الاجتماع ونبذ الفرقة من قوانين الإسلام في بناء الدولة والحضارة
الأستاذ الدكتور عدنان خطاطبة
1439/04/05 - 2017/12/23 00:11AM
خطبة الاجتماع ونبذ الفرقة من قوانين الإسلام في بناء الدولة والحضارة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
أيها المسلمون:
الإسلام شَرْعُ اللهِ لعبادِه، ودين الخالق للمخلوق، الإسلام خاتم الأديان السابقة، الإسلام خالد ببقاء الحياة على الأرض، الإسلام جعله الله تعالى منهج حياة، ودليل عمارة الكون، وبناء الأمة، وقيام الدولة، وصناعة الحضارة، كل ذلك تحقيقا لعبوديته سبحانه وتعالى التي وسعت الفعل الإنساني كله، وشملت مسارات الحياة أجمعها. فالإسلام دين قد قال الله تعالى في وصفه: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)(المائدة،3).
أيها المسلمون:
ينبغي علينا أن نفقه ديننا العظيم، فهذا الإسلام هو منهج حياة، ليس دينا كنسيا مطلقا، فالكنسية جعلت من دين الله الذي أنزله الله على عيسى عليه السلام، دينا قاصرا على قدّاس يمارسه النصراني داخل الكنيسة، ثم لا دور بعد ذلك للنصرانية في حياته الخاصة وحياة مجتمعه. وهذا ما لا يقبله الإسلام أبدا. فالإسلام دين جاء ليبني علاقات الإنسان كلها مع غيره وينظمها ويحكمها، سواء مع الخالق أم مع المخلوق. وجاء ليبني شخصية الفرد وشخصية الأمة والمجتمع، وجاء ليقيم دولة ويبني حضارة.
نعم، أيها المسلمون: هذا ما يؤكده فقه القرآن وفقه السنة وواقع السيرة وتاريخ الأمة. أن الإسلام جاء يبني دولة وبصنع حضارة. وجعل لذلك الأسباب المادية والمعنوية. ومن بين أحد أهم هذه الأسباب والمقومات في جود الدولة وبناء الحضارة والأمة التي أقرّها الإسلام وحدّدها ورسمها وفصّلها وجعلها قانونا إنسانيا واجتماعيا: هو الاعتصام والاتحاد والاجتماع ونبذ الفرقة والخلافات والشقاقات والنزاعات. فالاجتماع كما يراه الإسلام هو سِرّ قوة الدولة والأمة والأسرة والعائلة، والفرقة سوسة خرابها وداء ضعفها ومعول هدمها. فلا عجب إذن من أنّ هذا الإسلام العظيم قد حثّ وطالب بقوة باجتماع الكلمة، وحذر وزجر عن تفرّق الكلمة.
أيها المسلمون:
تأملوا معي خطاب الله تعالى لعباده، للأمة المسلمة، للمؤمنين، في كتابه العظيم، لتجد أن الله تعالى قد طالب المسلمين مطالبة صريحة واضحة واجبة في ضرورة اجتماعهم وبقائهم متحدين متآلفين معتصمين متفقين، ونهاهم أشد النهي، وحذرهم أقوى التحذير من الافتراق والتنازع والتنافر والتضادّ، فقال سبحانه لهذه الأمة مخاطبا إياهم جميعا ومطالبا إياهم بالاعتصام والاجتماع في أربع آيات: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)(آل عمران، 103)، وقال تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) (النساء،175)، وقال تعالى: (فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)(الحج،78)، وقال تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) (النساء،146). فالله هنا، يضع للأمة وللمسلمين الطريق الصحيح لبناء دولتهم ومجتمعاتهم وجماعاتهم وأمتهم وحضارتهم، فيبين لهم أن الاتحاد والاجتماع والاعتصام من المقومات الأساسية لتحقيق ذلك. يقول السعدي في تفسير الآية الكريمة: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا): "وهو الاجتماع والاعتصام بدين الله، وكون دعوى المؤمنين واحدة مؤتلفين غير مختلفين، فإن في اجتماع المسلمين على دينهم، وائتلاف قلوبهم يصلح دينهم وتصلح دنياهم وبالاجتماع يتمكنون من كل أمر من الأمور، ويحصل لهم من المصالح التي تتوقف على الائتلاف ما لا يمكن عدها، من التعاون على البر والتقوى، كما أن بالافتراق والتعادي يختل نظامهم وتنقطع روابطهم ويصير كل واحد يعمل ويسعى في شهوة نفسه، ولو أدى إلى الضرر العام".
