ بِهِ مِنَ الضَّلَالَةِ، وَعَلَّمَ بِهِ مِنَ الجَهَالَةِ، وَأَعَزَّ بِهِ بَعْدَ الذِّلَّةِ، وَكَثَّرَ بِهِ بَعْدَ القِلَّةِ، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ كَانُوا لَهُ عَلَى الحَقِّ إِخْوَانًا وَأَعْوَانًا؛ أَمَّا بَعْدُ:

فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ).

فِي فِتنَةٍ مَلأَتْ فَضَاءَ المَدينةِ دُخَاناً وحَرُوراً، بَعدَمَا أَشعَلَ فَتيلَها المُنَافِقونَ كَذِباً وَزُورَاً، وَضَاقَ مِنهَا صَدرُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ، وَكَيفَ لا يَضِيقُ صَدرُهُ وَقَد طُعِنَ في عِرْضِهِ الشَّرَيفِ؟، فَخَاضَ فِيهِ مِنَ النَّاسِ مَنْ خَاضَ، وَمِنْ أَعظَمِ البَلايا الطَّعنُ في الأعراضِ، وَفي ذَلِكَ الجَو المُضطَربِ المُتَوَتِرِ المَشحُونِ، وَقَد تَأَخَرَ الوَحيُّ وَلِلهِ فِي حِكمَتِهِ شؤونُ، قَامَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ علَى المِنْبَرِ فَقَالَ: مَن يَعْذِرُنِي مِن رَجُلٍ بَلَغَنِي أذَاهُ في أَهْلِ بَيْتي؟!، فَوَاللَّهِ ما عَلِمْتُ علَى أهْلِي إلَّا خَيْرًا، وقدْ ذَكَرُوا رَجُلًا ما عَلِمْتُ عليه إلَّا خَيْرًا، وما كانَ يَدْخُلُ علَى أهْلِي إلَّا مَعِي، فَقَامَ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ وَهوَ سَيِّدُ الأَوسِ، فَقَالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، أنَا واللَّهِ أعْذِرُكَ منه؛ إنْ كانَ مِنَ الأوْسِ ضَرَبْنَا عُنُقَهُ، وإنْ كانَ مِن إخْوَانِنَا مِنَ الخَزْرَجِ أمَرْتَنَا، فَفَعَلْنَا فيه أمْرَكَ، فَقَامَ سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ وهو سَيِّدُ الخَزْرَجِ، -قَالَتْ عَائشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنهَا: وكانَ قَبْلَ ذلكَ رَجُلًا صَالِحًا، ولَكِنِ احْتَمَلَتْهُ الحَمِيَّةُ- فَقَالَ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ، لا تَقْتُلُهُ، ولَا تَقْدِرُ علَى ذلكَ، فَقَامَ أُسَيْدُ بنُ حُضَيْرٍ فَقَالَ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ، واللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ؛ فإنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنِ المُنَافِقِينَ، فَثَارَ الحَيَّانِ -الأوْسُ والخَزْرَجُ- حتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا، ورَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ علَى المِنْبَرِ، فَنَزَلَ، فَخَفَّضَهُمْ حتَّى سَكَتُوا، وسَكَتَ.

سُبحَانَ اللهِ .. إذا كَانَ هَذا الخِلافُ قَد وَقَعَ أمَامَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ في القُرونِ المُفَضَلةِ الشَريفةِ، فَكَيفَ بالقُرونِ المُتَأخرةِ الضَّعيفةِ، وَقَد ذَهَبَ كَثيرٌ مِنَ الهُدى والعِلمُ، وَقَلَّ كَثيرٌ مِنَ الصَّبرِ والحِلمِ، ولَكنَّها الفِتنَةُ إذا أطَلَّتْ بِرأسِها، وضَرَبَتْ بِفَأسِها، فَمَنْ ذا الذي يَسلَمُ مِن بَأسِها، فَاللهمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ.

