الاحتساب وظيفة المجتمع 6/7/1439 للشيخ د. منصور الصقعوب

الاحتساب وظيفة المجتمع 6/7/1439هـ

الخطبة الاولى:

الحمد لله الذي أعزنا بالدين وجعلنا خير أمة أخرجت للعالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده رب العالمين, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الأمين، الذي أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.

عباد الله: قال رسول الله ج " مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا، وَنَجَوْا جَمِيعًا " رواه البخاري.

إنه مثلٌ ضربه الرسول ج للمجتمع بأنه كسفينة تسير بركابها, والعواصف والأمواج من حولها, والمياه المغرقة تحيط بها, فإن ظلت السفينة متينة وركابُها متماسكين, عبرت البحر بأمان, وإن أصابها الخلل فلن يسلم من الغرق إلا من رحم الله, ولربما رأيت من الناس من يحاولون خرقها, ويسعون جهدهم لإتلافها, نظروا لرغبتهم وغفلوا عن هلاكهم وهلاك غيرهم, وحين يترك القوم هؤلاء يغرق الجميع, إنها سفينة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر,  صل الله عليك يا رسول الله فلقد صورت بحديث السفينة واقعاً يُشاهد كثيراً, حين يريد المصلح الخير, ويريدُ المفسد أن يوبق الناس معه ويغرقهم في أوحال الفساد.

الأمرُ بالمعروف معشر الكرام قطب الدين, وسبب نيل الخير من رب العالمين, وإن الأمة حين يقلّ ناصحوها ويكثرُ مسرفوها, فإنها حينئذٍ تكون على شفا هلكة, لأن الشرّ يشيعُ والمنكرَ ينتشر ويذيع, وما تزال المنكرات تتوسع على مرأى من الناس وسكوتهم, حتى يصير المنكرُ مألوفاً, والمنكِر ملوماً, وحين يتحمل الجميعُ الهمّ, ويتعود عليه الكافّة, ويُكسر حاجز الخوف والحياء, فالأمة إلى خير. وإذا كان الله يمكِّن في الأرض لأمم, فإن من آكد الصفات لمن أرادوا أن يعلي الله شأنهم في العالمين ويرفع ذكرهم بين الأمم أجمعين, هذه المهمةَ الشريفة والرتبةَ المنيفة ( الذين إن مكناهم في الأرض اقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وامروا بالمعروف ونهوا عن المنكر)

عباد الله: الاحتساب على المنكرات إذا شاع تَميزت السنة من البدعة، وعُرف الحلال من الحرام، ونشأت الناشئة على المعروف وألفته، وابتعدت عن المنكر واشمأزت منه.

وإذا تعطلت هذه الشعيرة ودُكَّ هذا الحصن وحُطِّم هذا السياج فعلى معالم الإسلام السلام، وويلٌ يومئذٍ للفضيلة من الرذيلة، وويلٌ لأهل الحق من المبطلين وويلٌ للصالحين من سفه الجاهلين، وتطاول الفاسقين)

الاحتساب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مهمة يقوم بها الكرام من النساء والرجال, وهَمٌّ تترجمه الأقوال والأفعال, له فضيلة وفي تركه وبال.

ففي فضله (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) وفي الحديث "وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة"

وفي عقوبة تركه «والّذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، أو ليوشكنّ اللّه أن يبعث عليكم عقابا منه ثمّ تدعونه فلا يستجاب لكم»

وأبو بكر ط قال " إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ < يَقُولُ: «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ,وَفِي لَفْظٍ: إِذَا رَأَوُا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ , أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْ عِنْدِهِ»

معشر الكرام: الاحتساب على المنكر حين يُرى يتعلق بكل من رأى, ولم يكن ذلك الأمر يوماً من الأيام منوطاً بفئة معينة, أو أناس لا يجوز لغيرهم أن ينكر, فمن كان مؤمناً فواجبه أن يأمر وينهى, فاقرأ في القرآن في صفة أهل الإيمان (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) وفي صفة أهل النفاق (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ..) بل ولا تتحقق الخيرية في الأمة حتى تقوم بالأمر (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر)

وبهذا تعلم أن كل مؤمن فهو محتسبٌ آمر بالمعروف أو هكذا ينبغي أن يكون, يأمر في أي مكان, وينكر كل منكر يطلع عليه, ولا يحال بينه وبين مجال, المحتسبُ ساعٍ في صلاح الأرض وإزالة أسباب سخط الله, لا تشترط له بطاقة, ولا يحول بينه وبين الاحتساب إلا ظالمٌ أو محبٌ لإشاعة المنكر.