أيها المسلمون:
هذا هو منهج الإسلام العظيم في تقوية تماسك المجتمع والدولة والأمة، يقوم على أركان ثلاثة، هي: المطالبة بالاجتماع، والتحذير من الافتراق، وتحديد صراط الله ليكون هو الحبل الذي يجمعهم والرباط الذي يرتبطون ويتماسكون على أساسه.
نعم، لقد بين الله تعالى لهذه الأمة، ولعباده المؤمنين به، أن ما يجمع كلمتهم ويعصمهم من التفرّق ويمنعهم من التنازع واستقواء الآخرين عليهم، هو بأن يتبعوا صراط الله المستقيم، ويبتعدوا ويحذروا من الطرق الأخرى التي تخالفه، فهي سُبُل شتّى، ومذاهب باطله، وبدع ضالة، وأفكار منحرفة، مهما بدى منها ظاهريا بريق أو لمعان، فهي ضلالة. ولطالما شهد تاريخ الأمة وواقعها أمثلة كثيرة عليه، كما في نزغات وضلالات الخوارج والشيعة والعلمانيين والقوميين، يقول سبحانه: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾. فسبيل الله هو الإسلام الحق، هو الكتاب والسنة، هو المنهج النبوي ومنهج الصحابة، والسبل كل ما خالفه من الضلالات والبدع والأفكار العلمانية والمادية والباطنية والإباحية. ولكل منها دعاتها وأباطرتها ورؤوسها، يدعون إليها وينافحون عنها باطلا وزورا وبهتانا.
أيها المسلمون:
لقد يبن الله لعباده المسلمين في القرآن الكريم أن التنازع بينهم، والاختلاف والتفرق له عواقبه الوخيمة، ليس فقط على الفرد، بل على المجتمع بأسرة وعلى كيان الدولة واستقرارها، وعلى هيبة الأمة، فقال تعالى في قانون الافتراق وآثاره السلبية: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)(الأنفال،46). فهناك نتيجتان حتميتان للتنازع والافتراق واتباع السبل المضطربة وترك سبيل الله، هما: النتيجة الأولى: الفشل، والنتيجة الثانية: الضعف. فمتى ما حدث الافتراق في الجبهة الداخلية للدولة وللأمة وللمجتمع بدأ الفشل يلحق بكياناتها وعلى كل المستويات، فشل في القوة الاجتماعية، وفشل في الإنتاج، وفشل التقدّم، وفشل في جمع الكلمة على الرأي الصواب. وظهر الضعف أمام الآخرين، وأمام الجبهة الخارجية، فيبدو المجتمع وتبدوا الدولة والأمة كيان هزيل في أعين الأمم الأخرى، ويذهب بهاؤها وهيبتها وردْعها، مما يجعلها لقمة سائغة للأعداء. فهلا عقلنا هذه القوانين الحياتية الإلهية التي جاء بها الإسلام لعظيم، وهو يصنع الحضارة، ويقيم المجتمع، حيث يرسم لنا معالم القوة ويحذرنا من معاول الهدم. يقول محمد رشيد رضا في تفسير قوله تعالى (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ): "إِنَّ الِاخْتِلَافَ وَالتَّنَازُعَ مَدْعَاةُ الْفَشَلِ، وَهُوَ الْخَيْبَةُ وَالنُّكُولُ عَنْ إِمْضَاءِ الْأَمْرِ، وَأَكْثَرُ أَسْبَابِهِ الضَّعْفُ وَالْجُبْنُ، وَلِذَلِكَ فَسَّرُوهُ هُنَا بِهِمَا، وَأَصْلُ التَّنَازُعِ كَالْمُنَازَعَةِ الْمُشَارَكَةُ فِي النَّزْعِ، مِنْ نَزَعَ إِلَى الشَّيْءِ نُزُوعًا إِذَا مَالَ إِلَيْهِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ فِي الْأَمْرِ يَمِيلُ إِلَى غَيْرِ مَا يَمِيلُ إِلَيْهِ الْآخَرُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) فَمَعْنَاهُ تَذْهَبُ قُوَّتُكُمْ، وَتَرْتَخِي أَعْصَابُ شِدَّتِكُمْ فَيَظْهَرُ عَدُوُّكُمْ عَلَيْكُمْ. وَالرِّيحُ فِي اللُّغَةِ الْهَوَاءُ الْمُتَحَرِّكُ، وَتُسْتَعَارُ لِلْقُوَّةِ وَالْغَلَبَةِ إِذْ لَا يُوجَدُ فِي الْأَجْسَامِ أَقْوَى مِنْهَا، فَإِنَّهَا تُهَيِّجُ الْبِحَارَ، وَتَقْتَلِعُ أَكْبَرَ الْأَشْجَارِ، وَتَهْدِمُ الدُّورَ وَالْقِلَاعَ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ وَغَيْرُهُ: تُسْتَعَارُ لِلدَّوْلَةِ، لِشَبَهِهَا بِهَا فِي نُفُوذِ أَمْرِهَا".