لَيسَ كَلامُنا عَن الخِلافِ الذي يَقَعُ بَينَ المُنَافقينَ وأهلِ الإيمَانِ، فَذَلِكَ تُرفَعُ لَهُ رَايةُ الجِهَادِ باللِّسانِ، ولَكِنَّ المَقصودَ هو الخِلافُ بينَ أهلِ الخَيرِ والصَّلاحِ، وأَهلِ السُّنَّةِ والفَلاحِ، والذي يَكونُ سَبَبُهُ عَادةً اختِلافُ وُجهَاتِ النَّظرِ والاجتِهادُ، أو حُسنُ الظَّنِّ أو المَصلَحةُ أو تَأليفُ العِبادِ، وهَيَ أُمورٌ مَن أَصَابَ فِيها فَلهُ أجرَانِ، وَمَن أَخطَأَ فيهَا فَلَهُ أجرٌ، فَالكُلُّ فِيها مَأجورٌ، فَلِمَاذا الخُصومةُ والفُجورُ؟، وتَخَيَّلوا لو أَنَّ أَحَدَهم اليَومَ سَمِعَ سَعَدَ بَنَ عُبادةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، الصَّحَابيَّ الجَليلَ، حَاملَ رَايةِ الأنصَارِ، ومَستَشَارَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ، وَهو يُدَافعُ عَنْ رَأسِ المُنَافِقينَ عبدِ اللَّهِ بنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ، فَمَاذا عَسى أن يَقولَ؟، وَأُسيدُ بنُ حُضيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ يَصِفُهُ بالنِّفَاقِ وهو سَيِّدُ الخَزرَجِ أَمامَ قَومِهِ، فَمَاذا عَسى أن يَحدِثَ؟، وَلَكِنَّ النَّبيَّ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عَالَجَ المَوقِفِ، فَأمَرَهم بالسُّكُوتِ فَسَكَتوا، فَالعِلاجُ هُوَ السَّكُوتُ.

كَانَ الصَّحَابةُ رَضِيَ اللهُ عَنهُم إخوةً مَتَحَابينَ، حَتى لَو كَانوا في الآراء مَختَلفينَ، يَقُولُ عَليُّ بنُ أبي طَالبٍ رَضيَ اللهُ عَنهُ لِعُمرَ بنِ طَلحةَ بنِ عُبيدِ اللهِ رَضيَ اللهُ عَنه، وَكَانَ بينَهُ وبَينَ أبيهِ طَلحةَ خِلافٌ يَومَ الجَمَلِ: (إنِّي لأرجو أَنْ يَجعَلني اللهُ وأبَاكَ في الذينَ قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهم: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ).

وكَذَلِكَ كَانَ مَنْ بَعدَهم مِن عُلَماءِ السَّلَفِ، فَإن اختَلَفوا في مَسائلَ فَقهيَّةِ، فَقُلوبُهم مَليئةٌ بِحُسنِ النِّيةِ، يَقُولُ يُونسُ الصَّدفيُّ: (مَا رَأيتُ أَعقلَ مِن الشَّافعيِّ، نَاظرتُه يَوماً في مَسألةٍ ثُمَّ افتَرقنَا، وَلَقيتُهُ بَعدَها فَأَخذَ بِيَدي ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا مُوسى أَلا يَستقيمُ أَنْ نَكونَ إخوانَاً وإنْ لم نَتفقْ في مَسألةٍ)، قَالَ الذَّهبيُّ مَعَلِّقاً عَلى المَوقِفِ: (هَذا يَدِلُّ عَلى كَمَالِ عَقلِ هَذا الإمامِ وَفِقهِ نَفسِهِ، فَمَا زَالَ النُّظراءُ يَختلفونَ)، وَصَدقَ رَحِمَهُ اللهُ، فَأينَ هَذا مِن الرُّدودِ القَاسيَّةِ، والألفاظِ النَابيَّةِ، والاتِّهاماتِ بِالفِسقِ والضَّلالِ، التي لا يَفرَحُ بِها إلا أَهلُ الكُفرِ والانحلالِ، وتَتَقَطَّعُ مِنهَا جَسَدُ الأمَّةِ المَجروحُ إلى أَوصَالٍ.

كُوْنُوْا جَمِيْعًا يَا بَنِيَّ إِذَا اعْتَرَى *** خَطْبٌ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا آحَادَا

تَأْبَى الرِمَاحُ إِذَا اجْتَمَعْنَ تَكَسُّرَا *** وَإِذَا افْتَرَقْنَ تَكَسُّرَتْ أَفْرَادَا

باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذِّكرِ الحكيمِ، أقولُ قَولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المؤمنينَ من كلِّ ذَنبٍ، فاستغفروه حقًّا، وتوبوا إليه صِدقًا، إنه هو الغَفورُ الرَّحيمُ.