ومع هذا فعلى المحتسب التحلي بأدب الاحتساب؛ الرفق والحلمِ والعلمِ, وأن يكون رائدُه حبُ أن يطاع الله, وكراهةُ أن يُعصى مولاه, وقصدُهُ إزالة منكرٍ وإشاعة المعروف.عباد الله: طريق الاحتساب طريقٌ لابد معه من الصبر, فلا احتساب بلا صبر (وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك).

وفي زمن تَقَلُّب مفاهيم البعض ربما وجدت من يرى الاحتساب تعدياً على الحريات, ومكدراً لصفو الاجتماعات والاحتفالات, ومن سكت وداهن قيل هذا المتفهم, وليس هذا بجديد على من قلّ دينه, بل هو تلبيس الشيطان من قديم الزمان, قال ابن النحاس: وألقى الشيطان في قلوب الناس أنه لا يُطالَبُ أحدٌ بغير عمله يوم الدين, وصار إنكار المنكر زلةً عند العامة لا تُقال, ومزلةً لا يثبت عليها إلا أرجلُ الرجال, فمن أنكر قيل ما أكثر فضوله, ومن داهن قيل ما أحسن عشرته المعقولة, فعمت الخطوب العظائم, إذ لم يبق من لا تأخذه في الله لومة لائم.

وقال الإمام أحمد: صار المؤمن بين الناس معزولاً، لأن المنافق يصمت عن المنكر وأهله فيصفه الناس بالكياسة، والبعدِ عن الفضول، ويسمون المؤمن فضولياً.

عباد الله: تركُ الاحتساب وإبقاءُ المنكرات على وضعها بدون نكير من المؤمن نذير شؤم يحل بالعامة, وقد ذم الله قوماً ولعنهم, وحين ذكر سبب ذلك لم يذكر إلا (كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ) قال الزمخشري معلقاً: فيا حسرةً على المسلمين في إعراضهم عن باب التناهي عن المناكير، وقلة عبئهم به، وكأنه ليس من مِلَّة الإِسلام في شيء، مع ما يتلون من كلام الله، وما فيه من المبالغات في هذا الباب .

عباد الله: استفحال المنكر, واتساعُ الشرّ, وتركنا لإنكاره والاحتسابِ على تغييره, وانشغالنا عنه بدنيانا ليس نذير خير, وأسوأ الناس حالاً من إذا استقامت له تجارته أو دنياه لم يبال بالمنكرات تحلّ, قال ابن القيم: وأيُّ دِينٍ وأي خيرٍ فيمن يرى محارم الله تُنتهك وحدوده تُضيَّع ودينه يُتْرك، وسُنَّة رسول الله، r، يُرغب عنها، وهو بارد القلب ! ساكت اللسان ثم قال: وهل بَليَّة الدِّين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياستهم فلا مبالاة ما جرى على الدين, وخيارهم المتحزن المتلمظ، ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله : بَذَلَ وتَبَذَّل، وجدَّ واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه .

لذا يا مبارك: كل منكر يحلّ في العباد والبلاد ينبغي أن يحرك فيك جذوة الاحتساب, والسعي في محاربة المنكر ومناصحة أهله, بالحكمة والموعظة الحسنة, نعم أنت, وإن لم تكن شيخاً أو مسؤولاً, أو وجيهاً, فلكل قومٍ محيطهم, وعليهم واجبٌ تجاهه, ودع عنك تخذيل الشيطان, وتثبيط البعض, فالتغيير أمره إلى الله, لكن الذي إليك الإنكارُ والأمر والنهي, فقم بدورك, وسل ربك أن يبارك جهدك, ويصلح الحال.