أيها المسلمون:
وهنا حينما نقرأ قول الله تعالى لنا: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) نستذكر قوله تعالى لنا: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ)(الأنفال،60). فمن القوة المطالبين بإعدادها قوة الكلمة وقوة الاجتماع وقوة الاعتصام وقوة الجبهة الداخلية وقوة التآلف والتكافل والاتباع والاتحاد. ويالها من قوة عظيمة يصعب على الأعداء اختراقها وهدمها. بل تزرع الهيبة والردع في نفوسها.
أيها المسلمون:
ولما كان دعاة الافتراق والتنازع يحدِثون الضرر الأكيد في مجتمعاتهم وأمتهم أمر الله تعالى بالبراءة من هؤلاء ومن طرقهم ومذاهبهم، فقال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ)(الأنعام،159). قال السعدي: "يتوعد تعالى الذين فرقوا دينهم، أي: شتتوه وتفرقوا فيه، وكلٌّ أخذ لنفسه نصيبا من الأسماء التي لا تفيد الإنسان في دينه شيئا، كاليهودية والنصرانية والمجوسية. أو لا يكمل بها إيمانه، بأن يأخذ من الشريعة شيئا ويجعله دينه، ويدع مثله، أو ما هو أولى منه، كما هو حال أهل الفرقة من أهل البدع والضلال والمفرقين للأمة. ودلت الآية الكريمة أن الدين يأمر بالاجتماع والائتلاف، وينهى عن التفرق والاختلاف في أهل الدين، وفي سائر مسائله الأصولية والفروعية. وأمره أن يتبرأ ممن فرقوا دينهم فقال: (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) أي لست منهم وليسوا منك، لأنهم خالفوك وعاندوك"
أيها المسلمون:
هذه القوانين الإلهية والسنن الربانية والمنهج الإسلامي العظيم في بناء المجتمع والدولة والأمة على قاعدة الاتفاق والوحدة والتآلف والاجتماع والاعتصام بمنهج الله وصراطه المستقيم ولالتفاف حول الكتاب والسنة، هو ما جاء واضحا في السنة النبوية، حيث دعت إليه نظريا وطبقته عمليا، فقام كيان الأمة والمجتمع والدولة والجماعة على أكمل وجه وأحسنه وأتّمه.
أيها المسلمون:
لقد حذر منهج السنة من الافتراق والشقاق والنزاع في المجتمع المسلم وكيان الدولة المسلمة والأمة المسلمة، لما لذلك من تداعيات خطيرة على وحدته وقوته ومسيرته،ففي سُنن أبي داود عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى أَوْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفَرَّقَتِ النَّصَارَى عَلَى إِحْدَى أَوْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِى عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ). أبو داود. وفي سنن ابن ماجة عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ (افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، فَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فَإِحْدَى وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَتَفْتَرِقَنَّ أُمَّتِي عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ هُمْ؟ قَالَ: الْجَمَاعَةُ). وفي رواية عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(وتفترق أمّتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة قالوا ومن هي يا رسول الله قال ما أنا عليه وأصحابي). وقد صحح العلماء حديث الافتراق، وفَصّل ذلك الشيخ سلمان العودة في تخريجه والحكم عليه في كتابه سلسة الغرباء. فهذا الحديث يحذر الأمة تحذيرا شديدا من أن تكون مثل غيرها من الأمم والدول السابقة التي أصابها داء التفرق، ففتك بوحدتها ونسيجها الاجتماعي. وبين لها أنه حال حدوث الافتراق فإن المعيار للنجاة هو في أن تبقى متمسكة بالمنهج النبوي ونهج الصحابة.