الخطبة الثانية:

الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أَمَّا بَعْدُ:

فَيَا أيُّها الأحبَّةُ .. في الوَقتِ الذي تَنزِفُ فيهِ الأمَّةُ الإسلاميَّةُ الدِّماءَ، وَيَتَسلَّطُ عَليها في كُلِّ مَكانٍ الأعدَاءُ، نَحتَاجُ إلى الاعتِصَامِ بِحَبلِ اللهِ تَعَالى والائتِلافِ، وتَركِ الفَرقَةِ والنِّزاعِ والخِلافِ، كَمَا أَمَرَنا اللهُ تَعَالى بِقَولِه: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)، فَهذا هو مَصدَرُ القُوةِ والنَّجَاحِ، وهَو سَبيلُ النَّصرِ والفَلاحِ، كَمَا أَخبَرَ سُبحَانَهُ بِقَولِهِ: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ).

وَأولى النَّاسِ بِذَلكَ هُم أَهلُ الخَيرِ والدُّعاةُ، الذينَ يُرشِدونَ النَّاسَ في الفِتنِ إلى طَريقِ النَّجَاةِ، ويَتركُونَ الاتِّهَاماتِ والرُّدودَ والشِّقَاقِ، ويَجمَعونَ قُلوبَ النَّاسِ عَلى الحُبِّ والوِفَاقِ، فَمَا أَحوجَ الأمَّةُ اليَومَ إلى كَلِمةٍ صَادِقَةٍ، ونِيَّةٍ خَالِصَةٍ، وحَسنِ ظَنٍّ بِأهلِ الخَيرِ والصَّلاحِ، يَقولُ الذَّهبيُّ رَحِمَهُ اللهُ: (وَلَوْ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَخْطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ -مَعَ صِحَّةِ إيمانه، وَتَوَخِّيْهِ لاتِّبَاعِ الحَقِّ- أَهْدَرْنَاهُ، وَبَدَّعنَاهُ، لَقَلَّ مَنْ يَسلَمُ مِنَ الأَئِمَّةِ مَعَنَا، رَحِمَ اللهُ الجَمِيْعَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ)، وَصَدَقَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى، فاللهَ اللهَ أيُّها الدُّعَاةُ، فَأَنتُم القُدُواتُ، عِندَما تَشتَدُّ بالنَّاسِ الأَزَمَاتُ.  

يَا دُعَاةَ الخَيرِ يَا مِلْحَ الْبَلَدْ *** مَا يُصْلِحُ الْمِلْحَ إِذَا الْمِلْحُ فَسَدْ

فَيَا أَيُّها النَّاسُ إذا رَأيتُم اختِلافَ الرأيِّ والاضطرابَ، فاعلَموا أنَّها الفِتنةُ الظَّلماءُ كَقِطَعِ السَّحابِ، وَعَليكُم بِوَصيَّةِ النَّبيِّ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عِندَمَا سُئلَ عَنِ النَّجَاةِ؟، فَقَالَ: (أَمْسِكْ عليك لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيتُك، وابْكِ على خَطِيئَتِكَ).

اللهمَّ أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأَذلَّ الشركَ والمشركينَ، ودَمرْ أعداءَ الملةِ والدينِ، اللهم انصر إخوانَنا المجاهدينَ في سبيلِك في كلِ مكانٍ، الذين يريدونَ أن تكونَ كلمتُك هي العليا، اللهم ثبتهم وسددهم، وفَرجْ هَمَهم، ونَفسْ كَربَهم، وارفع دَرجاتِهم، اللهمَّ أنقذْ المسجدَ الأقصى من الصهاينةِ المعتدينَ واليهودِ الغاشمينَ، اللهمَ عَلَيْكَ بِاليَهُودِ وأَعْوانِهِمْ، اللهم اهْزِمهُمْ وَمَزِّقْهُمْ وفَرِّقْ كَلِمَتَهُمْ وَشَتّتْ شَمْلَهُمْ، اللهمَّ أصلح أحوالَ أمةِ محمدٍ في كلِّ مكانٍ،  اللهم اجمع قلوبَهم على كتابِكَ وسنةِ نبيكَ محمدٍ واهدهم سَبلَ السلامِ، وجنبهم الفواحشَ والفتنَ ما ظهرَ منها وما بطنَ، اللهم وفق إمامَنا وأعوانَه إلى ما فيه عِزُّ الإسلامِ وصَلاحُ المسلمينَ، اللهم ادفعْ عنا الغَلاءَ والوَباءَ والربا والزنا والزلازلَ والمحنَ وسوءَ الفتنِ، ما ظَهرَ منها وما بَطنَ، عن بلدِنا هذا خَاصةً وعن سَائرِ بلادِ المسلمينَ.

المرفقات

1699464457_الخلاف في الأزمات.docx

1699464463_الخلاف في الأزمات.pdf

المشاهدات 1965 | التعليقات 0