اللهم صل وسلم على محمدالخطبة الثانية:الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده

عباد الله: إننا حين نتكلم عن الاحتساب فإننا نعني به كل منكر في كل مجال, كل فسادٍ أخلاقي أو ديني أو مالي أو إداري يخالف شرع الله هو منكر, ينبغي على القادر أن يحتسب عليه, ورب امريء يفتح له في الاحتساب في مجالٍ ولا يقدر في غيره.

ويبقى القول عباد الله: بأن الأرض والبلاد حين تشيع فيها المنكرات فإن الجميع مطالبٌ بدوره في الاحتساب وسدّ خرق السفينة وأول ما تبدأ به هو نفسُك؛ حين تردعها عن المنكر وتفارقه, وما أدراك فربما حُرِم الناس خيراً بذنوبك أنت.

واعطف بعد ذلك على منكرات المجتمع.

فالإنكار باللسان لا يعجز عنه كل ذي لسان لا يخاف من إنكاره أذى الناس والسلطان, وكم من كلمةٍ من محتسب وجدت قلباً مفتوحاً فرد الله بها منكراً وهدى ضالاً وأطفأ معصية والإنكار بالقلم, ومكاتبة صاحب المنكر, والتواصل معه بالخطى والزيارة, وسيلة آتت أكلها, وتدلت ثمارهافإن عجزت باليد واللسان, وأُعييت بعدما تحريت الإصلاح غاية الإمكان, فيبقى الانكار بالقلب والجنان, عملٌ لا تعجز عنه وهو أضعف الإيمان, ومعه مفارقة أماكن المنكر والعصيان .

وليس بصادقٍ في إنكاره ولا بجادٍّ في احتسابه بقلبه من يخالط أهل المعاصي ويغشى مجالسهم برغبته, ثم هو يدّعي الإنكار بقلبه, فالمؤمن الحقّ لا يحتمل أن يرى العصيان

وبعد أيها الكرام: فإننا ونحن نستمطر رب الأرض والسماء علينا قبل ذلك أن نجتنب أسباب سخطه . وإن بقاء المصلحين في الأرض سببٌ لردّ الله الهلاك عن الأمم ( وما كان ربك مهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ) فكن محتسباً على منكرٍ تراه في بيتك أو حيِّك, أو عملك أو بلدك, أو كن معيناً للمحتسبين وذابّاً عن أعراضهم, ولا تكن الثالثة فتهلك, وإننا نقول لكل امريء مشى في طريق الاحتساب أبشر بالأجر, واثبت على الطريق, وصابر واحتمل, فربما كان الفاجر جلِداً, وحينها لا ينبغي للمؤمن أن يكون ضعيفاً.

ولقد قال صالح عليه السلام حين رأى عقوبة قومه وقد تولى عنهم (يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين)

إنها رسالة لنا جميعاً, أن نفرح بالناصح, أن نفتح آذاننا لناصحٍ لنا في ديننا أو دنيانا, رسالةٌ لمديرٍ ومسؤول يأتيه الناصحون يخوفونه ويوجهونه, أن يفتح الأبواب والآذان للناصح, فما أفلح من أوصد الأبواب.

ورسالةٌ لنا جميعاً أن نتواصى بالبرّ والتقوى, ونتواصى بالحق والصبر, فمن أراد النصيحة فليوطن نفسه لاحتمال الأذى, وليعلم أنه لا أحد فوق النصيحة, لا جارَ ولا مدير ولا مسؤولَ ولا أمير, فالمؤمنون نصحة, والمنافقون غششة, لا خير فينا إن لم ننصح, ولا خير فينا إن لم نقبلاللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه

اللهم اعصمنا وأهلنا وبلادنا من المنكرات ما ظهر منها وما بطن

المرفقات

صمام-أمان-المجتمع

وظيفة-المجتمع

وظيفة-المجتمع

المشاهدات 1608 | التعليقات 0