أيها المسلمون:
يوصي النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بأن لا يتشتتوا قدر الإمكان وفي جميع الأحوال، فإن التشتت من حظّ الشيطان فيهم، وهو ينزغ بينهم دوما ليتفرقوا ويتنازعوا، فإن الشيطان يستولي على المسلم حينما يكون منفردا أكثر منه حينما يكون مجتمعا مع أخيه، فكيف إذا كان هذا على مستوى الأسرة والعشيرة والجماعة والدولة والأمة. فكما في الحديث الحسن في سنن أبي داود، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ ثَلاَثَةٍ فِى قَرْيَةٍ وَلاَ بَدْوٍ لاَ تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلاَةُ إِلاَّ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ، فَعَلَيْكَ بِالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ الْقَاصِيَةَ). وقال عمر رضي الله عنه: (عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد). من هنا، عليك أن تعلم أيها المسلم أن الله تعالى يحب اجتماعنا وألفتنا ويكره تفرقنا وتنازعنا، فكما في صحيح مسلم، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاَثًا وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلاَثًا، فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ).
أيها المسلمون:
لقد كان المنهج النبوي واقعا عمليا في الحرص على وحدة المجتمع المدني ومنع حدوث الافتراق في داخله ليبقى أمام الآخرين مجتمعا نبويا قويا متراصا يدا واحدة، فتكون له شوكته وقوته، من هنا، حرص النبي صلى الله عليه وسلم على المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ليظهروا أمام الناس قوة واحدة يواجهون الأعداء المحيطين بهم. فكانت هذه الوحدة تقوية لروابط الأخوة والإيمان، والتكافل، والتعاضد، والاقتصاد، والاجتماع على مواجهة الأعداء.
أيها المسلمون:
لقد حرص النبيّ صلى الله عليه وسلم على معالجة كلّ بذور الشّقاق والنزاع التي قد تنخر في المجتمع المسلم، ومنع توسعها، وزجر الداعين لها. ولذلك استمعوا معي إلى هذا الموقف العملي وكيف عالجه المنهج النبوي، ففي الصحيحين، من حديث جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قال: كُنَّا فِي غَزَاةٍ فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ، وَقَالَ المُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، فَسَمَّعَهَا اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَا هَذَا؟) فَقَالُوا كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ، وَقَالَ المُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ).
أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
أيها المسلمون:
كما حرص المنهج النبوي على بيان آثار الفرقة السلبية وأثر الاجتماع الإيجابي، في معالجته لحالات الفرقة الاجتماعية والأسرية والعائلية والمجتمعية المتنوعة، فكما في الحديث الصحيح في سنن ابن ماجة، عن وَحْشِيٍّ، أَنَّهُمْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا نَأْكُلُ، وَلاَ نَشْبَعُ، قَالَ: (فَلَعَلَّكُمْ تَأْكُلُونَ مُتَفَرِّقِينَ؟) قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: (فَاجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ، يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ). فالوحدة والاجتماع سبب لتحل بركات الله تعالى في الأسرة والجماعة، والتنازع سبب لتسلب تلك البركات.
أيها المسلمون:
هذا هو الإسلام في الدعوة للاجتماع والتآلف، وفي التحذير من الفرقة والتنازع، لتبقى الأسرة المسلمة والمجتمع المسلم والدولة المسلمة والأمة المسلم في وضعية تحافظ فيها على قوتها ومظهرها وصورتها الحضارية القوية اجتماعيا واقتصاديا وعسكريا وإيمانيا ودعويا وأخلاقيا. فالله الله في التوحد حول حبل الله وصراط الله ومنهج الله، والحذر الحذر من كل أسباب التفرق عن سبيل الله. ففيها الوهن والضياع والضلال. وما خسرت الأمة شيئا كما خسرت وحدتها. وما تمكن منها العدو يوما إلا حينما دبّ فيها داء الأمم السابقة من التناحر والاختلاف والتفرق.
اللهم اجعل أعمالنا صالحة ولوجهك خالصة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
أيها المسلمون:
الإسلام شَرْعُ اللهِ لعبادِه، ودين الخالق للمخلوق، الإسلام خاتم الأديان السابقة، الإسلام خالد ببقاء الحياة على الأرض، الإسلام جعله الله تعالى منهج حياة، ودليل عمارة الكون، وبناء الأمة، وقيام الدولة، وصناعة الحضارة، كل ذلك تحقيقا لعبوديته سبحانه وتعالى التي وسعت الفعل الإنساني كله، وشملت مسارات الحياة أجمعها. فالإسلام دين قد قال الله تعالى في وصفه: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)(المائدة،3).
أيها المسلمون:
ينبغي علينا أن نفقه ديننا العظيم، فهذا الإسلام هو منهج حياة، ليس دينا كنسيا مطلقا، فالكنسية جعلت من دين الله الذي أنزله الله على عيسى عليه السلام، دينا قاصرا على قدّاس يمارسه النصراني داخل الكنيسة، ثم لا دور بعد ذلك للنصرانية في حياته الخاصة وحياة مجتمعه. وهذا ما لا يقبله الإسلام أبدا. فالإسلام دين جاء ليبني علاقات الإنسان كلها مع غيره وينظمها ويحكمها، سواء مع الخالق أم مع المخلوق. وجاء ليبني شخصية الفرد وشخصية الأمة والمجتمع، وجاء ليقيم دولة ويبني حضارة.
نعم، أيها المسلمون: هذا ما يؤكده فقه القرآن وفقه السنة وواقع السيرة وتاريخ الأمة. أن الإسلام جاء يبني دولة وبصنع حضارة. وجعل لذلك الأسباب المادية والمعنوية. ومن بين أحد أهم هذه الأسباب والمقومات في جود الدولة وبناء الحضارة والأمة التي أقرّها الإسلام وحدّدها ورسمها وفصّلها وجعلها قانونا إنسانيا واجتماعيا: هو الاعتصام والاتحاد والاجتماع ونبذ الفرقة والخلافات والشقاقات والنزاعات. فالاجتماع كما يراه الإسلام هو سِرّ قوة الدولة والأمة والأسرة والعائلة، والفرقة سوسة خرابها وداء ضعفها ومعول هدمها. فلا عجب إذن من أنّ هذا الإسلام العظيم قد حثّ وطالب بقوة باجتماع الكلمة، وحذر وزجر عن تفرّق الكلمة.
أيها المسلمون:
تأملوا معي خطاب الله تعالى لعباده، للأمة المسلمة، للمؤمنين، في كتابه العظيم، لتجد أن الله تعالى قد طالب المسلمين مطالبة صريحة واضحة واجبة في ضرورة اجتماعهم وبقائهم متحدين متآلفين معتصمين متفقين، ونهاهم أشد النهي، وحذرهم أقوى التحذير من الافتراق والتنازع والتنافر والتضادّ، فقال سبحانه لهذه الأمة مخاطبا إياهم جميعا ومطالبا إياهم بالاعتصام والاجتماع في أربع آيات: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)(آل عمران، 103)، وقال تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) (النساء،175)، وقال تعالى: (فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)(الحج،78)، وقال تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) (النساء،146). فالله هنا، يضع للأمة وللمسلمين الطريق الصحيح لبناء دولتهم ومجتمعاتهم وجماعاتهم وأمتهم وحضارتهم، فيبين لهم أن الاتحاد والاجتماع والاعتصام من المقومات الأساسية لتحقيق ذلك. يقول السعدي في تفسير الآية الكريمة: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا): "وهو الاجتماع والاعتصام بدين الله، وكون دعوى المؤمنين واحدة مؤتلفين غير مختلفين، فإن في اجتماع المسلمين على دينهم، وائتلاف قلوبهم يصلح دينهم وتصلح دنياهم وبالاجتماع يتمكنون من كل أمر من الأمور، ويحصل لهم من المصالح التي تتوقف على الائتلاف ما لا يمكن عدها، من التعاون على البر والتقوى، كما أن بالافتراق والتعادي يختل نظامهم وتنقطع روابطهم ويصير كل واحد يعمل ويسعى في شهوة نفسه، ولو أدى إلى الضرر العام".
أيها المسلمون:
هذا هو منهج الإسلام العظيم في تقوية تماسك المجتمع والدولة والأمة، يقوم على أركان ثلاثة، هي: المطالبة بالاجتماع، والتحذير من الافتراق، وتحديد صراط الله ليكون هو الحبل الذي يجمعهم والرباط الذي يرتبطون ويتماسكون على أساسه.
نعم، لقد بين الله تعالى لهذه الأمة، ولعباده المؤمنين به، أن ما يجمع كلمتهم ويعصمهم من التفرّق ويمنعهم من التنازع واستقواء الآخرين عليهم، هو بأن يتبعوا صراط الله المستقيم، ويبتعدوا ويحذروا من الطرق الأخرى التي تخالفه، فهي سُبُل شتّى، ومذاهب باطله، وبدع ضالة، وأفكار منحرفة، مهما بدى منها ظاهريا بريق أو لمعان، فهي ضلالة. ولطالما شهد تاريخ الأمة وواقعها أمثلة كثيرة عليه، كما في نزغات وضلالات الخوارج والشيعة والعلمانيين والقوميين، يقول سبحانه: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾. فسبيل الله هو الإسلام الحق، هو الكتاب والسنة، هو المنهج النبوي ومنهج الصحابة، والسبل كل ما خالفه من الضلالات والبدع والأفكار العلمانية والمادية والباطنية والإباحية. ولكل منها دعاتها وأباطرتها ورؤوسها، يدعون إليها وينافحون عنها باطلا وزورا وبهتانا.
أيها المسلمون:
لقد يبن الله لعباده المسلمين في القرآن الكريم أن التنازع بينهم، والاختلاف والتفرق له عواقبه الوخيمة، ليس فقط على الفرد، بل على المجتمع بأسرة وعلى كيان الدولة واستقرارها، وعلى هيبة الأمة، فقال تعالى في قانون الافتراق وآثاره السلبية: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)(الأنفال،46). فهناك نتيجتان حتميتان للتنازع والافتراق واتباع السبل المضطربة وترك سبيل الله، هما: النتيجة الأولى: الفشل، والنتيجة الثانية: الضعف. فمتى ما حدث الافتراق في الجبهة الداخلية للدولة وللأمة وللمجتمع بدأ الفشل يلحق بكياناتها وعلى كل المستويات، فشل في القوة الاجتماعية، وفشل في الإنتاج، وفشل التقدّم، وفشل في جمع الكلمة على الرأي الصواب. وظهر الضعف أمام الآخرين، وأمام الجبهة الخارجية، فيبدو المجتمع وتبدوا الدولة والأمة كيان هزيل في أعين الأمم الأخرى، ويذهب بهاؤها وهيبتها وردْعها، مما يجعلها لقمة سائغة للأعداء. فهلا عقلنا هذه القوانين الحياتية الإلهية التي جاء بها الإسلام لعظيم، وهو يصنع الحضارة، ويقيم المجتمع، حيث يرسم لنا معالم القوة ويحذرنا من معاول الهدم. يقول محمد رشيد رضا في تفسير قوله تعالى (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ): "إِنَّ الِاخْتِلَافَ وَالتَّنَازُعَ مَدْعَاةُ الْفَشَلِ، وَهُوَ الْخَيْبَةُ وَالنُّكُولُ عَنْ إِمْضَاءِ الْأَمْرِ، وَأَكْثَرُ أَسْبَابِهِ الضَّعْفُ وَالْجُبْنُ، وَلِذَلِكَ فَسَّرُوهُ هُنَا بِهِمَا، وَأَصْلُ التَّنَازُعِ كَالْمُنَازَعَةِ الْمُشَارَكَةُ فِي النَّزْعِ، مِنْ نَزَعَ إِلَى الشَّيْءِ نُزُوعًا إِذَا مَالَ إِلَيْهِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ فِي الْأَمْرِ يَمِيلُ إِلَى غَيْرِ مَا يَمِيلُ إِلَيْهِ الْآخَرُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) فَمَعْنَاهُ تَذْهَبُ قُوَّتُكُمْ، وَتَرْتَخِي أَعْصَابُ شِدَّتِكُمْ فَيَظْهَرُ عَدُوُّكُمْ عَلَيْكُمْ. وَالرِّيحُ فِي اللُّغَةِ الْهَوَاءُ الْمُتَحَرِّكُ، وَتُسْتَعَارُ لِلْقُوَّةِ وَالْغَلَبَةِ إِذْ لَا يُوجَدُ فِي الْأَجْسَامِ أَقْوَى مِنْهَا، فَإِنَّهَا تُهَيِّجُ الْبِحَارَ، وَتَقْتَلِعُ أَكْبَرَ الْأَشْجَارِ، وَتَهْدِمُ الدُّورَ وَالْقِلَاعَ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ وَغَيْرُهُ: تُسْتَعَارُ لِلدَّوْلَةِ، لِشَبَهِهَا بِهَا فِي نُفُوذِ أَمْرِهَا".
أيها المسلمون:
وهنا حينما نقرأ قول الله تعالى لنا: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) نستذكر قوله تعالى لنا: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ)(الأنفال،60). فمن القوة المطالبين بإعدادها قوة الكلمة وقوة الاجتماع وقوة الاعتصام وقوة الجبهة الداخلية وقوة التآلف والتكافل والاتباع والاتحاد. ويالها من قوة عظيمة يصعب على الأعداء اختراقها وهدمها. بل تزرع الهيبة والردع في نفوسها.
أيها المسلمون:
ولما كان دعاة الافتراق والتنازع يحدِثون الضرر الأكيد في مجتمعاتهم وأمتهم أمر الله تعالى بالبراءة من هؤلاء ومن طرقهم ومذاهبهم، فقال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ)(الأنعام،159). قال السعدي: "يتوعد تعالى الذين فرقوا دينهم، أي: شتتوه وتفرقوا فيه، وكلٌّ أخذ لنفسه نصيبا من الأسماء التي لا تفيد الإنسان في دينه شيئا، كاليهودية والنصرانية والمجوسية. أو لا يكمل بها إيمانه، بأن يأخذ من الشريعة شيئا ويجعله دينه، ويدع مثله، أو ما هو أولى منه، كما هو حال أهل الفرقة من أهل البدع والضلال والمفرقين للأمة. ودلت الآية الكريمة أن الدين يأمر بالاجتماع والائتلاف، وينهى عن التفرق والاختلاف في أهل الدين، وفي سائر مسائله الأصولية والفروعية. وأمره أن يتبرأ ممن فرقوا دينهم فقال: (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) أي لست منهم وليسوا منك، لأنهم خالفوك وعاندوك"
أيها المسلمون:
هذه القوانين الإلهية والسنن الربانية والمنهج الإسلامي العظيم في بناء المجتمع والدولة والأمة على قاعدة الاتفاق والوحدة والتآلف والاجتماع والاعتصام بمنهج الله وصراطه المستقيم ولالتفاف حول الكتاب والسنة، هو ما جاء واضحا في السنة النبوية، حيث دعت إليه نظريا وطبقته عمليا، فقام كيان الأمة والمجتمع والدولة والجماعة على أكمل وجه وأحسنه وأتّمه.
أيها المسلمون:
لقد حذر منهج السنة من الافتراق والشقاق والنزاع في المجتمع المسلم وكيان الدولة المسلمة والأمة المسلمة، لما لذلك من تداعيات خطيرة على وحدته وقوته ومسيرته،ففي سُنن أبي داود عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى أَوْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفَرَّقَتِ النَّصَارَى عَلَى إِحْدَى أَوْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِى عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ). أبو داود. وفي سنن ابن ماجة عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ (افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، فَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فَإِحْدَى وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَتَفْتَرِقَنَّ أُمَّتِي عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ هُمْ؟ قَالَ: الْجَمَاعَةُ). وفي رواية عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(وتفترق أمّتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة قالوا ومن هي يا رسول الله قال ما أنا عليه وأصحابي). وقد صحح العلماء حديث الافتراق، وفَصّل ذلك الشيخ سلمان العودة في تخريجه والحكم عليه في كتابه سلسة الغرباء. فهذا الحديث يحذر الأمة تحذيرا شديدا من أن تكون مثل غيرها من الأمم والدول السابقة التي أصابها داء التفرق، ففتك بوحدتها ونسيجها الاجتماعي. وبين لها أنه حال حدوث الافتراق فإن المعيار للنجاة هو في أن تبقى متمسكة بالمنهج النبوي ونهج الصحابة.
أيها المسلمون:
يوصي النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بأن لا يتشتتوا قدر الإمكان وفي جميع الأحوال، فإن التشتت من حظّ الشيطان فيهم، وهو ينزغ بينهم دوما ليتفرقوا ويتنازعوا، فإن الشيطان يستولي على المسلم حينما يكون منفردا أكثر منه حينما يكون مجتمعا مع أخيه، فكيف إذا كان هذا على مستوى الأسرة والعشيرة والجماعة والدولة والأمة. فكما في الحديث الحسن في سنن أبي داود، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ ثَلاَثَةٍ فِى قَرْيَةٍ وَلاَ بَدْوٍ لاَ تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلاَةُ إِلاَّ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ، فَعَلَيْكَ بِالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ الْقَاصِيَةَ). وقال عمر رضي الله عنه: (عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد). من هنا، عليك أن تعلم أيها المسلم أن الله تعالى يحب اجتماعنا وألفتنا ويكره تفرقنا وتنازعنا، فكما في صحيح مسلم، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاَثًا وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلاَثًا، فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ).
أيها المسلمون:
لقد كان المنهج النبوي واقعا عمليا في الحرص على وحدة المجتمع المدني ومنع حدوث الافتراق في داخله ليبقى أمام الآخرين مجتمعا نبويا قويا متراصا يدا واحدة، فتكون له شوكته وقوته، من هنا، حرص النبي صلى الله عليه وسلم على المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ليظهروا أمام الناس قوة واحدة يواجهون الأعداء المحيطين بهم. فكانت هذه الوحدة تقوية لروابط الأخوة والإيمان، والتكافل، والتعاضد، والاقتصاد، والاجتماع على مواجهة الأعداء.
أيها المسلمون:
لقد حرص النبيّ صلى الله عليه وسلم على معالجة كلّ بذور الشّقاق والنزاع التي قد تنخر في المجتمع المسلم، ومنع توسعها، وزجر الداعين لها. ولذلك استمعوا معي إلى هذا الموقف العملي وكيف عالجه المنهج النبوي، ففي الصحيحين، من حديث جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قال: كُنَّا فِي غَزَاةٍ فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ، وَقَالَ المُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، فَسَمَّعَهَا اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَا هَذَا؟) فَقَالُوا كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ، وَقَالَ المُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ).
أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
أيها المسلمون:
كما حرص المنهج النبوي على بيان آثار الفرقة السلبية وأثر الاجتماع الإيجابي، في معالجته لحالات الفرقة الاجتماعية والأسرية والعائلية والمجتمعية المتنوعة، فكما في الحديث الصحيح في سنن ابن ماجة، عن وَحْشِيٍّ، أَنَّهُمْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا نَأْكُلُ، وَلاَ نَشْبَعُ، قَالَ: (فَلَعَلَّكُمْ تَأْكُلُونَ مُتَفَرِّقِينَ؟) قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: (فَاجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ، يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ). فالوحدة والاجتماع سبب لتحل بركات الله تعالى في الأسرة والجماعة، والتنازع سبب لتسلب تلك البركات.
أيها المسلمون:
هذا هو الإسلام في الدعوة للاجتماع والتآلف، وفي التحذير من الفرقة والتنازع، لتبقى الأسرة المسلمة والمجتمع المسلم والدولة المسلمة والأمة المسلم في وضعية تحافظ فيها على قوتها ومظهرها وصورتها الحضارية القوية اجتماعيا واقتصاديا وعسكريا وإيمانيا ودعويا وأخلاقيا. فالله الله في التوحد حول حبل الله وصراط الله ومنهج الله، والحذر الحذر من كل أسباب التفرق عن سبيل الله. ففيها الوهن والضياع والضلال. وما خسرت الأمة شيئا كما خسرت وحدتها. وما تمكن منها العدو يوما إلا حينما دبّ فيها داء الأمم السابقة من التناحر والاختلاف والتفرق.
اللهم اجعل أعمالنا صالحة ولوجهك خالصة
المرفقات
ونبذ-الفرقة-قانون-الإسلام-في-بناء-الأم
ونبذ-الفرقة-قانون-الإسلام-في-بناء-الأم